تمهيد
علاقة الحبشة بالعرب
الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة
الخاتمة
تمهيد
علاقة الحبشة بالعرب
الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة
الخاتمة
الإسلام في الحبشة
الإسلام في الحبشة
وثائق صحيحة قيمة عن أحوال المسلمين في مملكة إثيوبيا من شروق شمس الإسلام إلى هذه
الأيام
تأليف
يوسف أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الآنام، الذي جاء بالهدى ودين الحق، فأنار بنور هديه غياهب الظلام، وحل بشريعته عقدة التباغض بين الخلق، وأحل محلها المحبة والوئام، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الكرام، الذين أقاموا العدل وحكموا به، فكانوا للفضيلة خير أئمة، وللهداية نعم الأعلام، فقضوا بفضل قضائهم على الشرور والآثام، ونشروا بالخير على البسيطة أجنحة السلام.
رضي الله عنهم وأرضاهم ما توالت الأيام.
أما بعد، فإنا نغتنم فرصة عطف الشعوب الإسلامية، في مختلف الأقطار، على مساعدة الحبشة، فنبين لهم حال الإسلام والمسلمين في الحبشة، من وقت أن هاجر إليها طائفة من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هربا من ظلم قريش، إلى هذه الأيام؛ علهم بعد أن يقرءوا هذه الوثائق الصحيحة، يطالبون «النجاشي» العاهل الشرقي العظيم «جلالة هيلاسلاسي» تلقاء هذا العطف العام، بأن يتوجه بعد أن تضع الحرب أوزارها، إلى إصلاح شئون المسلمين في بلاده، وإلى كف الأذى عنهم، وأن يتركهم يتمتعون بثمرة قوتهم ونشاطهم وذكائهم، وأن يماثل بينهم وبين أبناء الحبشة المسيحيين في العدل، فيفك عن أعناق المسلمين ما وضعه فيها أسلافه من أغلال الضغط على حريتهم في الدين والتجارة والصناعة والزراعة، وأن يمنع عدوان الروس الجبابرة عن أموالهم - إلا بحق - وأن يصون أرواحهم وأعراضهم، فإنه إن فعل ذلك سما بمملكته الشرقية أدبيا واقتصاديا، وسلم من نقد الناقدين وألسنة الناقمين، ولا نخاله إلا فاعلا ذلك إن شاء الله تعالى.
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد
قام بعض الكتاب يذكر المسلمين بما للحبشة عليهم من حق قديم، أوجبه عليه ما فعلوه مع المسلمين المهاجرين من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حينما هاجروا إلى الحبشة هربا من أذى كفار مكة، فأجارهم النجاشي وأحسن مثواهم.
وقالوا: إن ما فعلته الحبشة مع المهاجرين يعد مكرمة خالدة لا يجب أن تنسى.
ونحن وإن كنا ممن يحفظون الجميل ويخضعون للحق، إلا أننا أحببنا أن نبين للمسلمين ارتباط الحبشة بالإسلام - قديما وحديثا - على الوجه الصحيح؛ ليعرفوا ما لهم وما عليهم نحوها، حتى يكونوا على بينة من الأمر، وليدركوا بأن عطفهم على الحبشة لم يكن ردا لجميل سابق لها على الإسلام، بل لأنها دولة شرقية تحاربها دولة غربية.
وإن شئت فقل: لأن الإنسان جبل بطبعه على الانتصار للضعيف.
ويصح أن يكون هذا هو السبب الأقوى؛ لأنه يشترك معنا في العطف عليها كثير من الناس، على اختلاف أديانهم وتباين أوطانهم.
وحسبك ما فعلته «جمعية عصبة الأمم» من العطف الجدي على الحبشة، وإن كان بعضه مشابا بشيء من المصلحة الخاصة.
أما إيواء الصحابة المهاجرين وإكرامهم، فالفضل فيه يرجع إلى شخص واحد من الحبشة فقط، وهو «النجاشي أصحمة»،
1
فقد كان رجلا عالما بالتوراة والإنجيل، مصدقا بالبشارة براكب الجمل.
فلما جاءه المهاجرون أكرم مثواهم وحماهم من الشعب الحبشي وبطارقته.
ثم أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وحسن إسلامه، ولم يعتنق الإسلام من الحبشة يومئذ سواه، وقد ستر إسلامه عن قومه حتى مات، وهذا ما دعى مؤرخي الإفرنج إلى عدم اقتناعهم بأنه أسلم.
وقد نعي للنبي
صلى الله عليه وسلم
فصلى عليه صلاة الغائب، ولم يصل عليه أحد في الحبشة؛ لأن موته كان بعد عودة المهاجرين كلهم إلى المدينة.
أما البطارقة - من قسيسين ورهبان - فقد لحق المهاجرين منهم من الأذى والتخويف ما لحقهم، كما هو ثابت في كتب الحديث والسير، مما كان بعضه سببا في ارتداد أحد المهاجرين عن الإسلام، وهو «عبيد الله بن جحش»، وقد اعتنق النصرانية لينجو بها من الاضطهاد.
وقد همت البطارقة بإحداث ثورة على النجاشي لعطفه على المهاجرين كما ستراه مفصلا فيما بعد.
ثم لا يخفى على المؤرخ المدقق أن عداوة الشعب الحبشي للعرب قديمة العهد، نشأت من وقت أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة، ويبيعونهم أرقاء في جزيرة العرب وغيرها.
وزادت هذه العداوة بعد عام الفيل، وما جره من الويل على جنود الحبشة، واستعانة العرب بعد ذلك بالفرس على طرد الحبشة من اليمن، بعد أن استعمروها نحو 70 سنة.
فلما دخل العرب المسلمون بعد ذلك إلى الحبشة يدعونهم إلى الإسلام، وجدوا منهم أعداء ألداء.
ثم دار بينهم النضال من القرن الأول الهجري إلى يومنا هذا، مما سنوضحه جليا في هذا الكتاب بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه.
علاقة الحبشة بالعرب
ترجع علاقة الحبشة بالعرب إلى عصر عريق في القدم، يبتدئ من وقت أن عرف العرب حاجتهم إلى الرقيق؛ ليرعى إبلهم ويحلب نياقهم ويقوم بخدمتهم.
وقد كانت سفن اليمن تسطو على سواحل الحبشة، تتخطف نساءهم وأبناءهم، وتبيعهم عبيدا في أنحاء جزيرة العرب وغيرها.
ودلنا على ذلك قدم عهد العبيد والإماء الأحباش في بلاد العرب، يتخذون من الرجال رعاة، ومن الإماء خدما للبيوت.
وكانوا إذا استولدوا أمة أبقوا أولادها على الرق، إلا من ظهرت نجابته وشجاعته منهم، فإنهم كانوا يلحقونه بأنسابهم، كخفاف بن ندبة أبوه «عمير السلمي»، وعنترة بن زبيبة أبوه «شداد العبسي»، وغيرهما ممن اشتهروا بالفروسية في القرن الأول قبل الهجرة.
1
فإذا عرفت ذلك أدركت كيف نشأت عداوة الحبشة من القدم لقوم يسطون عليهم بين آونة وأخرى؛ يخطفون أبناءهم ونساءهم، ثم يبيعونهم سلعا ويسترقونهم.
احتلال الحبشة لليمن
ذكر مؤرخو العرب خبر احتلال الحبشة لليمن بروايات مطولة، خلاصتها أن أحد ملوك اليمن واسمه «ذو نواس» كان يهوديا، وكان يحمل الناس على اعتناق اليهودية.
وكان أهل نجران نصارى وفيهم قليل من اليهود، فجاء إلى ذي نواس يهودي يتظلم من نصارى نجران، ويزعم أنهم قتلوا ابنا له.
فغضب ذو نواس وغزاهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وحمل من بقي منهم على الدخول في اليهودية، فأبوا.
فصنع لهم أخدودا في الأرض وملأه نارا ثم عرضهم عليه، فمن دخل في اليهودية خلى سبيله، ومن أبى ألقاه في الأخدود، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم بقوله:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود .
2
فأفلت منهم رجل يدعى «ذو ثعلبان» حتى أتى «قيصر» ملك الروم يستنصره على ذي نواس، فأرسله إلى ملك الحبشة، وكتب إليه يأمره بنصرته.
فأرسل ملك الحبشة معه جيشا بقيادة رجل اسمه «أرياط»، فدخل اليمن واحتلها باسم «النجاشي» ملك الحبشة بعد أن قتل وسبى وخرب البلاد، فولاه «النجاشي» ما ضمه إليه من أرض اليمن.
وكان عسكره رجل داهية يسمى «أبرهة الأشرم»، نازعه الملك ثم اقتتلا، فقتله أبرهة واستقل بالأمر، فأقره «النجاشي» على ملك اليمن.
وهكذا استنجدت العرب بالحبشة على رفع ظلم نالها من عاهلها، فاحتلت بلادها، فكانت كما قال الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
لأن أبرهة حينما تم له الأمر، بنى في «صنعاء» كنيسة سماها القليس، وكتب إلى «النجاشي»: «إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها، وسأصرف إليها حاج العرب.»
وكانت العرب في جاهليتها تحج إلى البيت العتيق بمكة، وشاع بينهم ما عزم عليه «أبرهة»، فجاء رجل من «بني فقيم» فدخل القليس وأحدث فيه نكاية في «أبرهة».
فبلغ أبرهة ذلك، فأقسم ليهدمن البيت الذي تحج إليه العرب.
ثم جهز جيشا من الحبشة، وسار في مقدمته راكبا الفيل حتى بلغ «الطائف»، فأرسلت معه «ثقيف» دليلا اسمه «أبو رغال» يدله على «مكة»، فسار حتى إذا بلغ مكانا بقرب مكة يدعى «المغمس»؛ هلك أبو رغال، والعرب ترجم قبره فيه إلى الآن.
أما أبرهة فأقام في «المغمس»، وأرسل نفرا من جيشه فاستاقوا إبل مكة، وفيهم مائتا بعير لعبد المطلب سيد قريش.
ثم إن أبرهة استقدم عبد المطلب إليه، وهو جد النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلا عظيما وسيما، فأجله أبرهة وأخبره أنه جاء ليهدم البيت، وأنه لا يريد حربا.
ثم سأل عبد المطلب عن حاجته، فقال: «حاجتي أن ترد إلي إبلي.»
قال أبرهة: «أتطلب إبلك وتترك بيتا لدينك ودين آبائك؟»
فقال: «أنا رب الإبل، وللبيت رب يمنعه.»
فرد عليه إبله، وذهب عبد المطلب إلى مكة وأمر قريشا أن تعتصم بشعاب الجبال.
ثم أمسك بحلقة باب الكعبة، يسأل الله قهر الحبشة وخذلانهم وهو يقول:
لاهم إن المرء يم
نع رحله فامنع رحالك
إلى أن قال:
جروا جموع بلادهم
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع
بتنا فأمر ما بدا لك
ثم لحق بقومه إلى شعب الجبال، ينظر ما يفعله أبرهة.
أما أبرهة، فلما أصبح تهيأ لدخول مكة بجيشه ليهدم البيت، وركب فيله ووجهه إلى مكة، فبرك ولم يقم فضربوه وآذوه فلم يقم، فوجهه إلى ناحية أخرى فقام، فأداروه نحو مكة فبرك.
في هذه الساعة الرهيبة، أرسل الله على أبرهة وجيشه جيشا من جنوده
وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر .
3
وهذا الجيش طيور صغيرة جاءت تحمل حجارة دقيقة في أرجلها ومناقيرها، وألقتها على أبرهة وجيشه، فكانت لا تصيب أحدا إلا أهلكته.
فارتد أبرهة ومن معه يتساقطون هلكى.
وفي قصتهم نزلت «سورة الفيل» وهي قوله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
فلما هلك أبرهة ومن معه من الحبشة، قام بملك اليمن بعده ابنه «يكسوم» وكان جبارا، فأذل العرب وأذاقهم أمر أنواع الظلم في اليمن انتقاما لأبيه وقومه.
فذهب سيف بن ذي يزن إلى «كسرى» واستنصره على الحبشة، وحسن له ضم اليمن إلى ملكه لما فيها من خير، فأرسل معه جيشا قويا تمكن من سحق من في اليمن من الحبشة واحتلها، وسبى ما بقي من نسائهم وأولادهم، فازداد بهذا حقد الحبشة على العرب؛ لأنهم كانوا سبب إجلائهم عن اليمن بعد أن احتلوها نحو 70 سنة، مع إبادة رجالهم واسترقاق نسائهم وذراريهم.
هجرة الصحابة إلى الحبشة وما لاقوه فيها من كرم «النجاشي» وأذى البطارقة
إن ما جبل عليه أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم
من مكارم الأخلاق وحفظ الجميل واحتمال الأذى في بدء الإسلام، جعلهم يذكرون ما نالهم من «النجاشي» من كرم وحسن جوار، ويكتمون ما لحقهم من بطارقة الحبشة من الأذى والتهديد والتخويف.
ولهذا لم ينشر المسلمون عن ذلك شيئا، ولم يخوضوا فيه، ولكن الحقيقة لا تخفى على الباحث المدقق.
وسترى بعد أن نسرد حديث الهجرة إلى الحبشة ملخصا من كتب السير والحديث، أن إقامة الصحابة الطاهرين - رضوان الله عليهم - في الحبشة في هجرتهم كانت محفوفة بالمكاره.
ولولا «النجاشي أصحمة» وقوة سلطانه لأكرهوا على الدخول في النصرانية أو القتل، أو أعيدوا إلى «مكة» لكفار قريش يفعلون بهم ما يشاءون.
الهجرة الأولى
لما رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
ما لحق أصحابه الذين أسلموا من قومه وأقاربه من الأذى والتعذيب، أشار عليهم بالهجرة من مكة إلى الحبشة، وقال لهم: إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه.
4
فخرج من المسلمين أحد عشر رجلا وأربع نساء، وعبروا البحر الأحمر إلى الحبشة، واستجاروا بالنجاشي فأجارهم، وعلم منهم ببعثة النبي
صلى الله عليه وسلم
فأكرم مثواهم، وذلك في السنة الخامسة من النبوة.
أما البطارقة
5
من قومه، فكانوا شديدي التعصب لدينهم، فعز عليهم أن تقام في مدينتهم المسيحية شعائر دين آخر،
6
فأخذوا يهددون المهاجرين ويحرضونهم على التنصر، فثبت الله المسلمين على إيمانهم، إلا واحدا، وهو «عبيد الله بن جحش»، فإنه لضعف إسلامه ارتد تحت عوامل الضغط، ودخل في دين النصرانية، فلما تنصر كلفه البطارقة بأن يحرض المسلمين على التنصر، فكان إذا مر بالمسلمين من أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم
يقول: «فتحنا وصأصأتم.» أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر.
7
فهال النجاشي هذا الأمر، وأحاط المهاجرين بسور من عنايته، ومنع البطارقة من التعرض لهم.
فثار البطارقة عليه وكادوا يخلعونه، ولولا أن الله نصره عليهم لأفسدوا عليه أمره.
8
وخشي المسلمون عاقبة هذه الثورة، وأشيع أن قريشا أجابت دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
وأسلمت، فأحب المهاجرون اغتنام فرصة السلامة، فعاد أكثرهم إلى «مكة»، وكان مكثهم في الحبشة في هذه الهجرة نحو ثلاثة أشهر، فلما قدموا إلى «مكة» وجدوا عنت قريش يزداد، كما ازداد عدد المسلمين أيضا، فعادوا إلى الحبشة ثانية كما سيأتي.
الهجرة الثانية
ولما كانت قريش لا تكف عن أذى المسلمين، اجتمع عدد كبير ممن أسلموا يبلغ 80 رجلا، عدا النساء والأطفال، وقصدوا الحبشة ثانية، فرحب بهم النجاشي، وأسكنهم مجتمعين ليقيموا شعائر دينهم، وأسلم هو على يد جعفر بن أبي طالب؛ لأنه كان مع المهاجرين في هذه المرة.
هنالك خشي كفار قريش أن يكون هذا العدد من المهاجرين قوة للتبشير بالإسلام في الحبشة، وأنهم إذا تم لهم ذلك عادوا بجيش من الحبشة كبير لحربهم ونصرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن غزوة الحبشة لليمن ولمكة لا تزال عالقة بأذهانهم، فضلا عن أن جيش الحبشة إذا جاء هذه المرة يكون لنصرة دين الله، فلا يصده الله عن «مكة»، كما صد جيش أبرهة الذي كان يقصد هدم بيته وأهلكه.
وفي رواية أخرى أن قريشا أرادت إرجاعهم إلى مكة ليقتلوهم بقتلى واقعة بدر.
فجمعت قريش هدايا نفيسة لتقدم إلى النجاشي، وهدايا أخرى لتقدم إلى البطارقة، وأرسلوها مع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وأفهموهما أن يتفقا مع البطارقة على أن يساعدوهما في رد المهاجرين إلى قومهم.
فلما قدما إلى الحبشة قدما الهدايا إلى البطارقة، وأخبراهم بما وفدا من أجله، وطلبا إليهم أن يحولوا بين المهاجرين وبين النجاشي حتى لا يسمع كلامهم؛ لئلا يتأثر بفصاحتهم، وحسن ما يسمع من كلامهم.
ثم قدما إليهم الهدايا التي للنجاشي، فأوصلها البطارقة إليه.
فاستدعى عمرا وعبد الله وشكرهما، وسألهما عن حاجتهما، فقال عمرو: «أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلا بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.»
فلما سكت تكلم البطارقة، وحاولوا إقناع النجاشي بوجوب ردهم إلى قومهم، وإبعادهم عن بلاده، ووجدوا بقدوم عمرو وعبد الله فرصة ثمينة تريحهم من هؤلاء الضيوف الذين يدينون بغير دينهم.
ولما كان النجاشي كما علمت قد أسلم وكتم إسلامه عن أصحابه، وكان في قدرته أن يرد وفد قريش بدون أن يسمع حجة المهاجرين، ولكنه أراد أن يسمع أصحابه دعوة الإسلام؛ رغبة منه في أن تلين قلوب بعضهم إليه.
لذلك أبى أن يبت في الأمر قبل أن يسمع كلام المهاجرين، وهم الخصم الثاني.
9
ولذلك طلب المهاجرين، فلما حضروا مجلسه قال لهم: «ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من الملل؟»
10
فتكلم جعفر بن أبي طالب، يصف له فضائل الإسلام، وكان خطيب القوم وأشدهم جرأة، وقال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ...»
وعدد عليه أمور الإسلام.
ثم قال: فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالو بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
11
فصدقهم «النجاشي» وأمنهم، وأبى أن يسلمهم إلى عمرو ورفيقه.
فاختلى عمرو بالبطارقة، وقال لهم: سأغدو على «النجاشي» بما يدعوه إلى إبعادهم عن بلادكم، فإنهم يقولون في «عيسى بن مريم» غير ما تقولون، فكونوا معي وشدوا أزري. فوعدوه خيرا.
ثم غدا إلى «النجاشي» وقال له: إن هؤلاء يقولون في المسيح غير ما عندكم فيه.
فأحضر المهاجرين وقال لجعفر: هل معك مما جاء به نبيك عن الله من شيء فتقرؤه علي؟ فقال: نعم. وتلا عليه من أول سورة مريم إلى قوله تعالى:
ويوم أبعث حيا .
فلما سمع البطارقة هذا القول، وعلموا أنه جاء مصدقا لما في الإنجيل أخذوا، فقال «النجاشي»: إن هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة.
ثم أخذ عودا من الأرض، وقال لجعفر: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود.
فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم.
12
وقال لعمرو ورفيقه: انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما. ورد عليهما الهدايا، وقال للمهاجرين: اذهبوا، فأنتم آمنون.
13
فأقام المسلمون في جواره رغم إرادة البطارقة، حتى بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
في طلبهم، فعادوا إلى المدينة، فتكون مدة إقامتهم بأرض الحبشة نحو 16 سنة، وذلك في سنة 8ه/629م.
كيف كانت البطارقة تؤذي المهاجرين
روى البخاري في صحيحه، عن عائشة - رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: «إن أولئك، إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك أشرار الخلق عند الله يوم القيامة.»
فنعلم من هذا أن البطارقة كانوا يحرضون المسلمين والمسلمات على دخول كنائسهم؛ ليحملوهم على اعتناق النصرانية، وكانت نتيجة ذلك ارتداد «عبيد الله بن جحش»، وهل يوجد أذى أكبر من هذا الأذى للمسلمين، أليس هو من نوع الأذى الذي هاجروا من مكة بسببه؟
وأكبر من هذا ما صرحت به السيدة الجليلة «أسماء بنت عميس» - رضي الله عنها - وكانت في الحبشة مع زوجها «جعفر بن أبي طالب» - رضي الله عنه - فقد أبانت ما كان يلحق المهاجرين من الأذى والتخويف في الحبشة، وقد أثبته صاحب «التاج» من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - نقلا عن «البخاري» و«مسلم» قال: «إن أسماء بنت عميس حين جاءت من الحبشة، دخلت على السيدة «حفصة» أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - تزورها، فدخل عمر فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه (أي التي ركبت البحر وهاجرت إلى الحبشة). قالت أسماء: نعم.
فقال عمر: سبقناكم بالهجرة (أي بالهجرة إلى المدينة مع رسول الله)، فنحن أحق برسول الله منكم.
فغضبت، وقالت: كذبت يا عمر، كلا، والله كنتم مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء (أي البعداء في النسب، البغضاء في الدين) في الحبشة، وذلك في الله ورسوله، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك.
فلما جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
قلت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان.»
14
فانظر كيف قالت: «كنا نؤذى ونخاف» وأقسمت على صدقها، وانظر كيف عد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هجرتهم إلى الحبشة هجرة مستقلة لهم ثوابها، وهجرتهم بعد ذلك إلى المدينة هجرة ثانية.
وما ذاك إلا لما كان يلحقهم في الحبشة من أذى البطارقة وأصحابهم.
هذا، وإذا تصورنا موقف أولئك المهاجرين الأخيار حين دعاهم «النجاشي» إلى مجلسه المرة بعد المرة، وقد رأوا عمرا وعبد الله رسولي كفار قريش أتيا لأخذهم، وسمعوا البطارقة يحرضون «النجاشي» على تسليمهم لعدوهم.
وأسمعنا دقات قلوب المهاجرات الطاهرات فرقا من أن يسمح «النجاشي» بردهن إلى قومهن، يسومونهن سوء العذاب، لهلعت قلوبنا جزعا من هول ذلك الموقف المريع.
فأي حق بعد ذلك للحبشة على المسلمين المهاجرين حتى نذكره لهم؟ وهم لم يكرموهم ولم يتعففوا عن أذاهم.
وايم الحق لولا «النجاشي» المسلم ما استطاعوا أن يعيشوا في الحبشة يوما واحدا.»
الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة
انتهى بما تقدم كلامنا عن علاقة الحبشة بالعرب في الجاهلية، وما حدث في هجرة بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الحبشة وعودتهم منها جميعا إلى المدينة، بدون أن يتركوا للإسلام أي أثر فيها.
ونحن ذاكرون بعون الله حال الإسلام في الحبشة، من بعد الهجرة إلى هذه الأيام.
أول سرية إسلامية للحبشة
أراد أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» - رضي الله عنه - أن يعجم عود الحبشة لينشر فيها الدعوة الإسلامية، فوجه سرية من المسلمين في سنة 20ه بقيادة «علقمة بن مجزز المدلجي»، فلم توفق إلى شيء وأصيبت، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحدا للغزو.
1
احتلال السواحل الحبشية اقتصاديا
تركت الحبشة وشأنها بعد سرية «علقمة»، ولم يرسل إليها المسلمون حملات للفتح بقوة السيف، ولكن أخذوا في احتلالها اقتصاديا، فتدفق سيل التجار المسلمين على سواحل الحبشة واستوطنوها، وجعلوا يحتلونها شيئا فشيئا، فأخذوا جزيرة «دهلك» ثم «مصوعا» و«الزيلع»،
2
ودأبوا على ذلك حتى أصبحت جميع سواحل الحبشة في قبضة يدهم، وأدخلوا في الإسلام كثيرا من القبائل الوثنية.
مناعة بلاد الحبشة
كانت مملكة الحبشة قبل الإسلام وقاعدتها مدينة «أكسوم» على جانب عظيم من القوة والسطوة، قوية الشكيمة، وحسبنا دليلا على قوتها تمكنها من احتلال اليمن مدة 70 سنة تقريبا.
وقد زاد في سطوتها مناعة أرضها، وما وهبها الله - سبحانه وتعالى - من الحواجز الطبيعية التي تجعلها بعيدة المنال عن الفاتحين.
فإن تلك الجنة الفيحاء التي تشمل الهضبة الحبشية محصنة بطبيعتها بجبال شاهقة، وأودية سحيقة، ومسالك وعرة، وصحار قاحلة، وأجواء مختلفة.
من أجل ذلك لم يحاول الخلفاء الراشدون، ولا من جاء بعدهم من ملوك الإسلام فتحها عنوة، في الوقت الذي اكتسحت فيه جنودهم بلاد الشام والعراق ومصر، وجاوزت بلاد فارس.
ولكن شاء الله أن ينشر فيها دينه عن طريق السلم.
انتشار الإسلام في الحبشة
إننا وإن كنا لا نستطيع أن نذكر بالتفصيل كيف كان احتلال المسلمين لسواحل الحبشة سلما بغير حرب، وجعلها إسلامية، ونشرهم فيها الدين الحنيف بين القبائل المتوحشة، حتى مصروهم وأوجدوا منهم جنودا أشداء كونوا بهم قوة مسلمة ذات شأن، على جانب عظيم من مكارم الأخلاق والصفات؛ إلا أننا نستطيع أن نبرهن على قيام دولة إسلامية عظيمة في الحبشة، نشرت سلطانها يوما ما على جميع أرجائها زمنا غير قليل.
كيف وأين نشأت أول دولة إسلامية في الحبشة
كان ممن نزل الحبشة مع التجار الذين نزحوا إليها من اليمن والحجاز جماعة من قريش، من ولد «عقيل بن أبي طالب»، وسكنوا في ناحية تسمى «جبرت»
3
من أراضي «زيلع»، وسموا بعد ذلك «الجبرتية»، ولا يزال هذا الاسم لشعب كبير من المسلمين في الحبشة كما سيأتي.
ولما وهب الله قريشا من الحزم والحكمة وعلو الهمة، ولأنهم أهل الشرف والسيادة أينما حلوا؛ قام هؤلاء الأبطال بإنشاء أول دولة إسلامية في الحبشة، وجعلوا قاعدتها «وفات» وهي «جبرت»، ونظموا إدارتها وأحكموا أمرها، فأطاعهم أهلها، وأخذ سلطانهم يقوى ونفوذهم يمتد وملكهم يتسع، وكلما كونوا مملكة مهدوا السبيل لتكوين غيرها، حتى إذا دخل القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي تم لهم في الحبشة «سبع ممالك» زاهرة مزدهرة، وسميت «الطراز الإسلامي»؛ لأنها كانت كالطراز على سواحل الحبشة، وهي: (1)
مملكة وفات. (2)
مملكة دوارو. (3)
مملكة أرابيني. (4)
مملكة هديا. (5)
مملكة شرحا. (6)
مملكة بالي. (7)
مملكة داره.
وكانت هذه الممالك كلها ذات مساجد وجوامع تقام فيها الجمعة والجماعة، وكانت البلاد على جانب عظيم من الخير والرخاء، وجميعها متجاورة ما عدا «داره»، فإن أرضها داخلة في نفس نواحي «أمحرا» التي كانت قاعدة مملكة الحبشة وقتئذ.
وقد ذكر العلامة «القلقشندي» في كتابه «صبح الأعشى» هذه الممالك، ووصف بعضها، وتكلم عن عدد عساكرها من فارس وراجل، ناقلا عن «مسالك الأبصار» لمؤلفه «شهاب الدين العمري».
قال عن «وفات» والعامة تسميها «أوفات»، ويقال لها أيضا «جبرت»، والنسبة إليها «جبرتي»، وهي أكبر مدن الحبشة على نشز من الأرض، وعمارتها متفرقة، ودار الملك فيها على «تل» والقلعة على «تل»، ولها واد فيه نهر صغير، وتمطر في الليل غالبا مطرا كثيرا.
وهي عامرة آهلة بقرى متصلة، وهي أقرب أخواتها إلى الديار المصرية وإلى السواحل المسامتة لليمن.
وهي أوسع الممالك السبع أرضا، وعسكرها 15 ألفا من الفرسان، ويتبعهم 20 ألفا من الرجالة.
4
ا.ه.
أقول: وفات واقعة شرقي هضبة «شوى»، وهي أول مملكة إسلامية قامت في الحبشة.
وقد ذكر العلامة «الشوكاني» في كتابه «البدر الطالع» ترجمة لسلطانها محمد بن أبي البركات بن أحمد بن علي بن محمد بن عمر الجبرتي، ونعته بسلطان المسلمين بالحبشة، وقال: إنه تولى ملكها سنة 828ه/1425م، ومات في سنة 835ه/1432م في إحدى غزواته.
وقال: كان دينا عاقلا عادلا خيرا وقورا مهابا، ذا سطوة على الحبشة، أعز الله الإسلام في أيامه.
ثم قال: وملك بعده أخوه، فاقتفى أثره في غزواته وشدته.
وكان يصحب الفقهاء والعلماء والصلحاء، وينشر العدل في أعماله، حتى في ولده وأهله، وأسلم على يديه خلائق من الحبشة.
5
ا.ه. ملخصا.
وقال القلقشندي عن مملكة «دوارو» إنها تلي «وفات»، وهي صغيرة وضيقة، ومع ضيقها فإنها ذات عسكر جم نظير عسكر أوفات.
6
ا.ه.
أقول: وتسمى أيضا «أدال»، وقد فاقت «وفات» قوة وعظمة، وموقعها شرقي «هرر»، ولها قاعدة تسمى «دكر».
وقال القلقشندي عن «هديا»: هي جنوبي «وفات» وتلي «أرابيني»، وصاحبها أقوى إخوانه، من ملوك هذه الممالك السبعة، وأكثر خيلا ورجالا وأشد بأسا، على ضيق بلاده عن مقدار «أوفات».
7
ا.ه.
وقال عن مملكة «بالي» التي تقع في جنوب «شوى»، ويقطنها الآن قبائل «غالا أروسي»: إنها مدينة تلي «شرحا»، ولكنها أكثر خصبا، وأطيب سكنا، وأبرد هواء منها جميعا.
وقال عن «دارا»: إنها مدينة تلي «بالي»، وهي أضعف أخواتها حالا، وأقلها خيلا ورجالا، وعسكرها لا يزيد عن 2000 فارس، ورجالته كذلك.
8
ا.ه.
أقول: إن سبب ضعفها عن أخواتها هو لتداخلها في أراضي «أمحرا» بين بلاد الحبشة.
وقال القلقشندي أيضا عن ذكر معاملات وأسعار الممالك الإسلامية بالحبشة ما يأتي ملخصا: وليس بأوفات سكة تضرب، بل معاملاتهم بدنانير مصر ودراهمها الواصلة إليهم صحبة التجار.
9
ا.ه.
فمن هذه الجملة القليلة نعرف مقدار الصلة التجارية في تلك الأيام بين مصر والممالك الإسلامية بالحبشة.
الرخاء في الممالك المذكورة
وإذا أردت أن تعرف ما بلغته تلك الممالك من الرخاء، فانظر ما كتبه «القلقشندي» عن ذلك حيث قال ما ملخصه:
وأما الأسعار فكلها رخيصة، ويباع بالدرهم الواحد عندهم من الحنطة حمل بغل، والشعير لا قيمة له، وعلى هذا فقس.
10
نظام التوارث في عروش هذه الممالك
قال القلقشندي: والملك منهم في بيوت محفوظة، إلا «بالي» اليوم، فإن الملك فيها صار إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، تقرب إلى سلطان «أمحرا» حتى ولاه مملكة «بالي»، فاستقل بملكها، على أنه قد وليها من أهل بيت الملك رجال أكفاء، ولكن الأرض لله يورثها من يشاء.
قال في مسالك الأبصار: وجميع ملوك هذه الممالك، وإن توارثوها، لا يستقل منهم في ملك إلا من أقامه سلطان «أمحرا»، وإذا مات منهم ملك ومن أهله رجال، قصدوا جميعهم سلطان «أمحرا» وتقربوا إليه جهد الطاقة، فيختار منهم رجلا يوليه، فإذا ولاه سمع البقية له وأطاعوا، فهم كالنواب وأمرهم راجع إليه.
ولكن كلهم متفقون على تعظيم صاحب «أوفات» منقادون إليه.
11
غموض تاريخ الإسلام في الحبشة قبل القرن الثامن
يسوءنا مع الأسف أننا لم نوفق إلى العثور على وثائق نعتمد عليها، ونعرف منها ما كان يجري بين الحبشة والمسلمين قبل القرن الثامن، وما قاساه هؤلاء من المشاق في سبيل تكوين الممالك «السبع» التي أنشئوها، وما يدرينا، لعل هناك كتبا وآثارا عن ذلك لم يسمح الدهر بظهورها من مكمنها بعد.
ولكن المسلم به أن علاقة الحبشة بمصر لم تنقطع، وتلك العلاقة دينية مسيحية محضة؛ لأن تولية الأساقفة للكنيسة الحبشية تصدر من غبطة بطريرك الكرازة المرقسية بمصر، وذلك من وقت دخول الديانة المسيحية إلى بلاد الحبشة في أوائل القرن الرابع للميلاد على يد الأسقف «فرومنتيوس»، الذي عينه بطرك الإسكندرية أسقفا على الحبشة.
وقد عثرنا على وثيقة قليلة الكلمات كبيرة المغزى، رواها الطبري وغيره، تدل على قسوة الحبشة، وسوء جوارهم للمسلمين، وهذا نصها قال: لما قتل مروان بن محمد (آخر الخلفاء الأمويين) ببلدة «بوصير» (من أعمال جيزة مصر) في سنة 132ه/750م، هرب ولداه «عبد الله » و«عبيد الله» إلى أرض الحبشة، فلقوا من الحبشة بلاء، قاتلهم الحبشة فقتلوا «عبد الله»، وأفلت «عبيد الله» في عدة ممن معه.
12
فانظر إلى هذا الشعب الوحشي كيف يقابل ضيوفا دخلوا أرضه، يتخذون في جواره حمى وأمنا من عدوهم، فيقابلهم بالسيف، يقتل البعض ويشرد البعض الآخر.
وقد وصل إلينا أيضا عن طريق «المقتطف» كتابة طريفة، نقلا عن كتاب «لباب الآداب» للأمير «أسامة بن منقذ» ننقلها بحروفها - وإن كانت لا تتعلق بموضوع كتابنا، إلا أنها تدل على شيء من جبروت ملوك الحبشة - قال:
وصل رسول ملك الحبشة وكتابه في سنة 547ه/1152م إلى الملك العادل أبي الحسن بن علي بن السلار، فسأله أن يأمر البطرك بمصر أن يعزل بطرك الحبشة (وتلك البلاد كلها مردودة إلى نظر بطرك مصر).
فأمر الملك العادل بإحضار البطرك، فحضر وأنا عنده، فقال له: ملك الحبشة قد شكا من البطرك الذي يتولى بلاده، وسألني في التقدم إليك بعزله.
فقال: يا مولاي، ما وليته حتى اختبرته ورأيته يصلح للناموس الذي هو فيه، وما ظهر لي من أمره ما يوجب عزله، ولا يسعني في ديني أن أعمل فيه بغير الواجب، ولا يجوز أن أعزله.
فاغتاظ الملك العادل من قوله، وأمر باعتقاله، فاعتقل يومين ثم أنفذ إليه، وأنا حاضر، يقول له: لا بد من عزل هذا البطرك لأجل سؤال ملك الحبشة في ذلك. فقال: يا مولاي، ما عندي غير ما قلته لك، وحكمك وقدرتك إنما هي على الجسم الضعيف الذي بين يديك، وأما ديني فما لك عليه من سبيل. ثم قال: «والله ما أعزله ولو نالني كل مكروه.»
فأطلقه العادل واعتذر إلى ملك الحبشة. ا.ه. مختصرا.
13
نقول: إن شهادة بطرك مصر لبطرك الحبشة الذي عينه بنفسه، بأنه اختبره ووجده يصلح لما ولاه، شهادة لا يمكن أن تشاب بشيء غير الحق، فيا ترى أي شيء ينقم ملك الحبشة منه، إلا أن يكون الملك جبارا يأتي المظالم المخالفة للتعليم المسيحي والبطرك ينهاه عنها، ويرشده إلى اتباع العدل، فتوسل ملك الحبشة إلى ملك مصر في الرجاء إلى البطرك لعزله حتى يستريح من مضايقته، إذ لا سبيل له إلى مسه بسوء.
وقد عثرت في كتاب «الاعتبار» للأمير «ابن منقذ» أيضا على وثيقة نفيسة، يستدل منها على أن الحبشة كانت تشن الغارة على البلاد المصرية المجاورة لها، وتتعرض لأهلها بالسوء، وأن الملك الصالح «طلائع» أراد أن يعين «ابن منقذ» واليا على «أسوان» ويمده بالمال والرجال؛ ليتقوى على حرب الحبشة، وكان ذلك في سنة 550ه/1155م، وهذا نصها: ... ثم اتصلت بخدمة الملك العادل «نور الدين»، وكاتب الملك الصالح في تسيير أهلي وأولادي الذين تخلفوا بمصر، وكان محسنا إليهم، فرد الرسول واعتذر بأنه يخاف عليهم من الإفرنج.
وكتب إلي يقول: ترجع إلى مصر وأنت تعرف ما بيني وبينك، وإن كنت مستوحشا من أهل القصر، فتصل إلى مكة، وأنفذ لك كتابا بتسليم مدينة «أسوان» إليك، وأمدك بما تتقوى به على محاربة الحبشة، فأسوان ثغر من ثغور المسلمين، وأسير إليك أهلك وأولادك.
14
ماذا كانت تضمر الحبشة للمسلمين
كانت ملوك الحبشة تنظر إلى هذه الدويلات المسالمة بعين الحسد والحقد، لارتقائها مدنيا واقتصاديا، فضلا عما كانت تكنه من العداوة للمسلمين من قديم.
لذلك لم يحل لها ما بلغته البلاد التي احتلها المسلمون وأصلحوها من الرفاهية، كأنهم خافوا عاقبة رقيها، فأخذوا يتحينون الفرص للفتك بالمسلمين وإبادتهم واحتلال ممالكهم، وظهر ذلك جليا بما كتبه المؤرخون في القرن الثامن الهجري كما سنبينه.
الإسلام والحبشة في القرن الثامن
لما دخل القرن الثامن الهجري بدأ المؤرخون في تدوين أخبار الحبشة، وقد وضع المقريزي كتابه «الإلمام»،
15
وذكر فيه «النجاشي إسحق بن داود» الذي تولى على الحبشة سنة 812ه/1409م، فقال:
وهذا الملك قوي أمره بوفود قوم من الجراكسة إلى بلاده، أنشئوا فيها مصنعا للسلاح كالسيوف والرماح والخناجر، بعد أن كانت «الحراب والنشاب» عماد سلاحهم.
وكذلك انتظمت مالية دولته بوجود رجل قبطي من مصر ولاه أمر أموال المملكة، فأحسن ضبطها وأنماها، فعمها اليسر والرخاء.
فعند ذلك طغى «النجاشي » وبغى، واتفق مع رجال دولته على انتزاع ممالك المسلمين من أيديهم، وإجلائهم عن البلاد وإبادتهم .
قال المقريزي: فلما تحضرت دولته وقويت شوكته، سولت له شياطينه أن يأخذ ممالك الإسلام، فأوقع بمن تحت يده في مملكة الحبشة من المسلمين وقائع شنيعة طويلة، قتل فيها وسبى واسترق عالما لا يحصيه إلا خالقه سبحانه.
ثم كتب إلى ملوك الإفرنج يحثهم على ملاقاته لإزالة دولة الإسلام، وواعدهم على ذلك، وأخذ في تمهيد
16
ما بينه وبين البلاد الإسلامية، واستجلاب العربان إليه، فعاجله الله تعالى بنقمته سنة 833ه/1429-1430م. ا.ه.
فهذه شهادة مؤرخ معاصر للحوادث التي كانت تجري بين ملوك الحبشة والمسلمين، تظهر للقارئ ما جبلت عليه ملوك الحبشة وشعوبها من العداوة للمسلمين، فإنهم لم يرعوا حق جوارهم بعد أن قضوا على الوثنية في بلادهم ومصروها، وأقاموا فيها شعائر الإسلام الحنيف.
لهذا لم يجد المسلمون بعد ذلك بدا من إعداد العدة لمقاومة أعدائهم.
ولا شك في أن نهوض الإسلام في تلك البلاد كان كوسيلة لازمة لدفاع المسلمين عن أنفسهم وحريتهم، تلقاء طغيان الأحباش الذين يختلفون عنهم دينا وجنسا.
حدود الحبشة وقتئذ
حصرت المملكة الحبشية ذلك الوقت في الهضبة المرتفعة، ما بين «شوى» و«أمحره» و«تيجري»، وكان الشعب يعاني التعب والشقاء من الحكام وسوء إدارتهم.
وكان نفوذ دولة المماليك يمتد إلى شمالي الحبشة، فقام رجل اسمه «يكونه أملاك»، وأسس دولة حبشية وهي «الأسرة السليمانية»، وأخذ يشن الغارات على المسلمين في الجنوب والجنوب الشرقي.
فنهض المسلمون لدفع تعدي الأحباش وحمي وطيس الحرب بينهم، ودامت هذه الحروب الفظيعة نحو ثلاثة قرون، وبلغت أشدها في القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، حين تولى النجاشي «لبنا دنقل»
Denghel
وولده «كلاوديوس
Calâwdewos » من بعده.
وقد عانى المسلمون في أيامهما شدة عظيمة، وضعفت دولتهم التي جعلوا عاصمتها «هرر» سنة 926ه/1520م، وكادت تنهار ويقضى عليها، لولا أن قام من المسلمين شاب مقدام جسور اسمه «أحمد بن إبراهيم»، وجمع كلمة المسلمين وتولى أمرهم، حتى لقبوه «الإمام» و«الغازي» و«صاحب الفتح» لفتحه الحبشة والاستيلاء عليها.
وسماه الأحباش «جراني
Gragn » أي أعسر، فقد حمل على الحبشة حملات شديدة بمؤازرة الأتراك الذين كانت «جدة» و«اليمن » في قبضتهم.
وتوغل في البلاد حتى انتهى إلى الأقاليم الشمالية من «تيجري»، وبلغت حروبه مع الحبشة أقصى حد من الحماسة والإقدام؛ لأن المسلمين اعتبروها جهادا، وغدوا يحاربون حرب المستميت باسم الدين حتى نفدت قواهم المادية والمعنوية.
وقد وصفت هذه الوقائع التي تشيب لهولها الأطفال، في كتاب العلامة الشهاب «أحمد بن عبد القادر الجيزاني» المدعو «عرب فقيه»، والذي سماه «فتوح الحبشة».
ومن يطالع هذا الكتاب يجد فيه من ذكر أعمال «الفروسية» و«البطولة» و«هول الوقائع» التي قام بها المسلمون، ما ليس له نظير في الأخبار المتداولة عن الفتوحات الإسلامية الأولى.
وانظر ما قاله المؤلف في وصف واقعة «صمبر كوري» في بلاد شوى.
واقعة صمبر كوري
هذه الواقعة حدثت في مستهل رجب من عام 935ه، وهي إحدى سلسلة وقائع، استحر فيها القتل في المسلمين، وكادت الحبشان تقضي عليهم، حتى إن كثيرا من الجهلة الضعيفي الإيمان من المسلمين ارتدوا إلى الكفر، طلبا للنجاة من القتل والاضطهاد.
واقعة بادقي
وقد سبق واقعة «صمبر كوري» واقعة «بادقي»، كادت تذهب بجيش المسلمين لولا أن تداركهم الله بنصر من عنده، وكان المسلمون زاحفين إليها بقيادة الإمام «أحمد»، فأخلى أمامهم الجيش الحبشي الطريق، وكانوا كلما سألوا واحدا من الأهالي عن الجيش أنكر وجود أي قوة هناك، وكانت «بادقي» هذه موضع بيوت الملك وخزائنه، فسار المسلمون إليها من غير ترتيب ولا تعبئة، فلما اقتربوا منها صدمتهم عساكر الكفرة الذين أقبلوا كالجراد المنتشر، وصدوا المسلمين عن دخول القرية، وكان بين العسكرين نهر يسمى «سمرما»، فبقي المسلمون في أمكانهم إلى الصباح، ثم عبر النهر منهم طائفة، والتقت بالحبشة واشتبكوا في معركة، فوقع الرعب في قلب رجلين من المسلمين، فانهزما وانهزمت بانهزامهما جميع الفرقة، وعبرت النهر على غير هدى، فغرق منها جماعة.
عند ذلك وقف الإمام في وجه الهاربين، وصاح قائلا: «أين تفرون، أتفرون من الجنة؟ وما هو إلا أجل قد كتب .»
فقال له أحد أعوانه: «اضرب خيمتك هنا، ونحن نقاتل دونك قتال العرب.»
17
فضرب خيمته واجتمع المسلمون حوله، وثبتوا في أماكنهم ، وقد خسروا بعض رجالهم.
ثم رأى الإمام «أحمد» أن هذه البقعة ضيقة ولا تصلح للقتال، فرحل بعسكره متقهقرا، وتبعتهم عساكر الحبشة حتى لحقوا بهم عند «صمبر كوري».
فلما رأى المسلمون أن الكفار لاحقون بهم، استشار الإمام أصحاب الرأي في عسكره، فقالوا: «أما نحن، فالقتال بغيتنا ومنانا، ولا نزال نصر لهم على الضرب والطعن والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.»
ففرح بهم ودعا لهم، وباتوا يعدون العدة للصباح، فلما أصبحوا خطب فيهم الفقيه «أبو بكر» المكنى «بارشونه»، وبشرهم بالجنة وحذرهم من النار، وتلى عليهم قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
18
فعند ذلك عبأهم الإمام «أحمد» وصفهم ورتبهم، واصطفت الحبشة، فكانوا سبعة صفوف، فهابهم المسلمون لكثرة عددهم، فأقبل الإمام يثبتهم بدعائه، ويقول: «اللهم اجعل كلا منا صابرا، ولدينك ناصرا.»
ثم قال لعسكره: «اذكروا الله ولا تنظروا إليهم، وانظروا إلى الأرض، واستعينوا بالله عليهم واصبروا، والله معكم وناصركم.»
فلما اقترب الكفار منهم، كانت سحابة من فوقهم تظلهم والمسلمون في حر الشمس، فتضرع الإمام ودعا وقال في دعائه: «هؤلاء أعداء نبيك وأعداء رسلك، يأكلون رزقك ويعبدون غيرك، فتظللهم ونحن المسلمون في حر الشمس.»
فما استتم الإمام كلامه، حتى زالت تلك السحابة عن رءوس الكفرة إلى رءوس المسلمين، وإلى تعبئتهم فكانت تظللهم.
ثم حمل الكفار على المسلمين فاقتتلوا، وحمي الوطيس بينهم إلى وقت العصر.
وخطب الفقيه «أبو بكر» فيهم، وقرأ عليهم قوله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .
19
فضج المسلمون بالتهليل والتكبير، فألقى الله الرعب في قلوب الأحباش فولوا الأدبار، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون، حتى اختلط الظلام وتم النصر للإمام «أحمد» وجيشه. ا.ه .
نقول: من يتصفح هذا الكتاب النفيس، يدرك هول هذه الحروب التي كانت الحبشة تشنها على المسلمين في كل وقت وناحية ؛ ليخرجوهم من بلادهم، حتى إنهم استعانوا عليهم بالبرتغاليين الذين احتلوا جزءا من «أفريقيا الشرقية»، فأمدوهم بمدافع وجنود مدربين على استعمالها.
وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد .
20
وجاء في هذا الكتاب أيضا أن الإمام «أحمد» بقي يقاتل الحبشة بجيشه البالغ عدد رجاله عشرة آلاف مدة 12 سنة، من سنة 937 إلى سنة 950ه/1531-1543م، ثم استشهد في إحدى المعارك.
وقد خلفه ابن أخته الأمير «نور بن مجاهد» على قيادة المجاهدين وسلطنة «هرر»، فكان من خيرة القواد، وسماه المسلمون «صاحب الفتح الثاني»، وهو الذي قتل النجاشي «كلاوديوس
Galawdewos » سنة 966ه/1559م في إحدى المعارك.
وما زال قائما بالأمر حتى لقي ربه سنة 975ه/1568م.
ضعف السلطنة الإسلامية بعد ذلك
انتهى بموت الأمير «نور بن مجاهد» مجد سلطنة «هرر» الإسلامية، فعادت الحبشة إلى عنتها وإلحاق الأذى بالمسلمين، الذين عجزوا بعد تلك الحروب الطاحنة عن مقاومة تعدي الحبشة عليهم.
وزادت حالتهم تأخرا في بدء القرن الحادي عشر الهجري، حينما اخترق حدود الحبشة من جنوب نهر «وابي» شعوب «غالا» الوثنيون، فإنهم كادوا يقضون على الإسلام في تلك البلاد.
وقد انتزعوا من أيدي المسلمين مملكتي «بالي» و«هديا»، وتوغلوا في هضبة الحبشة، وجعلوا مقرهم ما بين «هرر» و«شوى» و«أمحره»، وانتشروا في بلاد كثيرة من الهضبة.
أما مسلمو شرقي الحبشة فتجمعوا في «أوسه»، واتخذوها مقرا للإمام عوضا عن «هرر».
تحرش الدولة العثمانية بالحبشة
أما في الجهة الشمالية فبقيت نار الحرب مستعرة بين المسلمين والأحباش، حتى استولى العثمانيون على «مصوع» في سنة 964ه/1557م، وبدءوا يتدخلون في شئون الحبشة، ويشدون أزر المسلمين في المقاطعة التي تسمى الآن «الإريترية».
فأثار ذلك ثائرة الحبشة، وانتهى الأمر بحرب عنيفة بينهم وبين العثمانيين سنة 986ه/1578م، كان الظفر فيها للحبشة، بقيادة النجاشي «ملاك صاجاد
Malak Sagad » الذي قضى على مطامع العثمانيين بفتح الحبشة.
تأثير الإسلام في الحبشة
إن الحملة الإسلامية التي قام بها الإمام «أحمد بن إبراهيم» ومن بعده ابن أخته الأمير «نور بن مجاهد» لم تذهب سدى، فقد كانت سببا في انتشار الإسلام في الهضبة حتى قلب الحبشة في «دمبيا» و «وكنو».
ولما قدم سفراء إمام اليمن إلى الحبشة في سنة 1058ه/1648م، وجدوا بقرب «غندار» مدينة عامرة بالمسلمين؛ لأن قسما كبيرا من قبائل «غالا» الوثنيين، الذين سكنوا الهضبة الحبشية، اعتنق الإسلام لما وجدوا فيه من الفضائل.
النجاشي المسلم
وحوالي سنة 1195ه/1780م استولت قبائل «غالا ولو» و«إيجو» على «بغمدر»
Beghemder ، وعلى قسم من «أمحره»، فأصبح رئيس «إيجو» المسلم، وهو الرأس «كوكسا» يملي إرادته على نفس «النجاشي» الحبشي.
ثم أصبح الرأس «علي» ابن أخيه ملكا على الحبشة «نجاشيا»، فكان ذلك فاتحة عهد جديد للمسلمين.
نجاشي آخر مسلم
قال صاحب رحلة الحبشة في الصفحة 150:
وقد غزا «محمد غراني» هذه البلاد وفتح القسم الكبير منها، وترك حكومتها على وشك الانقراض، ولم تتخلص من وهدة الدمار إلا بمعاونة البورتغاليين الذين عقدوا عهدا مع الحكومة الحبشية على إباحة دخول قسس الكاثوليك إلى الحبشة في نظير معاونتهم لها على المسلمين.
وقال في الصفحة 186 عن «محمد غراني» هذا ما نصه:
سألت آتو هيلا مريم عن محمد غراني المشهور بفتوحه هناك، فقال: إن هذا الرجل كان من قواد صاحب هرر قبل أربعة قرون، ثم تقوى فاستولى على كل الحبشة مدة 15 سنة، انسحب النجاشي في أثنائها إلى «غوندار»، ثم أخذت البلاد منه وأعيدت إلى أصحابها بمساعدة البورتغاليين، وإن هؤلاء هم الذين أدخلوا من ذلك العهد الأسلحة النارية إلى بلاد الحبشة لأول مرة. ا.ه.
عدو يمسي حبيبا، وجار يظل عدوا
يندهش المطلع على تاريخ الحبشة حين يعلم أن المسلمين يجاورون الحبشة من القرن الأول للهجرة، ينشرون بينهم الفضيلة ويراعون ذمتهم.
والحبشة توالي عليهم الغارات، وتسعى بكل الوسائل لإبادتهم.
وأن قبائل «غالا» الذين هم على الوثنية بعد عداوتهم للمسلمين وشن الغارات عليهم، ينقلبون أصدقاء وأخلاء فيدخلون في الإسلام، ويحفظون الولاء للمسلمين.
بقية السيف أكثر عددا
إذا فحصنا عن الحقيقة وجدنا أن جميع الحروب التي أقامتها الأحباش على المسلمين، بقصد إقصائهم عن الحبشة أو إبادتهم من الوجود، لم تكن تؤثر في تعداد المسلمين، بل بالعكس، أصبح المسلمون أكثرية عظيمة بعد أن كانوا في البلاد أقلية ضعيفة.
وقد صدق عليهم القول المشهور: «بقية السيف أكثر عددا.»
النهضة الإسلامية العلمية في الحبشة
في النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، الموافق للنصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، قامت نهضة إسلامية في البلاد الملحقة اليوم بالحبشة وما حولها من المقاطعات شرقا وجنوبا، بتأثير ما بلغته «هرر» من التقدم في العلوم الإسلامية، بفضل اتصالها باليمن والحجاز.
وقد تأثر بذلك أيضا غرب الحبشة بعد أن فتح السودان في أيام المغفور له عزيز مصر الأكبر «الحاج محمد علي باشا».
وقد بلغ التقدم الإسلامي أوج مجده أيام احتلال مصر لزيلع.
21
و«هرر»
22
في حكم المغفور له الخديو إسماعيل باشا، ذلك الاحتلال القصير الأمد من سنة 1292 إلى سنة 1302ه/1875-1884م.
وقد لحظ علماء الإفرنج وكتابهم ذلك التقدم ونوهوا به، فقد لاحظ الكاتب النمساوي «پولشكي
» الذي زار «هرر» في سنة 1302ه/1885م أن فيها عددا كبيرا من المبشرين المسلمين - يقصد الكاتب بلفظة المبشرين علماء الإسلام.
وقال حين زار «غالا» الواقعة غرب مدينة «هرر» ما ملخصه: «مما أدهشني في بلاد «غالا» كثرة الدعاية الإسلامية الغيورة فيها، وقد لاحظت أن الشافعية في «هرر» على اتصال دائم بالحرمين في جزيرة العرب، وأن المئات من الشبان يأتون «لزيلع» و«بربرة» كل سنة للتبشير (أي لنشر الدين الإسلامي)، ويتسع نطاق أعمالهم الدينية، ويتقدم بسهولة بين قبائل الصومال - وإن لم توجد فيهم روح الإسلام الصحيح كثيرا.
وقد وزعت الحكومة المصرية على المسلمين في «هرر» عندما احتلتها عددا عظيما من المصاحف الشريفة الجميلة الطبع، أكثرها مطبوع في مطبعة بولاق الأميرية، حتى إن مسلمي «شوى» حافظوا أشد المحافظة على قواعد دينهم، وكانت قوافل الحاج ترد منهم كل عام إلى «تغره» و«زيلع». ا.ه.»
وكتب الماجور «هنتر
Hunter » في رجب سنة 1301ه/أبريل سنة 1884م يقول: «إنه من المحتمل إسلام جميع القبائل، إذا دام الحكم الحاضر بضع سنوات أخرى.»
محمد رءوف باشا حاكم «هرر»
كان رءوف باشا الحاكم المصري «لهرر» قد أصلح الفاسد من أخلاق الصوماليين، واستمال قلوبهم إليه، فتعلقوا بمحبته؛ لأنه قتل أمير «هرر» المسمى «محمد عبد الشكور»، الذي اشتهر بظلمه وسوء سيرته.
ونشر الدين في «هرر» والعدل والنظام.
ومما يؤثر عنه قوله للصوماليين: «أنتم تدعون بأنكم مسلمون، ولكن الشريعة الإسلامية تنهى عن القتل، فضعوا - إذا أحببتم - ريشة النعام البيضاء على رءوسكم، ولكن ضعوها بعد أن تكونوا أتيتم عمل الجندي الباسل في قتال قانوني، لا بعد أن تكونوا ارتكبتم جريمة القتل بالاغتيال والخديعة.»
23
تعدي الأحباش على «هرر» الإسلامية
بعد أن أخلى المصريون إمارة «هرر»، وانسحبت منها حاميتهم المصرية في رجب سنة 1292ه/أبريل سنة 1875م، أعيد إلى عرش الإمارة «الأمير عبد الله بن علي»، فلم يحل ذلك للرأس «منليك» صاحب «شوى»، فأغار عليه بجيشه وقاتله في «جلنقو» في سنة 1305ه/يناير سنة 1887م وهزمه، ففر إلى بلاد «أوجادين».
وقام بعده ابن عمه «علي»، فلم تطل مدته مع حامية المدينة التي كانت من الجنود الأحباش، فقبض عليه بأمر حاكم «شوى» وأرسل إليه، فزجه في سجن «شوى».
أما المسلمون الذين كانوا يقطنون في الهضبة الحبشية، فقد لاقوا من العذاب والأذى والاضطهاد شيئا كثيرا.
حرق جامع غوندار واضطهاد المسلمين
أما في القسم الشمالي من بلاد الحبشة، فإن الرأس «كاسا» اغتال الرأس «علي» سنة 1269ه/1853م، ودعى نفسه «نجاشيا» على الحبشة في سنة 1855م، وسمى نفسه «تيودوروس»، فجعل همه اضطهاد المسلمين وإلحاق الأذى بهم وتعطيل شعائرهم الدينية، حتى إنه أشعل النار في جامع عاصمة «غوندار».
وبعد أن انتحر في حربه مع الإنكليز في سنة 1868م، قام بعده النجاشي «يوحانس» فزاد في الإساءة إلى المسلمين؛ لأنه كان يرى أن الإسلام خطر على مملكته بعد أن توسعت الحكومة المصرية الإسلامية في فتوحاتها، واحتلت السودان ومصوع والهضبة الإريترية الشمالية، فضغطت على حدود الحبشة غربا وشمالا.
الحملة المصرية على الحبشة
ولا يخفى أن مصر كانت جهزت حملتين ضد الحبشة؛ الأولى كانت في سنة 1292ه/1875م بقيادة جنرال دانمركي، فقهرت وقتلت عساكرها في واقعة «غندات» أو «غودا غودي» على مرأى من النجاشي «يوحانس»، والثانية كانت بقيادة الأمير «حسن باشا» ابن الخديو «إسماعيل باشا»، فدحرها الأحباش أشد اندحار في موقعة «قراع» سنة 1288ه/1871م، وأسروا من نجا من القتل ، وأجبروا ضباطها المصريين على أن يمروا أمام الجمهور وهم عراة استهزاء بهم وسخرية.
إكراه خمسين ألفا من العامة على التنصر
وذكر المؤرخ الشهير «أرنولد
Arnold » في كتابه النفيس
The Preaching of Islam
المطبوع في
Westminster
عام 1898، أن خمسين ألفا من المسلمين أكرهوا في سنة 1880م على قبول العماد.
ونشأ طبعا عن هذا الضعف الديني اشتداد العداوة الدينية والجنسية بين الحبشة والمسلمين، وهاجر من المسلمين عدد عظيم عن طريق القلابات فرارا بدينهم، وأصبح حي الإسلام في مدينة «غوندار» عام 1300ه/1883م خاويا خاليا من سكانه.
وهب سكان بلاد «ولو غالا» في الجهة الشرقية من مقاطعة «أمحرا» إلى الثورة؛ تلقاء الاضطهاد الحبشي للإسلام.
فزحف إليهم النجاشي «يوحانس» «ومنليك» ملك «شوى» سنة 1303ه/1886م، وأمعنا في النفوس قتلا وذبحا، وفي البلاد تخريبا وهدما.
الانتقام الإلهي من النجاشي يوحانس
وقد انتقم الله - سبحانه - من النجاشي «يوحانس»، فلقي حتفه في واقعة «القلابات» على يد الدراويش في مارس سنة 1889م، الذين انتقموا للمسلمين من اضطهاد الحبشة لهم والتعرض لدينهم.
أنشودة حماسية ضد المسلمين
من جراء هذه الحروب المتتابعة، ازداد الحبشة بغضا على بغض المسلمين، وأخذوا ينشدون الأغاني بوجوب الفتك بهم.
وقد نقل الرواد أنشودة يتغنى بها أحباش «أمحره»، وترجمتها إلى العربية هكذا:
لقد ولدت هذه البقرة في العام الماضي، وثدياها في هذه السنة لا يزالان ممتلئان، فكيف يطيب لنا العيش إذا لم تذبح هذه البقرة؟
والتورية في هذه الأنشودة محصورة في الكلمة الأمحرية «إجسلام»، فإذا نطق بها هكذا «إجس لام»
Egges-lam
كان معناها «هذه البقرة»، وإذا نطق بها «إج إسلام»
Egg-eslam
كان معناها هؤلاء المسلمون.
فانظر إلى أي درجة بلغت عداوة الأحباش للمسلمين.
النجاشي منليك والإسلام
فلما تملك النجاشي «منليك» على الحبشة ، آلى على نفسه أن يخضع جميع الممالك الإسلامية والبلاد الوثنية المتاخمة للهضبة الحبشية، فبدأ بامتلاك «أوسة» الواقعة في السهل المنخفض للجهة الشرقية، وقد اتخذها المسلمون مقرا لهم بعد ذهاب «أمحرا» منهم.
ثم أخضع بلاد «الأوجادين» و«غالا أروسي» و«غالا بورانه»، وأقاليم «لمو» و«جما» و«لياكة» و«ولاغة»، ومملكة «كفا» التي يقطنها شعب «سداما».
ولما وقعت «لمو » بيد الأحباش في سنة 1309ه/1891م، كان جميع أهلها قد أسلموا منذ النصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري/النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، تبعا لحاكمهم «أبا باغيبو».
وكانت هذه المقاطعة في سنة 1296 الهجرية/1879م قد بلغ بها الإسلام أوج عزه، وقد اعتنقته الطبقات الفقيرة التي مزجت به كثيرا من عقائدها القديمة.
وقد حضر إلى هذه المقاطعة طائفة من القراء العلماء لإرشاد أهلها، وغير أكثر السكان أسماءهم بأسماء إسلامية «كمصطفى» و«علي» و«عمر»، إلا أن الرؤساء حافظوا على أسمائهم الحربية بلغة «الغالا»، وما زال السواد الأعظم من أهل «لمو» مسلمين.
وهذا مما يدل على استعداد تلك القبائل المتوحشة إلى اعتناق الإسلام والتمتع برفاهيته ومدينته، ولكن قلة المرشدين إلى الدين الصحيح تجعلهم يتحبطون في عقائده تخبطا.
وإذا أضفنا إلى ذلك حرص ملوك الحبشة على اضطهاد المسلمين، والحيلولة بينهم وبين تقدمهم، أدركنا أن الإسلام في الحبشة يمشي زاحفا على أرض شائكة.
سلطنة جما الإسلامية
كانت «جما» سلطنة وثنية، وأسلم أهلها في النصف الأول من القرن الماضي بعناية تاجر مسلم مشهور باسم «نقادي شوى» و«بغمدر»، ومعنى «نقادي» أي «دليل القافية»، وأصبحت سلطنة إسلامية، وملكها السلطان محمود بن داود المشهور باسم «أبا جفار» أي صاحب الحصان الكميت، وهو من الألقاب التي يلقب بها الأبطال عند قبائل الغالا.
وقد تولى حكمها في سنة 1295ه/1878م، وكان على علاقة حسنة مع الحكومة الحبشية، ومعينا لها في إدارة البلاد الداخلة، وهو المرجع الأعلى في المحاكمات، وإليه ترجع حماية الأجانب في الأسواق بإشراف «نقاد راس» أي رئيس التجار.
ومع كل هذه المعونة التي كان يبذلها سلطان «جما» للحبشة، توجهت إلى سلطنته أطماع الحبشة، فاعتدت على استقلالها، وأدخلها «منليك» تحت حمايته في سنة 1298ه/1881م تاركا لها استقلالها الداخلي كباقي مقاطعات الحبشة المسيحية.
وقد أبرم معها النجاشي «منليك» معاهدة نص فيها بأنها تظل مملكة وراثية في سلالة «أبا جفار»، وعليها أن تؤدي جزية سنوية إلى حكومة «أديس أبابا»، وكانت حكومة «أديس أبابا» تزيد في مقدار هذه الجزية سنة بعد سنة، قاصدة إضعاف هذه السلطنة الإسلامية الوحيدة في الحبشة.
وكانت ترى أن زيادة الضرائب تؤدي إلى الثورة ضد «أبا جفار» سلطانها، ولكن لتعلق الأهالي المسلمين بسلطانهم لم تنجح هذه التجربة.
كيف كانت سلطنة جما في نظر المسلمين
لما كانت سلطنة جما هي السلطنة الإسلامية الباقية في الحبشة، كانت الملجأ الوحيد لكثير من مسلمي الأحباش الذين يميلون إلى الأمن والدعة، باعتبارها السلطنة الإسلامية الوحيدة التي بقي لها استقلالها الداخلي.
ويجدر بنا في هذه النقطة أن نذكر ما كتبه «السير دارلي»
H. Darley
في كتابه الإنكليزي المعنون
Slavs and Tvory
المطبوع في لندرا سنة 1926 ميلادية، في وصف أعمال السلطان «أبا جفار»، وهي شهادة لها قيمتها، حيث قال ما ترجمته: «لم يكتف السلطان «أبا جفار» بأن خلص أمته من براثن الأحباش، بل قادها إلى حياة الرخاء والغنى، بتعزيزه التجارة في البلاد وحسن السياسة، حتى إني أعتقد أنها ستصير أغنى الدول الإفريقية وأسعدها.
على أنني أخاف على مصير هذا الشعب الهادئ المحب للسلم والراحة، عند وفاة سلطانه «أبا جفار»؛ لأنه لا يمر في قطره حبشي إلا وينظر إليه بعين الطمع، ويسيل لعابه من فرط الشهوة على خيراته.
فلا شك أن الحبشة سيقصدون الاستيلاء عليه، إذ من أمثالهم السائرة قولهم: «بعد السنغالا الغالا»، فلو قدر وتحقق مبتغاهم، لأصبح هذا القطر بعد زمن قصير على الحالة التي عليها سائر أقاليم الحبشة؛ لأن سعادة «جما» منوطة بنشاط شعبها وحسن حكم ملكها الحر المتساهل، الذي لا يألو جهدا في تشجيع الصناعة والتجارة.»
هذا ما قاله الكاتب الإنكليزي الشهير «السير دارلي» في كتابه القيم، فأصاب برأيه السديد كبد الحقيقة؛ لأن ملوك الحبشة عز عليهم أن توجد في إمبراطوريتهم الواسعة سلطنة إسلامية، وقد تحقق ظنه بإلغاء هذه السلطنة.
إلغاء سلطنة «جما» الإسلامية وضمها للحبشة
لما توفي «أبا جفار» إلى رحمة الله تعالى سنة 1353ه/سنة 1934، وخلفه على عرش السلطنة ابنه «عبد الله»، أخذ النجاشي الحالي «هيلاسلاسي» يضيق الخناق على استقلال «جما»، وفرض عليها شروطا لا تطاق.
ثم أعلن ضمها إلى مملكته، أي نزع منها استقلالها الداخلي ضاربا بالمعاهدة التي أبرمها معها النجاشي «منليك» سنة 1298ه/1881م عرض الحائط.
وبسقوط هذه المملكة الإسلامية الزاهرة، لم يبق في الحبشة سلطنة إسلامية مستقلة بعد أن كانت الممالك الإسلامية فيها سبعا في عصر واحد، لكل واحدة منها جيش خاص وإدارة خاصة واستقلالها في داخليتها، كأنما ملوك الحبشة يعتقدون بأن قيام دولة إسلامية في الحبشة قوية، تكتسح كل دين فيها وتجعلها «إمبراطورية إسلامية إفريقية».
ولكن أثبت التاريخ غير ما يظنون، فقد ذكر صاحب «مسالك الأبصار» بعد تعداد هذه الممالك ما نصه:
وجميع ملوك هذه الممالك، وإن توارثوها، لا يستقل منهم بملك إلا من أقامه سلطان «أمحرا».
ثم قال:
وهذه الممالك ضعيفة البناء قليلة الغناء لضعف تركيب أهلها وقلة محصول بلادهم، وتسلط «الحطى» (أي النجاشي) سلطان «أمحرا» عليهم.
ثم قال:
وهم مع ذلك كلمتهم متفرقة وذات بينهم فاسدة، ولو اتفقت كلمة هؤلاء الملوك السبعة، واجتمعت ذات بينهم، لقدروا على مدافعة «الحطى» أو التماسك معه، ولكنهم مع ما هم عليه من الضعف وافتراق الكلمة، بينهم تنافس، وهم على ما هم عليه من الذلة والمسكنة للحطى، عليهم قطائع مقررة تحمل إليه في كل سنة من القماش والحرير والكتان، مما يجلب إليهم من مصر واليمن والعراق. ا.ه.
والعاقل لا يشك في أن ملوك الحبشة كانت توقع العداوة بين هذه الممالك الإسلامية، وتنفرها من بعضها بالدسائس، حتى لا تجتمع كلمتها على القيام في وجهها.
زواج الرءوس المسيحيين بالنساء المسلمات في الحبشة
إذا رأى أحد الرءوس الأحباش أو سواهم من الحكام امرأة مسلمة، فإنه يتزوجها وهو على النصرانية، ولا يستطيع المسلمون أن يعارضوه ، وإلا عرضوا أرواحهم للقتل وأموالهم للنهب.
وقد يتخذها خدنا وهو أحد أنواع الزواج عندهم.
جاء في رحلة الحبشة ما خلاصته بتصرف: إن الزواج عند الأحباش المسيحيين ثلاثة أنواع:
الأول:
يسمى «روموز»، ويتم بأن يطلب الرجل من المرأة أن ترضاه بعلا، فإن رضيت دخلت في عصمته، ويتفرقان متى أرادا.
الثاني:
الزواج المدني، بتراض من الطرفين وحضور الشهود.
الثالث:
الزواج الديني على يد القسيس.
والنوع الأول هو اتخاذ الأخدان، وأي امرأة مسلمة حبشية يطلب منها الحاكم المسيحي أن تكون له خدنا وتأبى؟ إنها إن رفضت أمره جاءت لنفسها وأهلها بالطامة الكبرى.
وإليك ما كتبه صاحب «صبح الأعشى» في الجزء الخامس بالصفحة 321، قال: وكان الفقيه «عبد الله الزيلعي» سعى في الأبواب السلطانية، عند وصول رسول «أمحرا» إلى مصر في تنجيز كتاب «البطريرك» إليه بكف أذيته عمن في بلاده من المسلمين، وعن «أخذ حريمهم»، وبرزت المراسيم للبطريرك بكتابة ذلك.
فكتب إليه عن نفسه كتابا بليغا شافيا، بعبارات أجاد فيها.
ثم قال المؤلف: «وفي هذا دلالة على الحال.» ا.ه. أي دلالة على حال المسلمين هناك والتعرض لنسائهم، وهي حال من أسوأ الحالات التي وصلت إليها أقلية مسلمة في دولة متمدنة أو متوحشة، وهذه مصيبة عظمى لم يصب بمثلها المسلمون في غير الحبشة.
تنصير المسلمين في الحبشة
الفوضى الدينية في الحبشة بالغة حدها، وملوك الحبشة يكرهون إقامة شعائر المسلمين الدينية، ويظهر ذلك جليا واضحا من قصة الرأس «ميخائيل»، وولده النجاشي «ليدج إياسو»، فقد كان الشاب «محمد علي» المسلم من رءوس قبيلة «ولو غالا»، فأعجب به النجاشي «منليك»، فحمله على التنصر فارتد بلا تردد، وتسمى بالرأس «ميخائيل»، وتزوج إحدى بنات «منليك»، فولدت له ولدا تسمى «ليدج إياسو» فأحبه جده وقدمه، وجعله وارث عرشه.
ولما مات النجاشي «منليك» في سنة 1331ه/1913م، ارتقى عرش الحبشة «ليدج إياسو»، فأظهر ميلا وعطفا على المسلمين، كأنما عرف أن أباه كان مسلما.
ويظن الكثيرون أن «ليدج إياسو» قد أسلم، لما كان يظهره من المحبة والعطف على المسلمين، على عكس ما كان يفعله ملوك الحبشة.
ولما تأججت نيران الحرب الكبرى، وامتلأت ممالك الدنيا بالجواسيس، كان في الحبشة بعض الألمان والترك، فشجعوا «ليدج إياسو» وحسنوا له تأسيس «إمبراطورية إسلامية في أفريقيا الشرقية»، وفعلا أخذ يهتم بتحقيق هذه الأمنية.
فلما علم رجال الأكليروس والرؤساء الأقباط بذلك، اضطربوا وخافوا العاقبة.
فاتفقوا مع «المطران» والرأس «تفري»، وعقدوا اجتماعا في «أديس أبابا»، وخلعوه وأنزلوه عن عرش «أثيوبيا» في سنة 1334ه/27 سبتمبر سنة 1916، ونادوا بالأميرة «زوديتو» ابنة «منليك» إمبراطورة على الحبشة، على أن يخلفها الرأس «تفري» ابن الرأس «ماكونين» على العرش.
وفي سنة 1349ه/سنة 1930م توفيت الإمبراطورة «زوديتو»، فنودي بالرأس «تفري» إمبراطورا على الحبشة وسمي «هيلاسلاسي».
أما «ليدج إياسو» فقبض عليه وأودع السجن سنة 1340ه/1921م، ثم تمكن من الفرار في سنة 1351ه/1932م، ولكن قبض عليه ثانية، وألقي في إحدى قمم «هرر» في سجن منفرد، وأشيع بعد ذلك أنه مات.
وكان قد تزوج بامرأة مسلمة تسمى «دنكله»، ورزق منها بولد سماه «منليك» على اسم جده، يبلغ الآن نحو 19 سنة، يعيش بائسا في «تغره» في الصومال الفرنسي.
وذكر الأب «متاؤس» في رسالة نشرها بمناسبة خلع «ليدج إياسو» واعتقاله، حمل فيها على «ليدج» المذكور حملات شديدة قال فيها: «إن هذا النجاشي لم يكفه أنه جحد إيمانه المسيحي (مما يدل على أنهم اعتقدوا أنه اعتنق الإسلام)، بل رضي أن يشيد لهم (أي للمسلمين) جامعا في «دير دواه».» ا.ه.
انظر كيف عدوا رضاءه قبول بناء جامع للمسلمين، يقيمون فيه شعائر دينهم ويعبدون ربهم، جريمة كبرى تبرر خلعه وزجه في أعماق السجون.
ففي هذه الحكاية القصيرة نرى أن النجاشي دعا رجلا مسلما إلى التنصر، فأجابه خوفا وطمعا.
وأن «ليدج إياسو» تزوج بامرأة مسلمة، وهو على دين النصرانية.
وإذا شئت أن تعرف ما بلغه ظلم ملوك الحبشة للمسلمين الذين يرفضون الدخول في النصرانية، فاقرأ ما جاء في «رحلة الحبشة»، فقد وصف فيها مؤلفها تلك الوحشية التي تمثل أفظع جرائم الظلم، قال:
وكان عند المتمهدي رجل من أعيان الأحباش يسمى «محمد جبريل »، وفد على المتمهدي واتبعه، فأرسله إلى الحبشة ليدعو جميع المسيحيين فيها إلى الإسلام، ويدعو سائر المسلمين إلى الإيمان بالمهدية والخضوع للمهدي.
فصدع «محمد جبريل» بأمر المتهدي.
فلما رأى النجاشي «يوحانس» سعي هؤلاء ودعوتهم، شغل هذا الأمر باله وبات في هم عظيم، وأخذ من ذلك الوقت يضطهد المسلمين ...
فأدى اضطهاده هذا إلى هجرة كثير منهم والتجائهم إلى شيعة المتمهدي، وأقاموا محلا لإقامتهم في المكان المسمى «عراديب» شمالي «القلابات» وسموه «تبارك الله».
ثم قال: «ورأيت بعيني بعض المسلمين الذين كان «يوحانس» قد قطع أيديهم وأرجلهم.»
فانظر كيف أن النجاشي لم يجد عقابا للمسلمين الذين لم يقبلوا الدخول في النصرانية سوى تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما فعل «فرعون مصر» في السحرة الذين آمنوا بموسى - عليه السلام. •••
فرغنا من ذكر حال المسلمين في الحبشة فيما مضى، وسنذكر أحوالهم ومواطنهم وعددهم في هذه الأيام، ونقارنها بحال إخوانهم الساكنين في البلاد المجاورة لمملكة «أثيوبيا»؛ ليعلم المسلمون في مختلف الأقطار أن مسلمي الحبشة، مع ما تحملهم حكومة النجاشي من متاعب، هم عضلات سواعدها وشرايين حياتها ومنابع ثروتها ولحام قوتها.
ولو أنها قابلت إخلاصهم لها مقابلة الدول الأخرى لرعاياها المخلصين، لأصبحت من أرقى الممالك شأنا وأعزها مكانا.
مواطن الإسلام داخل حدود الحبشة
أولا:
ينتشر المسلمون في جميع أرض الحبشة بين كثرة وقلة، ففي جنوب الحبشة وشرقها طائفة كبيرة من المسلمين يقيمون في «هرر» و«أوجادين»، ولهم ارتباط شديد بمسلمي «أروسي».
وفي الغرب أكثرية المسلمين في جهات «غالة الغوما» و«غما» و«قيرة» «ولمواناريا» و«جما» و«جارو» و«شيمارو» و«البا» و«هديا» و«ضضله».
أما سكان «غوراغه» و«ننو» و«واليزو»، فهم خليط من المسلمين والمسيحيين.
ثانيا:
وفي غرب «أديس أبابا» توجد قبائل «ورجي» و«لتي» وهم مسلمون.
وربما كانوا من سلالة طوائف إسلامية، كانت تقيم على طول الطريق التي كانت تربط مسلمي الشواطئ الإفريقية الممتدة على البحر الأحمر بالشعوب الإسلامية في غرب الحبشة.
وهذه الطريق مهملة الآن.
ثالثا:
ويقيم في «شوى» و«أمحره» و«التغرى » جماعات من المسلمين، وقد انتشروا في تلك النواحي، وربما كان بينهم قبائل منحدرة من أصل يمني.
رابعا:
جميع سكان «أوسة» من بلاد «الدناكل» مسلمون.
تعداد المسلمين في الحبشة
لم يحصل في الحبشة إحصاء يوثق به، ولكن اختلف الإحصائيون في تعدادها تعدادا بوجه التقريب، وأقربه أن تعداد سكان الحبشة تسعة ملايين، منهم ثلاثة ملايين مسلمون، وثلاثة ملايين ونصف مليون مسيحيون، ومليونان ونصف مليون على الوثنية وأديان أخرى.
وقيل: إن تعداد الحبشة 12 مليونا منها 8 ملايين مسلمين، وهذا وإن كان أكثر من الحقيقة على ما يظن، إلا أنه يشير إلى وجود أكثرية عظيمة للعنصر الإسلامي في الحبشة.
أسماء الشعوب الإسلامية في الحبشة
يعرف المسلمون في الحبشة بأسماء مختلفة كإسلام - وهم المسلمون من أصل حبشي.
ونقادي - وهم التجار - وهذه التسمية تدل على أن التجارة في يد المسلمين.
وجبرتي، وهم بنو عقيل بن أبي طالب، الذين سكنوا جبرت في بدء دخول المسلمين إلى الحبشة، وأسسوا مملكة «وفات» وهي أول مملكة إسلامية في الحبشة كما قدمنا، ثم انتشروا في بقية البلاد.
أما مسلمو السهول الواطئة، فيسمون «نباده» أو «إسلام بحري»، أي المسلمين الذين جاءوا من البحر.
لغات المسلمين في الحبشة
يتكلم أكثر المسلمين في الحبشة اللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن، وقد حافظوا عليها من عهد دخول أجدادهم من عرب اليمن والحجاز إلى البلاد.
وتتكلم كل طائفة - عدا ذلك - بلغة المقاطعة التي تعيش فيها، وهذا طبيعي بداعي المعاملة، فمسلمو شمال الحبشة يتكلمون اللغة «الأمحرية»، وسكان أراضي «هرر» لهم رطانة بربرية.
وفي غرب الحبشة وجنوبها تسيطر اللغتان «الغالية والصومالية».
المذاهب الإسلامية في الحبشة
أكثر مسلمي الحبشة يتعبدون على مذهب الإمام «محمد بن إدريس» الشافعي - رضي الله عنه.
ويوجد في بعض الأنحاء الشمالية «أحناف»، وقليل من الحبشة من هم على مذهب الإمام «مالك» - رضي الله عنه.
ولا يوجد في الحبشة «حنابلة» وهذا أمر طبيعي؛ لأن الحنابلة معروفون بشدة تمسكهم بالسنة المحمدية، وتصلبهم في دقة اتباعها تصلبا حملهم في كثير من العصور على مقاتلة مخالفيهم.
ولو كان في الحبشة «حنابلة » لأبادتهم الحروب، أو يقيموا السنة بحذافيرها.
نشاط المسلمين الطبيعي في الحبشة
الرواد الذين جابوا بلاد الحبشة طولا وعرضا، ودرسوا طبائع سكانها واحتكوا بالأهالي زمنا طويلا، ووقفوا على سر حياتهم الاجتماعية ومبلغ مداركهم، شهدوا بأن مسلمي الحبشة عموما ذوو نشاط، وعلى جانب عظيم من الذكاء، ولهم التفوق على غيرهم من السكان في حلبة تنازع البقاء.
وقد صدق أولئك الشهود العدول؛ إذ لولا ذلك لجرفهم سيل الطغيان الحبشي، وأبادهم بكثرة الحروب، وابتزاز الأموال، والضغط عليهم من ملوك الحبشة ورءوسها في جميع مرافق الحياة.
الصناعة والزراعة والتجارة
يتعاطى المسلمون في الحبشة مختلف الحرف والصناعات المفيدة، ولهم حظ وافر في التجارة.
وقد ذكرت الجرائد في هذه الأيام أن التجار في الحبشة قدموا للإمبراطور مساعدة مالية كبيرة، قدرت بملايين الجنيهات والريالات، ووعدوه بمساعدات أخرى مثلها.
وقد مر أن أغلب تجار الحبشة مسلمون، ولئن كانت هذه المساعدة عن طيب خاطر، فهم أهل لها ولمثلها.
وإن كانت عن طلب وضغط شديد، فشيء احتملوه واعتادوه من قديم، فإنهم مهددون بالمصادرة في كل لمحة، فما ظهرت على أحدهم آثار نعمة إلا طمع الرؤساء بسلبها منه.
وهنا نثبت ما كتبه المرحوم صادق باشا العظم في رحلته للحبشة بالصفحة 159، وهو في «أديس أبابا» قال: «وأتى لزيارتنا «آتو بالا ينتخ» الرجل الذي كنا تعرفنا عليه في مرحلة «تاديجا مالكا»، وقد كان أكرمنا غاية الإكرام، وأراد أن يهديني بغلا، وكنت رأيته في «تاديجا مالكا» بملابس ثمينة، وعلى رأسه قبعة جميلة، وعليه ثوب من الجوخ الأسود مبطن بالحرير.
ولكن لما جاء لزيارتنا هنا، رأيته بعكس الهيئة المذكورة، إذ كان حافي القدمين مكشوف الرأس، وملابسه قميص ولباس مصنوعان من البفتة السمراء، وعليها ثوب من اللباد العريض.
وجلسنا نتكلم، وكان صاحب المنزل يترجم كلامنا.
فسألت المترجم عن سبب ذلك من غير أن يشعر الرجل.
فقال: إنه عندما يكون في العاصمة يضطر لمقابلة كثير من الرؤساء والأمراء؛ فلذلك يرتدي بالملابس البسيطة إظهارا للتواضع والخضوع والطاعة، حتى إن بعض الأغنياء منهم يتظاهرون في بعض الأحيان بالفقر والفاقة أمام الرؤساء.
وهذا يعد من جهة «تواضعا»، ومن جهة أخرى بابا للوصول إلى السلامة من طمع الطامعين.
وقد ترك زائري جميع خدمه وبغاله في «شولا»، وحضر وحده إلى «أديس أبابا». ا.ه.
وهذه الحكاية على قلة كلماتها، قد ذكرها المؤلف ولم يعلق عليها بشيء، مع أنها ذات معنى كبير ومغزى خطير، يدلنا على ما عند رؤساء الحبشة وملوكها من الكبرياء والجبروت في معاملة المسلمين، إذ يعز عليهم أن يروا في بلادهم مسلما يظهر عليه أثر النعمة والثراء، ويعدون ذلك منه امتهانا لمقامهم. «ولا يحلو لهم إلا إذا كان فقيرا ذليلا.»
سهولة نشر الإسلام في الحبشة بين الشعوب الوثنية
يجد دعاة الإسلام في الحبشة مرتعا خصيبا في الشعوب الوثنية لنشر الإسلام، لما يجدون في هذا الدين القويم من الفضائل التي تقوم على العدل والمساواة والصدق والأمانة والنظافة والبعد عن الفحشاء.
وقد لاحظوا ذلك طبعا في معاملاتهم للمسلمين، فكان الرؤساء الوثنيون يدخلون في الدين الإسلامي فرحين مستبشرين، ويلحق بهم جميع متبعيهم، وسرعان ما ينقل هؤلاء من الخمول إلى النشاط، ويطرحون الكسل جانبا، كما حصل في القرن الماضي.
وقد عانى المبشرون بالمذاهب المسيحية الشدة في إدخال الوثنيين في حظيرتهم، أو رد مسلميهم عن الإسلام، فلم يحصلوا على شيء من الفائدة.
ومما يليق ذكره هنا ما رواه الرحالة «شكي» عن الحاكم «جيره» المتوفى سنة 1295ه/1878م، أنه وصلت إليه نسخة من الوصية التي نشرها خادم الحجرة النبوية الشريفة، وقال فيها إنه رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
في نومه، فأمره أن يرشد المسلمين إلى العمل بشرعه وسنته.
فلما قرئت على الرأس «جيره» أسلم من فوره، وتبعه كثير ممن هم تحت سلطانه ودخلوا في الإسلام.
وعلى إثر ذلك تناقل الناس نسخا من هذه الوصية، وانتشرت في «أفريقيا الشرقية» حتى بلغت «تانجانيقا» سنة 1326ه/1908م، ولجأ إليها المسلمون في نشر الإسلام وتقوية دعائمه.
تأثير الطرق الصوفية في نشر الإسلام
ومن الوسائط الفعالة، والتي كانت ولا تزال أكثر الوسائط نفعا وأشدها تأثيرا في نشر الإسلام، وتمكين روابطه بين المسلمين في الحبشة هي الطرق الصوفية، والقائمون بها هناك على جانب عظيم من التقوى والصلاح وحب الإصلاح.
فمن هذه الطرق «الشاذلية» و«القادرية» و«الختمية».
وقال المرحوم صادق باشا العظم في رحلته بالصفحة 167 إنه سمع بعض المسلمين في الحبشة ينشدون قصائد فيها اسم الشيخ «عبد القادر الجيلاني»، صاحب الطريقة القادرية - رضي الله عنه.
ومشايخ هذه الطرق يجتهدون في حث أتباعهم على المحافظة على إقامة الفرائض والسنن، وعلى نشر الدين المحمدي ما وجدوا لذلك سبيلا، وأتباعهم ينقادون إلى أوامرهم ويعملون بها قدر المستطاع.
حسنات الطرق الصوفية في الحبشة
من حسنات هذه الطرق في الحبشة أنها تؤدي أعمال الجمعيات الخيرية الإسلامية، فتذكي نار الحماسة في صدور أتباعها، وتجعلهم قوة متحدة على نشر العلم والفضيلة.
وقد فتحوا المكاتب والمدارس المجانية في جميع البلاد والقرى التي لهم فيها أتباع ومريدون.
لذلك نجد الأهالي يتفانون في حب مشايخهم، فيجعلون قبورهم بعد موتهم «مزارا» يقصدونه للزيارة والتبرك.
ومن أشهر قبور الأولياء هناك قبر الشيخ الصالح «نور حسين» من شيوخ الطرق الأحمدية، التي أسسها السيد «أحمد بن إدريس الأسيري»، فهو محط الرحال في مقاطعة «أروسي».
وقد ترجمت حياة هذا الشيخ الجليل ومناقبه في ثلاث مجلدات، وطبعت باللغة العربية في القاهرة سنة 1346ه/1927م، ووزعت على المسلمين القاطنين في جنوب الحبشة وغربها.
علاقة مسلمي الحبشة بالممالك الإسلامية
لقد استطاع المسلمون في الحبشة أن يجعلوا بينهم وبين الممالك الإسلامية المجاورة لهم روابط ثقافية واقتصادية متينة، كمصر التي فيها «الجامع الأزهر» المعمور، وقد أمه فيما مضى طلاب كثيرون لأخذ العلم، ولهم في الأزهر الشريف «رواق» شهير يسمى «رواق الجبرتية»، نبغ منه كثير من جهابذة العلماء، كالشيخ الإمام الزيلعي فخر الدين عثمان بن علي، شارح الكنز، المتوفى سنة 743ه/1342م، والمحدث الكبير الزيلعي جمال الدين عبد الله بن يوسف بن محمد المتوفى سنة 762ه/1361م، والعارف بالله الشيخ على الجبرتي الذي كان يعتقده السلطان قايتباي، وقد توفي سنة 899ه/1493م، كما نص عليه ابن إياس، والشيخ حسن بن برهان الدين الجبرتي ، وولده المؤرخ الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي صاحب التاريخ المشهور المسمى: «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، والشيخ أحمد بن محمد الجبرتي، والذي كان شيخا على الرواق في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.
ومما يستحق الذكر هنا أنه لما توفي الشيخ «بشري» شيخ هذا الرواق، وهو من إقليم «تغرى»، وقع نزاع بين الطلاب؛ لأن أهالي «تغرى» - وهم الجبرتية - كانوا أكثرية فيه، وطلبوا من مشيخة الأزهر الشريف أن يعين الشيخ من بينهم لزعمهم أن الرواق إنما هو وقف عليهم، وأن ليس لمسلمي أقاليم «أمحره» و«شوى» و«هرر» نصيب في تعيين المشايخ منهم.
ولما اشتد بينهم النزاع، رأت المشيخة أن الرواق، وإن كان يسمى «رواق الجبرتية» للتغليب، إلا أنه في الحقيقة رواق لجميع مسلمي الحبشة.
وعلى هذا الرأي تعين الشيخ «أحمد محمد» من «مصوع» شيخا للرواق المذكور.
البعثة الأزهرية للحبشة
وفي سنة 1934م أرسلت مشيخة الأزهر الشريف بعثة إسلامية دينية إلى الحبشة لترشد الأهالي المسلمين إلى الدين القويم، وهي مؤلفة من صاحبي الفضيلة «الشيخ محمود النشوي» و«الشيخ يوسف علي يوسف».
وقد استبشر مسلمو الحبشة بهذه البعثة المباركة، وقد ورد منها للمشيخة تقرير طريف عن وصف مهمتها، وهذا نصه نقلا عن كتاب «المسألة الحبشة»:
لما كان الجامع الأزهر الشريف مبعث الهداية الإسلامية ومشرق نورها في جميع أنحاء الدنيا، اتجه إليه المسلمون من جميع الأقطار يطلبون منه في إلحاح أن يبعث إليهم من صفوة خريجيه من يرشدهم ويفقههم في أمور دينهم، وينشر بينهم الثقافة الإسلامية واللغة العربية.
وكان من بين البلدان التي تقدمت إليه بهذا المطلب «جنوبي أفريقيا» و«أمريكا» و«اليابان» وبلاد «الحبشة».
وقد سارعت مشيخة الأزهر الجليلة إلى دعوة خريجي قسم التخصص، واختبرتهم اختبارا عاما، بعد أن ألفت لجنة عليا لهذا الغرض، وكان من حسن حظنا أن ندبتنا مشيخة الأزهر للذهاب إلى بلاد الحبشة لنشر الثقافة الإسلامية فيها.
وقد سافرنا من «بورسعيد» في يوم 31 يناير سنة 1935، وقد وصلنا إلى «أديس أبابا» عاصمة «أثيوبيا» يوم 6 فبراير، وكانت رحلتنا إليها جميلة وسارة، وقد فرح المسلمون بقدومنا، وأقبلوا علينا مرحبين مهنئين شاكرين لمصر وللجامع الأزهر فضله عليهم وتلبية طلبهم، وقد وجدنا في العرب ومسلمي الحبشة أهلا بأهل وإخوانا بإخوان.
ولا يفوتنا شكر رجال القنصلية المصرية، وفي مقدمتهم حضرة القنصل الكريم، فهم ما فتئوا يساعدوننا بمعلوماتهم واختباراتهم.
وبعد أسبوع من وصولنا، أعني بعد أن خفت الزيارات وقلت وفود المرحبين، بدأنا عملنا في مدرسة «نادي الاتفاق الإسلامي»، واتخذنا من المسجد ميدانا لإلقاء العظات التي رأينا أنها تنفع مسلمي هذه البلاد.
أما المدرسة فإن العمل فيها شاق إلى أقصى حد؛ نظرا لاختلاف أسنان الطلبة فيها، وتباين بيئاتهم وتعدد لغاتهم، ففيها أحباش وعرب يمنيون وحضرميون، وهنود وأتراك وصومال، والطلبة الأحباش أنفسهم من مقاطعات مختلفة، مما يجعل الدرس الواحد يعادل خمسة دروس في مصر على الأقل، ولكننا في الوقت نفسه نجد سرورا في العمل بها للتقدم الحسن الذي نشاهده في طلبتها، وقد أصبح سهلا عليهم - وخصوصا طلبة الفرق المتقدمة - أن يفهموا العربية الصحيحة.
ونحن نقوم الآن بتدريس أهم المواد وأشقها، كالتوحيد وفقه الشافعي والتاريخ والأخلاق الدينية، وتحفيظ القرآن الكريم بطريقة تجعلهم يدركون المعنى الإجمالي لكتاب الله.
وقد وجدنا في استعداد أبناء المدرسة الفطري، وذكائهم الطبيعي خير معوان لنا على أن نتقدم بالأولاد في هذه المدة الوجيزة التي قضيناها بينهم في المقررات الموضوعة، رغم أنها في حاجة إلى تهذيب، فهي بوجه عام فوق مستوى الأولاد، ونرجو في المستقبل أن نوفق لأقناع القائمين بإدارة المدرسة بذلك حتى نعمل على تعديلها بما يناسب مدارك الطلبة، وتحقيق الأمل المنشود في هؤلاء التلاميذ، الذين لا شك في أنهم ستتغير بهم حالة مسلمي الحبشة متى صاروا رجالا.
وأما الوعظ، فإننا نرى أن الحبشي مفطور على حب الدين وإجلال رجاله، والعقل الحبشي من أخصب العقول لتلقي العظات والانتفاع بها، فهم قوم قلوبهم طاهرة نقية، فحينما يلقي أحدنا العظة يترامى الناس - وخصوصا الأحباش - على يديه وكتفيه بل رجليه، لثما وتقبيلا.
ومما يدل على أن احترام الأحباش لرجال الدين عامة، أن المسيحيين منهم حينما يقابلوننا يحيوننا بالانحناء الشديد ، وبرفع قبعاتهم إجلالا، وتلك هي التحية الحبشية.
ونحن نرجو أن نصل بالمسلمين منهم إلى الاكتفاء بالتحايا التي يجيزها «الإسلام» فحسب.
وقد تخيرنا من موضوعات الوعظ «التعليم» والحث عليه، ومما لاحظناه أنه يندر أن تجد مسلما لا يعلق التمائم والأحجبة المتعددة الكثيرة على صدره، وهذا يدل على أنهم يعتقدون في الدجالين والمشعوذين، ويقدمون إليهم نفسهم ونفيسهم على فقرهم وحاجتهم.
وكذلك وعظناهم في «البغاء وضرورة الابتعاد عنه»، وخاصة لما يترتب عليه من الأمراض الخبيثة المنتشرة فعلا بينهم، والتي لا يهتمون بعلاجها، كما نهيناهم عن كثير مما يفعلونه في أعراسهم ومآتمهم، والإسلام لا يجيزه، وإنه ليسرنا أن نجد نصائحنا وعظاتنا تنفذ إلى قلوبهم، ويعملون بها.
وإنا لجادون الآن في دراسة عادات البلاد، وأحوالها الاجتماعية دراسة جدية، مع النظر فيها من الوجهة الإسلامية، حتى تكون عظاتنا مبنية على أساس متين، ولا يفوتنا أن نذكر أن من طرق الوعظ والتعليم في هذه البلاد افتتاح المنازل وإلقاء دروس بها، وإفتاء من يحضر للاستفتاء بها، ونحن مجاراة للعرف نستقبل الناس يوميا بعد أداء أعمالنا الأخرى.
وقد عرض علينا كثير من الفتاوى، فأجبنا بما كان موضع الثقة والقبول.
ومما تحسن الإشارة إليه أن الفتيا والقضاء في هذه البلاد على مذهب إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - وهو المذهب الذي يعتنقه معظم مسلمي الحبشة، والذي يقوم بالقضاء بينهم قاض واحد «بأديس أبابا» وحكمه نافذ، إلا إذا استؤنف أمام هيئة أخرى من العلماء، وكثيرا ما قمنا نحن بمهمة النظر في القضايا المستأنفة، وهو ما يستلزم منا مراجعة وبحثا طويلين.
ومما استفتينا فيه أخيرا، أن شابا تزوج بفتاة بكر، وفي اليوم التالي لزواجه بها طلب استرداد المهر مدعيا أنه وجدها ثيبا، فرفع والد الفتاة دعوى أمام القاضي طالبا حد المتهم حد القذف ... وأشباه ذلك مما يعرض علينا كثير.
وفي البلاد هيئات متعددة، منها «نادي الاتفاق الإسلامي» و«الجمعية الوطنية» و«جمعية التعاون»، وصلتنا بنادي «الاتفاق الإسلامي» وثيقة بحكم عملنا الرسمي، وهو أهم هذه الهيئات وأغناها وأنفعها وأوسعها نفوذا، ونحن نرجو أن توجد في المستقبل القريب في هذه البلاد شبيبة حبشية مسلمة، تقوم على أكتافها نهضة تتقدم بها هذه البلاد النبيلة. ا.ه.
وبمناسبة هذه البعثة نقول: لو أن مشيخة الأزهر الموقرة تعد لهذه المأمورية المهمة طلابا من الحبشة من «رواق الجبرتية»، فتخصهم بعنايتها ثم ترسلهم بعد ذلك إلى بلادهم بمرتبات قليلة، فيكونوا رسل علم ودين من هذا المعهد العالمي، وهم أدرى بلغة بلادهم وطبائع أهلها، وتكون النتيجة أكثر فائدة؛ لأن المسلمين متفرقون في بلاد الحبشة المترامية الأطراف، وفي حاجة إلى عدد كبير من العلماء والمرشدين، ولا يتأتى إيجاد العدد المطلوب إلا من أبناء الحبشة أنفسهم.
وكذلك تربط مسلمي الحبشة بالسودان المصري روابط القرابة والثقافة، التي نشأت عن طريق «المتمة» و«الرصيرص» من المسلمين الذين هاجروا من الحبشة، هربا من ظلم النجاشي «يوحنا» الذي كان يحملهم على الارتداد إلى الكفر بعد الإيمان.
أما ارتباطهم بمسلمي اليمن، فيرجع إلى علاقات قديمة العهد، نشأت عن تبادل التجارة، ولقرب ما بين القطرين، وقد أدخل اليمانيون إلى الحبشة زراعة البن وغيرها.
أما علاقة مسلمي الحبشة بالحجاز، فقد نشأت عن المجاورة والتجارة من جهة، وعن الحج من جهة أخرى.
وقد كانت مكة تغص بالحجاج الأحباش فيما مضى، ولكن قل عددهم في هذه السنين لأسباب جمة.
وقد كان عدد من حج منهم في سنة 1352ه/1932م 49 حاجا، وفي سنة 1353 كان 29 حاجا فقط.
ولا يبعد أن المعاهدات التي تمت بين الحبشة وحكومة الحجاز تسهل السبيل للمسلمين الأحباش، فيكثر عدد الحجاج منهم في الأعوام المقبلة، إذا لم تكن الأسباب المانعة من ذلك من نفس حكومة الحبشة.
درجة الثقافة الدينية والعلمية عند مسلمي الحبشة
إن المسلمين في الحبشة في هذه الأيام ليسوا سواء في درجة الثقافة الدينية والعلمية، وما ذاك إلا من كثرة ما وقع عليهم من الأذى، والضغط منذ القرون الماضية.
وقد كان منهم قبل ذلك العلماء الأعلام، كالزيلعي العلامة فخر الدين عثمان بن علي شارح متن الكنز، وإسماعيل بن إبراهيم الجبرتي، وعبد الله بن يوسف الزيلعي، وغيرهم ممن ذكرناهم من قبل.
ولكن أنى لهم التقدم في العلم والدين، وسوط الظلم والاضطهاد مشرع فوق رءوسهم.
وهذا صاحب «صبح الأعشى»، يخبرنا عن شيء من أنواع ذلك الاضطهاد الواقع في زمانه، فقد قال بعد ذكر «الممالك الإسلامية» ما نصه:
وقد أتى «الحطى» ملك الحبشة النصارى على معظم هذه الممالك، بعد الثمانمائة، وخربها وقتل أهلها «وحرق ما بها من المصاحف»، وأكره الكثير منهم على الدخول في دين النصرانية، ولم يبق من ملوكها سوى ابن مسمار، المقابلة بلاده لجزيرة «دهلك» تحت طاعة «الحطى»، وله عليه إتاوة مقررة.
والسلطان «سعد الدين» صاحب «زيلع» وما معها، وهو عاص عليه ، خارج عن طاعته، بينهما حروب لا تنقطع.
وللسلطان «سعد الدين» في كثير من الأوقات النصرة عليه والغلبة.
24
ا.ه.
وإذا علمت أن المسلمين في عاصمة الحبشة لم تسمح لهم الحكومة الحبشية ببناء مسجد لإقامة الشعائر الدينية، ولا بإنشاء مقبرة لدفن موتاهم، عرفت مبلغ ذلك الضغط على مسلمي الحبشة الضعاف من حكومة الأسد الخارج من سبط يهوذا.
وإليك ما قاله صاحب الرحلة في الصفحة 143:
وعند الصباح ورد قبل كل الناس التجار الهنود المسلمون، ومعهم صحف الورد والزهور والمياه المعطرة والمناديل ذات الروائح الطيبة.
وبينما كنا نشرب القهوة كنا نتجاذب أطراف الكلام، فانتقل حديثنا إلى صلاة الجمعة، وعلمنا منهم أنه لا يوجد في «أديس أبابا» مسجد، وأن المسلمين يؤدون صلاة العيد في الفضاء.
وقد قيل لي إن المسيحيين في «أديس أبابا» من غير الأحباش، مثل الكاثوليك والروم والأرمن، أرادوا أن يبنوا كنائس خاصة بهم، فعرضوا ذلك للحكومة الحبشية فأجابتهم بقولها: «إنكم وإيانا مسيحيون، فيمكنكم أن تصلوا في كنائسنا، فلا لزوم لبناء كنائس أخرى.»
فلذلك لم يقدم المسلمون لإنشاء جامع؛ خوفا من أن تمنعهم الحكومة كما منعت الطوائف الأخرى.
وقد علمت منهم أيضا أن المسلمين الذين يبلغ عددهم زهاء ألفين في «أديس أبابا» ليس لهم مقبرة خاصة بهم، بل هم يدفنون موتاهم في منازلهم وحدائقهم. ا.ه.
ثم أتدري أيها القارئ المحترم ماذا تم بعد ذلك؟
إن صادق باشا سأل الإمبراطور «منليك» أن يأذن للمسلمين ببناء جامع ومقبرة فأذن له، وفرح المسلمون بذلك، واقترح عليهم أن يسمى الجامع «حميدية» تيمنا باسم السلطان «عبد الحميد» الذي أوفده إلى الحبشة.
وبعد سفر الباشا نكث «النجاشي» عهده، وبقيت «أديس أبابا» بدون جامع، حتى نقلت إلينا الجرائد في هذه الأيام أن الإمبراطور «هيلاسلاسي» سمح للمسلمين ببناء جامع في عاصمة بلاده «أديس أبابا».
وبما أن النجاشي «منليك» سمح ببناء هذا الجامع في سنة 1322ه/1904م إكراما لرغبة ضيفه مندوب سلطان «تركيا»، فيكون أمر هذا الجامع أهمل مدة 33 سنة، حتى وافق النجاشي «هيلاسلاسي» على هذه المكرمة.
فهل عين رأت، أو أذن سمعت بأفكه من هذه المكرمة؟
يا لها منحة عظيمة من دولة شرقية عريقة في القدم، لرعاياها المسلمين الذين يماثلونها في العدد، ويجاورونها منذ 13 قرنا، وضيوفها الذين هم روح الاقتصاد وبيدهم تجارة البلاد.
كأن رجال هذه المملكة لم يبلغهم أن مساجد المسلمين شيدت في أكثر عواصم أوروبا كلندن وباريس.
وعلى كل حال، فنحن نشكر لجلالة الإمبراطور «هيلاسلاسي» معروفه الكبير، ونتمنى أن لا يحول بين أمره ببناء الجامع وبين تنفيذ هذا الأمر مانع جديد.
هذا ولنا آمال عظيمة نعلقها على همة حضرات أعضاء البعثة الأزهرية المحترمين، راجين بأن تكون بعثتهم فاتحة نهضة علمية دينية إسلامية في الحبشة، يبقى لها الأثر الصالح ما بقيت الأيام.
حالة مسلمي الحبشة بالنسبة لشعبها المسيحي
الشعب المسيحي في الحبشة يعيد لنا ذكرى الشعوب القديمة التي كان كل شعب منها يظن أنه هو وحده من سلالة الأبرار، وأن كل الشعوب الأخرى أحط منه في الإنسانية، ودونه في الحقوق.
لذلك، فهو يعامل مواطنيه المسلمين على هذه القاعدة البائدة.
وقد علمت فيما تقدم أن مدينة «أديس أبابا» من عهد نشأتها إلى الآن، لم يسمح فيها للمسلمين بإقامة مسجد ولا مقبرة إسلامية، وأن المسلم لا يستطيع أن يظهر أمام الرءوس الأحباش بمظهر الثراء والنعمة حتى لا يعد عاصيا وقليل الطاعة لسادته.
الشريطة الزرقاء
وقد حدثنا صاحب الرحلة الحبشية في الصفحة 160 بأن المسيحي الحبشي لا يأكل مع المسلم على مائدة واحدة، ويميز نفسه بشريطة زرقاء حول عنقه، ويعلق «صليبا» صغيرا من الفضة أو غيرها من المعادن، وتسمى عندهم «ماتب». ا.ه.
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذه الشريطة، فاسمع ما قاله عنها أحد الرواد الفرنسيين، وهو ما يأتي:
إن أفضل جواز للسفر يعطاه السائح الغريب في الحبشة هو شريطة من الحرير الأزرق يلبسها في عنقه فوق ملابسه، وبها يعرفون أنه من أبناء ملكة «سبأ»، ويبالغون في الحفاوة به ويفتحون في وجهه جميع الأبواب، ويدرءون عنه جميع المخاطر.
شهادة أجنبي خال من الغرض
وقد عثرنا في كتاب طبع في «روما» سنة 1345ه/1926م عنوانه: «الدولة الحبشية وكنيستها»، فنقلنا منه النبذة الآتية، وهي: «إن مزاولة المهام العسكرية هي وقف على الأحباش المسيحيين، ويحظر أشد الحظر على غيرهم القيام بها، بدعوى أنهم أحط عنصرا ودما منهم.»
المسيحي والمسلم أمام القضاء
ثم قال المؤلف: «ويكفي للدلالة على ذلك أن نأتي ببرهانين واضحين، فإذا ما ذهب المسلم والمسيحي ليتقاضيا أمام قاض نصراني، قل أن يعامل المسلم في تلك الظروف بما يعامل به خصمه المسيحي، أو بكلمة أصح، ندر أن يعامل المسلم بما يقتضيه العدل والإنصاف؛ وما ذاك إلا لأنه قد رسخ في أذهان الجميع الاعتقاد بأن المسلم هو أبعد عن تلك الجبلة التي تبيح له أن يكون هو وخصمه على قدم المساواة أمام القانون.
أما ذلك القاضي الذي بيده الحل والربط، فلا يدل مظهره في تلك القضية إلا على اقتناعه بوجوب إدانة المسلم قبل استماع ما يقوله دفاعا عن نفسه.»
ولائم الرؤساء والحكام في المواسم
ثم قال: «وهناك برهان آخر يتجلى فيه التعصب الطائفي الممقوت بأجلى مظاهره، وهو أنه في الأعياد الكبيرة السنوية قد جرت العادة أن يقيم حاكم كل إقليم الولائم الفخمة التي تذبح فيها العجول السمينة، وتقدم لحومها للأهالي والجنود، إنما يختص بها المسيحيون فقط، فيؤثرهم الحاكم ويختصهم بجزيل العطاء وجليل النعم.
أما نصيب المسلمين من هذا كله فهو الضن بالخير، والإمساك عن المعروف بكل معانيهما.» إلى أن قال: «ومجمل القول أن مسلمي الحبشة عموما، وبنوع خاص من كان منهم يقيم في أوساط مسيحية، هم في درجة من الاضطهاد والظلم والاستبداد، بحيث لم يبق لهم إلا النذر القليل من الحقوق المدنية، وخصوصا ما كان منها متعلقا بامتلاك الأراضي، أو وظائف الحكومة.» ا.ه.
هذه شهادة أجنبي نسجلها عن حال المسلمين الذين يعيشون في الأقاليم الحبشية البحتة، والذين هم فيها أقلية وطنية.
أما في المقاطعات الواقعة على أطراف الحبشة والآهلة بمسلمي أوجادين الصوماليين و«دناكل أوسه»، فإن حال المسلمين فيها تكاد تكون أسوأ وأتعس بكثير مما تقدم.
تحصيل الضرائب من المسلمين
نعم، إن هؤلاء المسلمين بعيدون عن الاحتكاك بالحكام المسيحيين وعن السلطات المركزية.
ولكن ينالهم العسف بشكله المريع عندما تصول الحكومة في تلك المقاطعات، فتطلق الأعنة لجنودها، يعبثون بمرافق سكانها المسلمين المسالمين، ويصبون عليهم أنواع الجور في تحصيل الضرائب وفرض المغارم الشاذة.
الممالك التي اغتصبتها الحبشة من المسلمين
أما تلك المقاطعات التي أخذتها الحبشة من المسلمين، فهي تحت رحمة الجنود الأحباش الموكول إليهم أمر حراستها، وهي ذات نظام جائر يسمى «الجبار»، ومعناه تحصيل الضرائب المسماة «جبر».
فالأسر التي تقطن المقاطعات المشار إليها، قد دونت أسماؤها في سجلات خاصة، ووزعت على الجنود الأحباش لتقوم بخدمتهم.
هذه الأسر المنكودة الحظ ملزمة بأن تقوم بكل ما يحتاج إليه هؤلاء الجنود في حياتهم، هم ومن يعولون، أي إنها تقوم بحرث الأراضي وزرعها وتربية المواشي لحساب أسيادها الجنود، ولا يجوز لها أن تزاول من الأعمال إلا ما يوافق رغبتهم، كما أنه محظور قطعيا على أفراد هذه الأسر البائسة أن يفروا من الأماكن التي يعيشون فيها، أو أن يتركوا خدمة من كلفوا بخدمته من الجنود، وإذا فر أحدهم ولم يعثر عليه، وجب على أهله أن يأتوا بمن يقوم مقامه في الخدمة الملزم بها.
الجيوش الخاصة ضمن الجيش العام
جاء في جريدة «الأهرام» الغراء في العدد الصادر في يوم الإثنين 8 شعبان سنة 1354ه/4 نوفمبر سنة 1935، بهذا العنوان تلغراف من مراسلها الخاص في «أديس أبابا» هذا نصه:
وهناك ظاهرة أخرى مدهشة، وهي الجيوش الخاصة ضمن الجيش العام، مثال ذلك: بين الخمسة والعشرين ألف مقاتل من رجال القبائل المعسكرة خارج «أديس أبابا» مئات من زعماء الإقطاعيات، ولكل منهم جيشه الخاص وأتباعه وعبيده.
هذا التلغراف يبين لنا حقيقة الحال، وهي أن الأسر الموزعة هي وأراضيها على الجنود تقوم معهم عند نشوب القتال بصفتها جنود خاصة، لحماية سيدها. مثال ذلك: مسلمو «لمو» يلتحقون بفرقة تسمى «الورواري» أي رماة الأسهم، ومسلمو «جالا أروسي» يلتحقون بحملة البنادق وهم «ألاي طابنجه أياج»، وقس على ذلك.
ومما تقدم نستخلص أن سكان الأقاليم التي انتزعتها الحبشة من المسلمين، والذين يبلغ عددهم أكثر من نصف السكان في هذه الأيام، هم في حالة يرثى لها من الظلم، تعيد لنا ذكرى حالة عبيد السخرة في القرون الوسطى، إن لم تكن أسوأ منها.
تقسيم سكان الحبشة في نظر رحالة سويسري
لقد قسم سكان الحبشة الرحالة السويسري «الدكتور جورج مونتندن
Gorge Montndon » في بحثه القيم حول النخاسة في الحبشة، الذي قدمه إلى جامعة الأمم عام 1342ه/1923م، فقد قال في الصفحة 14 منه ما يأتي تعريبه:
إن موظفي الحكومة الكسالى وغيرهم من الجنود، هم عالة على الصوماليين والدناكل وأهل «هرر»، وخصوصا على أهالي «جالا»، فإنهم يستخدمون العبيد المقيمين في «كفا» و«جما» و«ميجي»، وهم من الفصيلة الزنجية.
ثم قسم في الصفحة 28 من بحثه المذكور سكان الحبشة إلى 4 أقسام كما يأتي:
أولا:
الأحرار «وهم الأحباش والأمحريون».
ثانيا:
أهل الغرامة «وهم الدناكل والصوماليون».
ثالثا:
المقهورين أو خدام السخرة، وهم «الجالا» والشعوب الأخرى.
رابعا:
العبيد، وهم زنوج سانغلا.
فهل رأيت أو سمعت بأعجب من هذا التقسيم العجيب؟!
نقص السكان في المدن الإسلامية
من البديهي أن البلاد التي تكون غاصة بسكانها بسبب الرخاء والدعة، يتناقص عدد أهلها إذا دهموا بأي نوع من أنواع الجور.
وقد استطاع أحد الأطباء الغربيين أن يزور بلاد الحبشة، ويقيم في غربيها مدة ثلاث سنوات.
هذا الرجل تمكن في سنة 1352ه/1933م من كتابة نبذة مدهشة عن أحوال تلك البلاد، فبعد أن تكلم بإسهاب عن ثروتها الطبيعية وخيرها العميم قال: «إن بلادا كالحبشة أفاضت عليها الطبيعة من خيراتها الغذائية الوفيرة، كان يجب أن تكون آهلة بالسكان ورافلة في أثواب الغنى والرخاء؛ إذ من المعلوم أن كثرة السكان دليل على جودة المكان، إلا أننا مع مزيد الأسف نجد كثيرا من المناطق المشهورة بجودة جوها ووفرة خيرها وغنائها، تكاد تكون مقفرة من آثار العمران.
أما الإقليم الوحيد الذي كان يتباهى بعدد سكانه، فهو إقليم «جما أبا جفار»، لكنه سرعان ما امتدت إليه أيدي الظالمين وعصابات الغزو من أهالي «أمحرا»، وسوف لا ترفع أيديها عنه حتى يصيبه من الدمار ما أصاب سائر الأقاليم التي أمست أثرا بعد عين.»
ثم قال: «أجل، إذا ألقينا نظرة إلى الفترة التي تبتدئ بدخول المبشر «مساوي» إلى تلك الأقاليم، ونشره تعاليم «الإنجيل» فيها، وارتياد الرحالة «بوتيغو
Bottego » لتلك المناطق لتأكد لدينا صحة مسألة نقص السكان في تلك الأقاليم.»
ثم قال: «وهناك في الحبشة إقليم واسع الأرجاء تكسوه الخضرة الدائمة لما هو عليه من خصب التربة، وسرعة النماء، فلا تجد فيه بقعة إلا وهي آهلة بالسكان، ولقد كان سكان المنطقة الواقعة بين بحيرة الملكة «مرغريتا» ونهر «أدمو بوتاغو» في الكثرة، بحيث لم يكن من السهل على بعثة «بوتاغو» أن تجتاز تلك المنطقة المكتظة بالمساكن المنتشرة فيها.
هذا وقد أحصى «مسايا
Messiya » سكان إقليم «كفا» وحده، فوجدها لا تقل عن «المليون» من الأنفس، بينما لا يزيد عدد سكانه في أيامنا الحاضرة عن 50 ألفا.
وعلى هذه النسبة نقيس مقاطعات «قيرة» و«غما» و«غوما» و«أناريا» وغيرها، التي كانت آهلة بالعدد الكثير من السكان.» ا.ه.
ومحال أن يعزى هذا النقص العظيم في السكان إلى عوامل أخرى غير الحروب والغزوات التي كان يثيرها ملوك الحبشة على المسلمين، فهم كالذين قال الله فيهم:
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ؛
25
لأنهم لو تركوا هذه البلاد الممتلئة من كنوز الخير لأهلها المسلمين، لبقيت عامرة تفيض بالخيرات والبركات، ولكنهم لشدة تعصبهم لم يحل لهم إلا خرابها.
ويمكنا أن نقول: إن هذه البلاد ظلت عامرة إلى أن بدأ «منليك» يشن الغارة عليها منذ أربعين سنة بجنوده، يقتلون من يعارضهم ويغنمون ما يجدونه من خير، ويسوقون النساء والرجال والأطفال عبيدا.
وقد قلده أكثر الرءوس الأحباش الذين كانوا يأتون حكاما على تلك المقاطعات الجنوبية في شن الغارة عليها، وسلب أهلها، يذيقونهم أمر العذاب، ويكلفونهم فوق ما يطيقون من ابتزاز الأموال، حتى لم يبق من هؤلاء السكان التعساء إلا جماعات عمها البؤس بعد أن نجت من الغزاة الظالمين أهالي «شوى»، واتخذت مساكنها في كهوف الجبال والغابات تلجأ إليها متى شعرت بأدنى خطر.
وقد انتهى الحال في تلك المقاطعات إلى القضاء على الحياة الزراعية تماما، فتقلص ظلها عن تلك الأقاليم الخصبة، وتحولت أرضها إلى أحراج وغابات.
شهادة حبشي وثني
ومما هو جدير بالذكر ما قاله كاتب حبشي يدعى «ج. ف. أفيرك
Afework »، في كتابه المسمى «دليل السائح في الحبشة»، وضعه باللغة الفرنسية، وطبعه سنة 1908 في «روما»، وجعله على طريقة السؤال والجواب، ونحن ننقل بعض شذرات تتعلق بمعاملة الأحباش للفلاحين المسيحيين، ذكرها المؤلف ليدل على سوء المعاملة التي يعامل بها قومه الوثنيون، قال:
س:
قل لي أخيرا، هل الرعايا «جبار» في الحبشة هم حقيقة عبيد «باريا»؟
ج:
إن حالة هؤلاء الأقوام لأسوأ بكثير من حالة العبيد؛ لإن هؤلاء يشتغلون لحساب أسيادهم الذين يعطفون عليهم، ويقدمون لهم الطعام والكسوة، بينما الرعايا «جبار» محرمون من هذا كله، فهم يعملون ليلا ونهارا لحساب أسيادهم، ويقدمون لهم الغذاء من عرق جباههم.
س:
كيف يعامل الحكام المسيحيون الأحباش سكان أقاليم «غالا»؟
ج:
إذا كان الرعايا من المسيحيين يعاملون تلك المعاملة القاسية البربرية، وهم إخوان الأحباش بالدين، فكيف تكون معاملتهم للوثنيين التعيسين؟ ا.ه.
نقول: إن حالة «غالا» المسلمين لا تمتاز بشيء عن حالة وثني «غالا» التي ذكرها الكاتب المذكور.
ويظهر لنا، من كل ما قدمناه، أن الحقد على المسلمين لا يزال كامنا في صدور الأحباش في هذه الأيام، كما كان في الأيام السالفة، حتى إنهم لا يأكلون من ذبيحة المسلم، ويجتهدون في أن تكون حالتهم وهيئاتهم ممتازة عن المسلمين، كما مر لنا في ذكر «الشريطة الزرقاء».
ومن أسباب التباعد والجفاء بين المسيحيين والمسلمين أن المسيحيين يحرصون الحرص كله على أن يكون في أعمالهم وحركاتهم ما يميزهم عن المسلمين، كأن يعلقون مثلا في أعناقهم «عقدا» خاصا يسمى في لغتهم الأمحرية «ماتب».
نعم، إن نفور الحبشي المسيحي من معاشرة الحبشي المسلم وابتعاده عنه يعد خيرا عظيما للمسلمين، لو أنه كان خاليا من الظلم والتعسف؛ لأن حالة الأحباش المسيحيين ومعيشتهم مصحوبة بشيء من القذارة والخطرات الصحية.
فقد ذكر صاحب «الرحلة الحبشية» في الصفحة 182 عبارة تدل على ذلك، ننقلها بحروفها، قال:
الأحباش المسيحيون - ما عدا أكابرهم - لا يغسلون أجسامهم ولا ملابسهم؛ فلذلك لا يصعب على الإنسان بعد مخالطتهم برهة قليلة أن يفرق بين المسيحي والمسلم؛ لأن المسلم يجدد وضوءه كل يوم جملة مرات، فتظهر آثار ذلك عليه.
والأمراض المعدية القتالة، مثل «الزهري» وغيره منتشرة بين عوام «الأمحريين» المسيحيين؛ لكثرة اختلاط النساء بالرجال.
وأما المسلمون فقلما تنشر فيهم هذه الأمراض. ا.ه.
الجمعيات الخيرية الإسلامية بالحبشة
أسس المسلمون في الحبشة كثيرا من الجمعيات الخيرية «الإسلامية» لتعليم أبناء المسلمين وتثقيفهم، ومع أن الحكومة لا تمدها بأي عناية أو إعانة، فإنها جاءت بأعمال عظيمة، وهي السبب في إرسال «البعثة الأزهرية» إلى الحبشة، كنادي الاتفاق الإسلامي، والجمعية الوطنية، وجمعية التعاون، وجمعية الشبان المسلمين.
وقد كتب رئيسها إلى جريدة «روز اليوسف» الغراء ثناء على أعضاء البعثة الأزهرية، درج في عددها المؤرخ 21 أكتوبر سنة 1935، وينتظر أن تكون هذه الجمعيات المؤلفة من خيار المسلمين في الحبشة سببا في سعادة أولئك المخلصين في الآتي إن شاء الله تعالى.
مرتبات قضاة الإسلام وأئمة المساجد في الحبشة
أما مرتبات خدمة المساجد وأئمتها في الحبشة وكذلك القضاة، فيقوم بها الأهلون من أموالهم الخاصة بدون أن تمدهم الحكومة بشيء ما.
المسلمون في المناطق المتاخمة للحبشة
يليق بنا، وقد انتهينا من ذكر حال المسلمين في المملكة الحبشية، أن نذكر بصفة عامة حال المسلمين المقيمين في المناطق المتاخمة للحبشة وفاء للموضوع، فنقول:
أولا :
الإريترة؛ إن المسلمين في شمال الإريترة الإيطالية وشرقيها يؤلفون نصف سكان تلك المناطق على وجه التقريب.
وقد دل إحصاء سنة 1350ه/1931م على أن عدد المسلمين هناك يبلغ 300000 نسمة من مجموع السكان البالغ عددهم 617000 نفس.
وهؤلاء المسلمون كلهم سنيون، بين أحناف وشافعية ومالكية، ولهم محاكم شرعية، وعلى رأسها القضاة الشرعيون، يفصلون فيما يعرض عليهم من القضايا الدينية والأحوال الشخصية، كما أن لهم الحق أيضا في الفصل في القضايا «المدنية»، حتى إن بعضهم تنسم فيها المناصب العالية.
وكذلك نجد في «تسناي» مركزا للطريقة المرغنية، التي هي فرع من الطريقة المرغنية السودانية المصرية.
ولا يخفى أن لهذه الطريقة وغيرها، القدح المعلى في جمع كلمة المسلمين ، وتخلقهم بالفضائل النفيسة.
وإذا أمعنا النظر في الأمر وجدنا أن المسلمين في هذه المستعمرة الإيطالية قد أحرزوا حظا وافرا من التقدم عما كانوا عليه في الجيل الماضي.
وقد قارن المستشرق الألماني المشهور «لتمان» في مقال له، نشرته مجلة «در إسلام»
Der Islam
عام 1338ه/1920م، قابل فيه بين حالة المسلمين وتعدادهم سنة 1281ه/1864م بموجب إحصاء «مونزنجر»
Munzinger
وحالتهم وعددهم سنة 1323ه/1905م بموجب الإحصاء الإيطالي، فثبت لديه من هذه المقارنة أن هناك زيادة محسوسة في عددهم، وتقدما عظيما في شئونهم الاجتماعية، كل هذا كان في تلك الفترة القصيرة.
فإذا قيل: إن هذا الفرق لم ينتج من كثرة المواليد لقرب ما بين التعدادين. نقول: إن الأمن والدعة من أكبر دواعي إقبال الناس على سكنى البلاد التي يوجدان فيها، كما قال شاعرنا «المتنبي»:
وكل مكان ينبت العز طيب
وهناك نجد أيضا عدة قبائل تتكلم اللغة الأمحرية، مثل «الماديا» و«منسا»، وبعض من قبيلة «بوغس» قد اعتنقت الإسلام بعد أن كانت على النصرانية.
وما ذاك إلا لاحتلال المصريين للسودان، ورسوخ أقدامهم فيه، حيث قامت مدينة «كسلا» سنة 1256ه/1840م، ثم احتلالهم لمدينة «مصوع»، وإقامتهم هناك حوالي عشرين سنة، أي من سنة 1281 إلى سنة 1301ه/1864-1884م.
ولا نزال نرى إلى الآن حركة متواصلة بين أهالي «باريا» و«كنامة» الوثنيين للدخول في الإسلام أفواجا . •••
وقد كتب المستر «يوناس يارسون
Yonas Ywarson » السويدي مقالا قيما في مجلة «العالم الإسلامي» التي تصدر في «نيويورك»، وذلك عام 1347ه/1928م، نقتطف منه ما يأتي:
ما كادت بلاد «الإريترة» تقع في يدي الطليان، وتنفصل عن أجزاء الحبشة، حتى تنفس سكانها المسلمون الصعداء، وتمتعوا بكامل حريتهم الدينية، وهم يؤلفون أكثر من نصف مجموع السكان، ومحاطون بعناية خاصة من قبل الحكومة الإيطالية هناك، وتكرم رجال الدين، وتقدم لهم الإعانات لبناء المساجد وإقامة المدارس والملاجئ، وهم والمسيحيون في الحقوق الاجتماعية على أتم المساواة. ا.ه.
وفي صيف السنة الماضية زار أحد المسلمين البارزين مدينتي «أسمره» و«مصوع»، ونشر في مجلة «الفتح» التي تصدر في القاهرة في عددها الصادر بتاريخ 10 ذي القعدة سنة 1353ه/1938م، مقالا مهما أظهر فيه إعجابه، مما شاهده في تلك الأصقاع من نظام وحسن إدارة، وملأه من الثناء على الحكومة لما تبذله من العناية وحسن الكياسة مع السكان المسلمين، الذين يتمتعون بكامل حريتهم «الدينية».
ثانيا:
يعيش في السودان «المصري الإنكليزي» عدد عظيم جدا من مسلمي تلك المناطق، وخصوصا في الناحية الغربية من الحبشة.
وقد أشرنا فيما سبق إلى ما كان للسودان المصري من التأثير في الدعاية الإسلامية، ونشر الإسلام، حتى بين الأحباش أنفسهم.
ولا يخفى أن مجموع سكان السودان يبلغ ستة ملايين، بينهم ما يزيد عن النصف «مسلمون سنيون» بين مالكية وشافعية.
وهناك طرائق الصوفية المتعددة من «تيجانية» و«قادرية» و«سمانية» و«خلوتية» و«شاذلية» و«مرغنية»، وهي تؤلف جيشا جرارا من أهل الصلاح والتقوى، لمحاربة الجهل والإجرام.
وهناك العلماء الأعلام والأدباء والشعراء.
وللمسلمين «المحاكم الشرعية» المنتشرة في جميع أنحاء السودان، وقاضي قضاتهم يعين من مصر، ويقضي في شئونهم الدينية وأحوالهم الشخصية بأوسع معاني العدل.
والمدارس الإسلامية مزدحمة بالطلاب، ومنهم في «الجامع الأزهر الشريف» كثيرون يقصدونه لإتمام الدروس الدينية العالية.
وفي القلابات، وهو إقليم قديم من «متمه» على حدود الحبشة، نجد أسرا عديدة من أصل حبشي هاجرت من وطنها هربا من الاضطهادات التي أثارها «النجاشيان تاودروس ويوحانس».
ثالثا:
وفي بلاد «كنيا» المتاخمة للحبشة الغربية لمسافة بعيدة، يعيش أكثر من مليون مسلم سني، أي نصف مجموع السكان، وهم على مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رضي الله عنه.
وأهم مراكز المسلمين فيها مدينة «ممبازا» التي نالت شهرة واسعة في تلك الأنحاء؛ لأنها كانت من أهم العوامل في نشر الإسلام وبثه في كل «أفريقيا الشرقية»، وكانت ذات صلة متينة مع سكان جنوبي «جزيرة العرب» و«الخليج الفارسي» و«الهند».
رابعا:
المسلمون في «الصومال الإيطالي» يؤلفون الأكثرية الساحقة من سكانه، وبلغ عددهم في إحصاء سنة 1931م 1009157 نفسا، وكلهم سنيون يتعبدون على مذهب «الإمام الشافعي»، ولهم محكمة شرعية يرأسها قضاة عادلون، والطرق الصوفية فيها منتشرة، ويسمونها «الجماعة»، أهمها «القادرية» و«الأحمدية» و«الصالحية» و«الرافعية»، ولهذه الطرق اليد الطولى في نشر الإسلام ، وتحسين الشئون الاجتماعية بين الشعب.
خامسا:
ونجد الصومال الإنكليزي الذي استولت عليه «بريطانيا العظمى» سنة 1301ه/1884م، أن فيه من المسلمين 300000 ألف نسمة، وكلهم سنيون يتعبدون أيضا على مذهب «ابن إدريس الشافعي»، وهم متمتعون بإقامة الشعائر الدينية، ولهم محاكم شرعية وقضاة عادلون.
والطريقتان «القادرية» و«الخلوتية» منتشرتان بينهم، وعلى جانب عظيم من الازدهار، وحقوقهم مع الطوائف الأخرى قائمة على المساواة، والحكومة الإنكليزية تحترم شعائرهم الدينية كما قدمنا، وتساعدهم على نشر العلم والدين؛ لأنها وجدت في تقدمهم العلمي وإطلاق حريتهم الدينية خير معوان لها على رفاهية البلاد، ونشر أجنحة الأمان.
ولا ننس أن مدينة «زيلع» كانت من أهم المراكز الحربية للمسلمين ضد طغيان الحبشة.
وكل منا يذكر الثورة الشديدة التي دار رحاها في تلك الأصقاع من سنة 1317-1338ه/سنة 1899-1920م، وكان القائم بزعامتها محمد بن عبد الله حسان المهدي، المنحدر من إحدى القبائل الصومالية في «أوجادين» الحبشية.
سادسا:
وفي تلك الأرض المحيطة بمدينة «جيبوتي» التي هي الصومال الفرنسي، نجد 200100 نفس من المسلمين، وكلهم سنيون، وعلى مذهب الإمام الشافعي.
والطريقة القادرية هناك تفوق غيرها من الطرق الصوفية، ولها نفوذ يذكر في نفس أبناء الشعب «الصومالي» الذين تربطهم باليمن ومسلمي سلطنة «أوسة» و«جلاولو» روابط الصداقة المتينة والعلاقات الحسنة.
ومن مدينة «جيبوتي» يمتد خط السكة الحديد إلى داخل الحبشة؛ حتى يصل إلى عاصمتها «أديس أبابا»، مارا في «ديرة داوه».
هذه هي البلاد المجاورة للحبشة، والتي تحيط بها من جميع نواحيها، ويقيم فيها المسلمون تحت نفوذ «الإنكليز والفرنساوين والإيطاليين»، بلغت فيها الطوائف الإسلامية منتهى حريتها الدينية، وأصبحت تعيش مع باقي السكان على أتم قواعد العدل والمساواة.
ولاء المسلمين لحكومة الحبشة وإخلاصهم
ليس في العالم طائفة تتناسى ما يقع عليها من الجور، وتغض الطرف عن الإساءة مثل مسلمي الحبشة، فإنهم مع ما يلاقونه من عسف الحكام الأحباش وجور الأحكام، يقفون إلى جانب الحكومة عند شدتها، ناسين ما فعلته معهم وما زالت تفعله.
والدليل على ذلك ما ورد في جريدة «المقطم» الغراء في العدد الصادر في 8 نوفمبر سنة 1935، من أن 120 زعيما من زعماء المسلمين رفعوا للإمبراطور «هيلاسلاسي» عريضة، يعربون فيها عن ولائهم له، قاطعين على أنفسهم عهدا بأن ينصروا القضية الحبشية، ويدافعوا عنها بحياتهم وأموالهم.
وجاء في مجلة «المصور» في ملحق الحرب الصادر في 17 نوفمبر سنة 1935 ما يأتي: «وكان المسلمون والمسيحيون في الحبشة يعيشون مفترقين عن بعضهم، لم تكن بينهم عداوة ولا حزازات،
26
ولكنهم كانوا يؤثرون عدم الاندماج في بعضهم البعض، حتى قامت «إيطاليا» تهدد الحبشة بالغزو والفناء، فأسرع زعماء القبائل الإسلامية وكبار تجار المسلمين، وأعيان «الأوجادين» و«هرر» و«الصومال» يبايعون الإمبراطور بالطاعة، والتفاني في الدفاع عن البلاد.
وكان يوم الأحد 18 أغسطس سنة 1935 يوما مشهودا في تاريخ الحبشة، فإن أئمة المسلمين في يوم الجمعة السابق لذلك اليوم، بعد أن صلوا بالناس صلاة الجمعة، ألحوا عليهم بأن يذهبوا إلى «كاتدرائية مار جرجس»، وأن يحضروا قداس الشفاعة في يوم 18 أغسطس.
وأقيم القداس، وإذا بالمسلمون يفدون على الكنيسة من كل مكان، ويشتركون في «القداس»، ويظهرون القومية التي اكتسحت كل الفوارق الدينية في ساعة الخطر.» ا.ه.
أقول: انظر إلى شمم هذه الطائفة المباركة وفضلها، وكيف نسيت إساءات 1300 سنة تقريبا احتملتها من الحبشة وحكومتها المسيطرة على البلاد، وتكاتفت معهم للدفاع عنهم ، تبذل في معونتهم النفوس والأموال، فيا ترى هل تحفظ لهم حكومة الحبشة هذا الجميل وتساوي بينهم وبين شعبها في العدل والإنصاف، من الآن وفيما بعد؟
المسلمون هم سور المملكة الحبشية
إن الشعب الحبشي المسيطر على الهضبة، لو أن لديه شيئا من الإنصاف لأعطى المسلمين الأوج الأعلى في المملكة الحبشية؛ لأن المسلمين هم السور الأعظم المنيع للبلاد، وعليهم تقع الصدمة الأولى من كل مغير وفاتح.
فالدناكل من جهة الشمال الشرقي - وهم من أقوى المقاتلين في الحبشة - كلهم مسلمون، وصومال «الأوجادين» في الشرق والجنوب الشرقي كلهم مسلمون، و«بوران» و«سداما» و«كافا» في الجنوب والجنوب الغربي كلهم مسلمون، و«هرر» كلهم مسلمون، وقبائل بني عامر على حدود السودان كلهم مسلمون.
وجميع هؤلاء المسلمين الأقوياء الأشداء يحيطون بالحبشة إحاطة السوار بالمعصم، ويطوقونها بقوتهم من جميع جهاتها، فلو لم يكونوا من أشد الناس ولاء وإخلاصا لها لتألبوا عليها مع كل عدو يغزوها تشفيا وانتقاما مما تفعله معهم، ولكنهم لم يكونوا يوما ما خائنين، بل نراهم يقابلون دونها الصدمة الأولى بنفوس مطمئنة وقلوب سليمة.
أقوال الجرائد الإسلامية عن مسلمي الحبشة
من الناس من لا يعرف حياة المسلمين في الحبشة، بل قد لا يتصور واحد من عالم هذا العصر ما يلاقونه من الجور وسوء المعاملة في بلاد هم فيها أكثرية عظيمة، ولهم فيها الأحقاب الطويلة، وهم عماد سعادتها الاقتصادية.
لهذا حينما شبت الحرب بين الحبشة والطليان، قامت الصحف العربية - لا سيما - الإسلامية تنادي: «أن أعينوا الحبشة.»
أما الصحف غير الإسلامية فإننا ندعها وشأنها، ونترك لها حرية الرأي؛ لأنها لها نيتها الحسنة في الدعوى لمساعدة شعب معتدى عليه، ونشاركها في ندائها؛ ولأنها تؤدي هذه المهمة عينها، فيما لو كانت الحبشة قامت بخيلها ورجلها تحارب دولة تجاورها أضعف منها.
وأما الصحف الإسلامية فإننا وإن كنا لا ننكر عليها مثل هذا النداء الإنساني، إلا أننا نكلفها أمرا واحدا نكتفي به عن إطالة الأخذ والرد والبحث فيما لا طائل تحته.
والأمر الذي نطلبه منها هو أن تأتي بنسخ من القوانين السارية في جميع ممالك العالم، ثم نرجو من صاحب الجلالة «هيلاسلاسي» إمبراطور الحبشة أن يختار قانونا منها، ويصدر أمره بمعاملة رعيته على ما يقتضيه، وأن لا يفرق بين المسلمين وغير المسلمين في تطبيقه.
نقول ذلك لأن كل القوانين السارية في ممالك العالم تشتمل على ما يكفل حقوق الأفراد بين مختلف رعاياها.
ولكن المملكة الحبشية ليس فيها مثل هذا القانون، وإرشادها إلى عمل كهذا يعد من أعظم المساعدات التي تقدم إليها؛ لأنها تصير باتباعها دولة ذات شأن وشوكة.
أقوال جريدة فلسطينية
وقد شذ عن زملائه في هذا الموضوع صاحب جريدة «الجامعة العربية»، التي تصدر في «القدس»، وكتب مقالا نفيسا يندب فيه حظ بلاده، ويعجب من طلب الجرائد العربية الانتصار للقضية الحبشية، ننقله بحروفه، لما ورد فيه خاصا بشأن المسلمين في الحبشة.
قال في العدد الصادر في 31 مارس سنة 1935 ما نصه:
لم يوجد غير مسلمي الأندلس، من أصابهم العذاب الذي انصب مدة مئات من السنين على مسلمي الحبشة، وليس ذلك شيئا مضى وغاب في ظلمات التاريخ، بل في زمان قريب من هذا الزمن، أي منذ 60 أو 70 سنة، صدرت أوامر الملك «يوحنا» نجاشي الحبشة بإكراه المسلمين أجمع على التنصر، وتنصروا قاطبة في الظاهر، ورحل منهم قسم كبير، وثار الذين قدروا على الثورة، ولم تنته هذه الفظائع إلا بموت «يوحنا»، فعندها رجع المسلمون إلى الإسلام، ولكن بقي منهم جانب عظيم على النصرانية.
والذي عندي من المعلومات عن الحبشة، بقلم أناس من الثقاة الأحباش، أن مقاطعة «يلو» التي هي مركز الإسلام هناك، أصبح بها عشرة في المائة مسيحيين، بعد أن كانوا مسلمين بأجمعهم، وهذا بضغط الحكومة.
وعدا ذلك فمن المعلوم أن مسلمي الحبشة وهم ستة ملايين لا تعدهم حكومة الحبشة كأنهم موجودون، ولا يوجد في الحكومة الحبشية مسلمون إلا ما ندر، وفي وظائف تافهة جدا.
فالدولة التي تعامل المسلمين، وهم نصف رعاياها، بهذه المعاملة، لا تستحق كل هذا الاندفاع في الدفاع عنها من جانب أناس من المسلمين. ا.ه.
وكتب أيضا في العدد الصادر في 4 أبريل سنة 1935 ما نصه:
إن الحبشة أبعد جدا عن خطر الابتلاع منا نحن الذين في أفواه الحيتان.
إن العاقل ينبغي أن يتبصر بنفسه حينما يكون السيف في رقبته، فلا يتعرض لما لا يعنيه، وهو عاجز جد العجز عما يعنيه.
إننا نحن على كل الأحوال، وبدون مواربة، لا نرضى بإزالة استقلال مملكة مستقلة كالحبشة، ولا نوافق على مبدأ استعباد شعب لشعب؛ لأننا نحن واقعون في هذه المصيبة، فإذا كنا ننكر هذا المبدأ من أصله، فليس من المعقول ولا من المقبول أن نكون ممن يروج سياسة استيلاء «إيطاليا» على الحبشة، ولكنا في الوقت نفسه نرى فرضا علينا تذكير قومنا بالأمور الآتية؛ لأنها حقائق، والحق يعلو ولا يعلى عليه:
الأول:
إننا من الضعف ومن الاحتياج إلى عضد الدول الكبري، بحيث لا نقدر أن نعادي دولة كدولة «إيطاليا»، وإننا لو كنا نقدر أن نستعطف دولتي «فرنسا» و«إنجلترا» لكان ذلك من أعظم الأماني، ولكن مع الأسف منذ وضعت الحرب العامة أوزارها نحاول استعطاف هاتين الدولتين، حتى تكفا عن أذى الأمة العربية، ولا تريدان أن تسمعا لنا كلاما، فنحن في العداوة معهما من قبيل «مكره أخاك لا بطل»، وفي أي وقت علمنا أن «إنجلترا» تريد أن تقف في وجه المهاجرة الصهيونية، وتمنعها منعا أكيدا باتا - لا المنع المصنع الحالي - فإننا نذهب بأنفسنا إلى «لندن» ونأخذ معنا وفدا من جميع العرب، حتى نقدم الشكر للحكومة البريطانية.
الثاني:
إن الذي يكون في موقفنا من خطر الابتلاع الأجنبي، لا يجوز له أن يوزع مجهودات على الغير، وأن ينتصر لأناس هم أبعد ألف مرة عن خطر الهلاك منه.
الثالث:
ليست الحكومة الحبشية هي التي يجب أن نغضب لأجلها كل هذا الغضب، وهي التي منذ قرون تضطهد المسلمين الذين في بلادها، وتذيقهم ألوان العذاب وتجبرهم على التنصر. ا.ه.
ما قالته مجلة الفتح
إن مجلة الفتح التي تصدر في القاهرة، تعد من أجل المجلات الإسلامية، وإنها تكتب عن روية وبعد نظر.
لذلك نرى أن لقولها قيمته العظيمة، وإليك ما ورد في عددها الصادر في 24 ذي القعدة سنة 1353ه/29 يناير سنة 1935م، ما نصه: «في الحبشة ثلاثة ملايين من المسلمين أو يزيدون، ولكن لا نسمع لهم صوتا ولا نرى لهم أثرا في الحكومة الحبشية، مع أنهم كانوا فيها ملوكا منذ قرون، وقد قيل لنا إنهم أغنى الأحباش.
إذن، فما لهم لا يجمعون شملهم ويوحدون جبهتهم، ويقومون بعمل يجعل الحكومة تعطيهم من الحقوق ما يتناسب مع عددهم وعملهم.» ا.ه.
كيف كان الأجدر بالحبشة أن تكون
كتب المستر «درلي
Darly » في كتابه المسمى «العبيد وتجارة العاج» المطبوع في لندن سنة 1926م، كلمة أبدى فيها رأيه في المملكة الحبشية، وكيف أنها لم تضع نفسها في المركز اللائق لدولة لها مثل شعوبها وأراضيها، نقتطف منها ما يأتي، قال:
كان من اللائق بالحبشة أن تكون قلبا لأفريقيا الشمالية الشرقية، ولكن أنى يتأتى لها ذلك إذا كانت الشرايين المعول عليها في تغذية سائر أعضاء الجسم خالية من عوامل الحياة، فاترة منحلة، فكيف تكون حال تلك الأعضاء التي أنهكتها سياسة الحكومة الحبشية القائمة في إرهاق السكان، وإبادة العناصر العربية من الحبشة، يقذف بهم في ظلمات الجهل والتأخر. ا.ه.
أقول: إنما يقصد بالشرايين المسلمين المنتشرين في الحبشة انتشار الشرايين في الجسم؛ لأن المسلمين هم أهل الكد والعمل في الزراعة والصناعة والتجارة، وهم الوسيلة الفعالة لإيصال التغذية إلى كافة أعضاء جسم الحبشة، فاستنزف دم هذه الشرايين ينتهي بها إلى الضعف الذي يعقبه الموت.
الخلاصة
نستخلص مما كتبناه ما يأتي:
أولا:
إن العلاقات التاريخية بين المسلمين والأحباش، كانت ولم تزل علاقات غير محمودة؛ لأنها كناية عن سلسلة من الخصام محكمة الحلقات.
فمن بزوغ فجر القرن الثامن الهجري إلى عهد قريب، ونار الشقاق مستعرة بين الطرفين، وقد وقع على المسلمين فيها شيء كثير من أنواع الظلم والاضطهاد لا يحسن الصبر عليه، فقد انتزعت منهم ممالكهم التي أسسوها بحزم سادتهم، ودافعوا عنها بعزم قادتهم، فقوضت عروشهم منها، وسلبتهم حقوقها الشرعية الموروثة بعد أن خربتها بأيدي جيوشها.
ثانيا:
إن أكثر عدد من المسلمين يقيم في مناطق تعد خارجة عن حدود الحبشة التاريخية، فكان يجب أن يتمتع هذا الشعب بكامل حريته في الدين والاقتصاد والإدارة، فيكون جارة شقيقة لها مثل حقوق جارتها وشقيقتها، لا أن تعاملها معاملة المستعمرات المحتلة قوة واقتدارا.
ثالثا:
إن الأكثرية الساحقة من مسلمي الحبشة، ليس لها بالأحباش الأصليين صلة ما، فالمسلمون الذين يختلفون عن الأحباش من حيث الدين، يختلفون عنهم أيضا في اللغة والعنصر والعادات، وفيهم من أصبح على درجة جليلة من المدنية والثقافة، مما لا يزال الشعب المسيطر عليهم محروما منه.
رابعا:
إن مسلمي الحبشة يقاسون الأمرين على يد أسيادهم الأحباش، وهم مكلفون بإعالة جنود شوى وأمحرا وخدمتهم، بدون أن تمدهم الحكومة بالمساعدات التي ترفع عنهم الظلم والأذى وفداحة الضرائب.
الإمبراطور هيلاسلاسي
للمسلمين بارقة أمل في جلالة الإمبراطور «هيلاسلاسي» في أن يكون النجاشي الثاني، الذي يشملهم بالعدل ويحميهم من جور شعبه، ويكون ذا عطف عليهم كما فعل النجاشي الأول «أصحمة - رضي الله عنه» مع آبائهم المهاجرين الكرام في بدء الإسلام.
أقول ذلك لما أشيع من أنه على إثر زيارة جلالته لمقاطعة «هرر» أبدى استعداده لتحسين حال سكانها المسلمين المساكين، بتخفيف الضرائب التي أثقلت كواهلهم، مع أخذهم بالعطف والرفق، ووعدهم بتحسين حالتهم المادية والمعنوية، وقد ظهر بهذه العاطفة بعد تنكره لهم فيما مضى، وصرحت حكومته بأنه لا فرق بين الرعايا المسلمين والمسيحيين الأحباش أمام قوانين البلاد، التي لا تنظر إلى ما بينهم من الفوارق الدينية.
على أن المقاصد الشريفة العادلة، وهو جدير بمثلها، قد لا تتم إلا في «أديس أبابا» مركز الحكومة، ويصعب جدا أن تثمر أي فائدة في غيرها من الأقاليم؛ إذ من الصعب محاولة تنفيذ عقلية الشعب الحبشي بمجرد الأمر، أو أن يقبل أي حبشي مسيحي أن يتنازل من عليائه إلى المساواة بينه وبين المسلم، الذي هو في نظره أحد عبيده.
وقد علمنا من مصادر يوثق بها أن كل رأس من رءوس الحبشة له التصرف المطلق في أحكامه على أهالي إقليمه، وليس للإمبراطور عليه في إدارة شئونها شيء من السيطرة، لا قليل ولا كثير، ولا تربطه بإمبراطوره إلا دعوة الحرب ودفع القدر المعلوم من المال.
والذي استنتجه من حال الحكومة الحبشية المسيحية مع رعاياها المسلمين، أن الأحباش الذين تعودوا أن يعيشوا على كد كواهل سواهم، يخافون من المسلمين الذين يماثلونهم عددا ويفوقونهم ذكاء ونشاطا، إذا تمت بينهم وبينهم المساواة في الحرية والمعاملة، لا يمضي زمن طويل حتى يتفوق العنصر الإسلامي من جميع مرافقه، ويتلاشى الشعب الحبشي الأصلي بين يديه ويصبح محكوما في كل شيء، بعد أن يكون هو الحاكم المسيطر.
وهذا الرأي يسود الأمة الحبشية من قديم، ومحال أن ينزع من عقيدتها.
على أن التاريخ أوضح لنا بأجلى المظاهر، أن هذه الحكومة قد عجزت الأجيال التي مرت عليها، عن أن تجعلها في الدرجة التي يستحقها سكان هذه البلاد الخصبة من الرقي والعمران ، ولكن لنا من الآمال العظيمة التي يشاركنا فيها جميع مسلمي العالم في حكمة جلالة الإمبراطور الحالي وحسن رأيه، أن يرد للمسلمين كل حقوقهم وأن يقابل جميلهم، وقد هبوا لمساعدته بالأرواح والأموال في هذه الأزمة الضروس بما يستحقون من الرعاية والعطف، والله يجزي الشاكرين.
واجب اللجنة العامة للدفاع عن «القضية الحبشية» نحو الإسلام
مما يجب علينا أن نستبشر به، ونعده واسطة ذات أثر مفيد في تحسين حال المسلمين في الحبشة، هذه اللجنة المباركة التي قامت في مصر للدفاع عن «القضية الحبشية»، وعلى رأسها الأمير الجليل فخر الأسرة المحمدية العلوية، صاحب السمو «عمر طوسون باشا»، ويمده برعايتها صاحب الغبطة «الأنبا يؤنس» بطريرك الأقباط الأرثوذكس المصلح القدير، وصاحب العزة الدكتور «عبد الحميد سعيد» رئيس جمعية الشبان المسلمين بمصر ونائب اللجنة، ومن معهم من كبار الأمة المصرية - مسلمين وأقباط - أن تجعل مهمتها بعد ذهاب هذه المحنة المدلهمة، إقناع جلالة الإمبراطور «هيلاسلاسي» بان مصر القائمة على عنصري المسلمين والأقباط تتمنى من صميم أفئدة أبنائها - حكومة وشعبا - في أن يمد للمسلمين في الحبشة يد المعونة والمساعدة في ترقية شئونهم، ويحافظ على تنفيذ شعائرهم الدينية كما تقتضيها شريعتهم الغراء، ويسوي بينهم بالعدل أمام القانون، ويسهل لهم كل سبيل يرون لهم فيها مصلحة نافعة، وأن يتخذ من رجالهم «الأكفاء» لحكومته كما يتخذ من الأحباش المسيحيين، وأن يساعد جمعياتهم العلمية والدينية، ويحميها من عبث الجاهلين.
بذلك يكون قابل جميل اللجنة بمثله، بل وبأحسن منه.
الخاتمة
تم بحمد الله وحسن توفيقه هذا الكتاب الذي أوضحت فيه حال الإسلام في «المملكة الحبشية»، وكيف يعيش المسلمون هناك.
وقد ألفته وأسرعت في إظهاره لأغتنم فرصة جعله وسيلة لتحسين حال إخواننا في الدين مع إخوانهم في الجوار.
هذا ولا أنسى ما قام به صهري حضرة الأستاذ الأديب والبحاثة المحقق «أحمد سعيد البغدادي أفندي» من المعونة لي في إظهار هذا الكتاب إلى الوجود، بما أمدني به في كثير من أبوابه.
كما أذكر بالشكر صديقي حضرة الأستاذ الكاتب القدير «بولس مسعد»، الذي ساعدني في الحصول على بعض الوثائق الإفرنجية وترجمتها.
جزاهما الله تعالى خيرا على هذه الخدمة التاريخية الجليلة.
المؤلف
يوسف أحمد
21 شعبان سنة 1354ه/18 نوفمبر سنة 1935م
Halaman tidak diketahui