ـ[إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك]ـ
المؤلف: برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن أيوب بن قيم الجوزية (المتوفى ٧٦٧ هـ)
المحقق: د. محمد بن عوض بن محمد السهلي
قسم من هذا الكتاب: هو أطروحة دكتوراة للمحقق
الناشر: أضواء السلف - الرياض
الطبعة: الأولى، ١٣٧٣ هـ - ١٩٥٤ م.
عدد الأجزاء: ٢ (في ترقيم مسلسل واحد)
أعده للشاملة/ فريق رابطة النساخ برعاية (مركز النخب العلمية)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Halaman tidak diketahui
المبحث الأول: نسبه، وكنيته ولقبه
نسبه:
هو أبو عبد الله جمال الدين: محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن مالك الطائي الجّياني، وهذه السلسة النسبية هي رواية دائرة المعارف الإسلامية، وسار عليها الدماميني في تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، وقد ذكرها بروكلمان، وذهب المقري في نفخ الطيب إلى أ، بعض الحٌفاظ-حين عَرف بابن مالك- قال"يقال: إن "عبدالله" في نسبه مذكور مرتين متواليتين، وبعض يقول مرة واحدة، وهو الوجود بخطه في أول شرحه لعمدته، وهو الذي اعتمده الصفدي".
هذا وقد عرّف محمد بن على بن طولون في هداية السالك فقال: (هو: محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عبدالله-ثلاثًا- ابن مالك".
وقد اكتفى بعضهم بذكر: محمد بن عبدالله بن مالك، أو محمد بن مالك، اكتفاء بالمشهور.
كنيته ولقبه:
يكنى ابن مالك ب: أبي عبدالله، ويلقب بجمال الدين.
1 / 9
المبحث الثاني: أسرته
لم تفد المصادر بشيء عن أسرة ابن مالك، كما أنه لم ينقل عنه أنه صرح بشيء من ذلك - أيضًا_ ويرجح كثير من الباحثين أن يكون والداه قد توفيا وهو صغير، وهذا -إن صح- يمكن اعتباره من دواعي راحلته إلى المشرق، ولا سيما أنه لم يعد إلى مسقط رأسه "الأندلس" بعد ارتحاله الموفق عنها.
المبحث الثالث: مولده
ولد ابن مالك في "جَيَّان"-بفتح الجيم وتشديد الياء_ وهي إحدى مدن الأندلس الوسطى، وكانت ولادته سنة ٦٠٠ هـ على أكثر الروايات وأقربها إلى الصحة.
المبحث الرابع: دراسته بالأندلس
يبدو أن ابن مالك بدأ دراسته بحفظ القرآن الكريم كما جرت عليه
1 / 10
عادة طلاب العلم في عصره وصره، واستتبع ذلك دراسة القراءات وحفظ ما تيسر له من المتون المختلفة، ولا سيما متون النحو واللغة، وقد ذكره ابن الجزري -في طبقات القراء- فقال: "قد شاع عند كثير من منتحلي العربية أن ابن مالك لا يُعرف له شيخ في العربية ولا في القراءات ولي كذلك، بل قد أخذ العربية _في بلاده عن ثابت بن خيار، وحضر عند الأستاذ أبي علي الشلوبين نحو العشرين يومًا".أ. هـ.
المبحث الخامس: رحلته وأثرها فيه
ولد ابن مالك في الأندلس، وقضى باكورة شبابه فيها في حين لم تكن فيه الأحوال السياسية مستقرة، فقد كان الصراع على أشده بين المسلمين والإفرنج، تبع ذلك تساقط البلاد الإسلامية بعد حروب طاحنة كانت الدولة فيها للإفرنج على من عاصرهم من ملوك الموحدين، وعلى ﴿اسهم الناصر بن يعقوب الذي ولى الأندلس بعد وفاة أبيه سنه ٥٩٥ هـ.
لذا يمكن القول بأن تلك الفتن والاضطرابات السياسية كانت من بين أسباب ارتحال ابن مالك إلى المشرق إن لم تكن أهم تلك الأسباب، كما أن الرغبة في زيارة الديار المقدسة، والشغف بمشاهدة مواقع التنزيل، ومصدر إشعاع الحضارة الإسلامية، أمور تستحث طلاب العلم -عامة- فضلًا عن ابن مالك، ذلك الشاب المتوقد الذهن، الولوع بالعلم ومصاحبة العلماء.
لذا نجد ابن مالك يزمع الرحلة إلى المشرق، وتتم تلك الرحلة، ويؤدي
1 / 11
فريضة الحج، ثم يلحق بالشام بيد أن الأحوال السياسية فيه لم تكن بأسعد حالًا ولا أهدأ بالا من بلاد الأندلس، فقد كانت البلاد الشامية في فتن وحروب دامية بين الصلبين والتتار من جهة، وبين الدولة الأيوبية التي دب الخلاف فيها بعد موت صلاح الدين بسبب النزاع بين أبنائه الثلاثة وأخيه على السلطة من جهة أخرى.
ويظل ابن مالك يطوف بالبلاد الشامية وينتقل بين حواضرها: دمشق، وحلب، وحماة، وبعلبك، ويستقر به المطاف في دمشق، على ما ذكره الرواة، فقد ذكر ابن الجزري أنه قدم دمشق، ثم توجه إلى حلب فنزل فيها وفي حماة، واُخِذَ عنه بهذين البلدين، ثم قدم دمشق مستوطنا.
ولقد كان لارتحال ابن مالك من بلاد المغرب إلى بلاد المشرق أثر كبير في ملامح حياته، في أخلاقه ومذهبه، وسلوكه، فقد كان قبل رحيله، مالكي المذهب، وذلك لسيادة المذهب المالكي في تلك البلاد فلما استوطن المشرق عدل عن مذهبه وأخذ بمذهب الشافعي، أما عن أخلاقه وسلوكه فقد قال الصفدي عنه: "إن ابن مالك انفرد عن المغاربة بشيئين: الكرم ومذهب الشافعي".
وذكر نحو قول الصفدي هذا ابنُ عساكر والسيوطي، وزاد
1 / 12
ابن العماد: "حسن الخلق"، ولا غرابة في ذلك، فإن الهجرة من أكبر عوامل التأثير والتأثر.
المبحث السادس: شيوخه
أولًا: شيوخه في الأندلس:
ذكر ابن الجزري: "أن ابن مالك أخذ العربية في بلاده عن ثابت ابن خيار، وأنه حضر على أبي علي الشلوبين نحو العشرين يومًا، كما ذكر السيوطي أن له رواية عن أبي الصقر.
ثانيًا: شيوخه في المشرق:
ذكر السيوطي: أنه سمع بدمشق من السخاوي، وجالس بحلب
1 / 13
ابن عمرون-تلميذ ابن يعيش- وأن له شيخًا جليلًا هو ابن يعيش الحلبي، وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل، وتصدر بالتربة التعادلية، والجامع المعمور، وقال المقّرى: " ... وسمع بدمشق من مكرم، وأبي صادق الحسن بن صباح، وأبي الحسن بن السخاوي وغيرهم ....، وجالس ابن يعيش تلميذه ابن عمرون بحلب، وأقام بدمشق مدة يصنف ... وتصدر بحلب مدة، وأمّ بالسلطانية، ثم تحول إلى دمشق، وتصدر بحماة مدة".
المبحث السابع: مذهبه النحوي
مما لاشك فيه أن ابن مالك اطلع على كتب سابقيه من النحاة البصريين والكوفيين والبغداديين ومن جاء بعدهم، وأفاد من هؤلاء جميعا حتى تكونت شخصيته العلمية ولاسيما في النحو والتصريف ثم استوت، يدل على ذلك إنه يورد المسائل النحوية ويعرض آراء النحاة فيها بدقة وأمانة، ثم يجيل فيها رأيه
1 / 14
بحسب ما يمليه عليه اجتهادهن وما يبلغه تفكيره الحر، وحسه المرهف، فيؤيد هذا ويضعّف ذاك، ويصحح هذا ويرد ما يخالفه من غير تحيز إلى مذهب معين لذاته، وإنما ينتصر لما تشهد بصحته الشواهد المعتبرة لديهن أو ماله نظير يمكن قياسه عليه.
وكون ابن مالك موافقا في كثير من آرائه النحوية لما عليه البصريون لا يعني تحيزه إلى هذا المذهب أو هذه المدرسة، وإنما لكون ذلك هو المترجح لديه بعد إعمال فكر وإجالة نظر، ولا يخفي تفوق المدرسة البصرية على غيرها من المدارس النحوية، ومع ذلك فإنك تجد ابن مالك ينتصر لقول الكسائي أو الفراء -أحيانًا- لما تقدم.
ومصنفات ابن مالك مليئة بآراء النحويين المتقدمين والمتأخرين مما يدل دلالة واضحة على أنه لم يدخر وسعًا في تتبع الآراء النحوية عند عرضه للمسائل، فإنك واجد في كتبه أقوال سيبويه والكسائي والفراء، والأخفش، والمبرد، والزجاج، وابن السراج، وثعلب، والجرمي، والزجاجي، والفارسي، والسيرافي، وابن كيسان، وابن برهان، وابن جنى، وابن الأنباري، والزمخشري، وابن مضاء، وابن خروف، والشلوبين، وابن عصفور، وابن الحاجب، ابن يعيش ... وغيرهم. وفي هذا الخضم تجد ابن مالك يؤيد هذا ويرد ذاك وقد يضرب رأيا برأي ويبدي رأيا مستقلًا في المسألة، ولست-هنا- بصدد عرض النماذج للتدليل على ذلك، فقد كفاني ذلك من قاموا بدراسة مصنفات ابن مالك.
المبحث الثامن: منهجه
إن من يستقرئ كتب ابن مالك -ولاسيما الكافية الشافية وشرحها وخلاصتها، والتسهيل- استقراءًا يهدف إلى استخلاص منهجه، لا ريب
1 / 15
سيقف على كثير من السمات التي اتصف بها مصنفات هذا العلم، فمن أبرز تلك السمات ميل ابن مالك إلي الابتكار، فبينما نجد صاحب الكتاب ﵀ قد قسم النحو إلى أبواب، والزمخشري قد قسمه إلى فصول في كتابه المفصل، وكذلك فعل ابن الحاجب في كافيته، وهذه الكتب الثلاثة من أهم كتب النحو السابقة لابن مالك، نجد ابن مالك يستعمل كلا المصطلحين جاعلًا "الباب" لرؤوس المسائل، و"الفصل" لما يندرج تحت تلك المسائل ويتفرع عنها.
وكذلك نجده ينهج في ترتيب أبوابه منهجًا تعليميًا يعتمد على المناسبة والارتباط.
كما نجده يسلك منهج النظم في ضبط العلوم إدراكًا منه لما للنظم من ميزة على النثر، فقد لجأ ابن مالك إلى هذه الوسيلة -أعني النظم- المشوقة المعينة على حفظ العلوم ونقلها ودرج على ذلك في معظم مؤلفاته، فقد استطاع -بما آتاه الله من قوة القريحة الشعرية- أن يسخر قوالب الشعر لخدمة القضايا العلمية، فكان ذلك دعمًا لما يسمى بالشعر التعليمي.
أقول: دعمًا، لا اختراعًا، لأن ابن مالك قد سُبق في هذا المجال، فقد نظم الشاطبي المتوفي سنة: ٥٩٠ هـ قصيدة في القراءات سماها: "حرز الأماني ووجه التهاني"، كما نظم ابن معطي المتوفى سنة ٦٢٨ هـ منظومته القيمة في النحو المسماة: "الدرر الألفية في علم اللغة العربية"، التي أفاد منها ابن مالك كثيرًا، وأشار إليها في خلاصته المسماة: " ألفية ابن مالك"، وكذلك نظم ابن الحاجب
1 / 16
المتوفى سنة ٦٤٦ هـ، منظومة النحو سماها: "الوافية بنظم الكافية"، وأخرى في العروض سماها: "المقصد الجليل في علم الخليل".
أما في مجال الاستشهاد فهو يستشهد بالقرآن الكريم وقراءاته، وقد يستشهد بالشواذ منها، ويستشهد كذلك بالحديث، وأشعار العرب وأمثالها وأقوالها، وقد أدى استشهاده بالحديث الشريف إلى توسيع دائرة الاستشهاد عنده، وقد أنكر عليه أبو حيان الاستشهاد بالحديث بحجة أنه مظنة اللحن، لجواز روايته بالمعنى وكون بعض رواته أعاجم، وقد تصدى العلماء قديمًا وحديثًا لأبى حيان معترضين عليه ومؤيدين لابن مالك فيما ذهب إليه، ومن أوفى ما كتب حول هذه المسألة ما جاء في خزانة الأدب البغدادي، وما كتبه الأستاذ سعيد الأفغاني.
ويغلب على مصنفات ابن مالك سهولة العبارة ووضوحها مع الدقة والميل إلى الإيجاز.
المبحث التاسع: تلاميذه
تتلمذ على ابن مالك خلق كثيرون، فممن تلقى عنه:
- ابنه بدر الدين المشهور بابن الناظم، وقد شرح ألفية والده وتوفي سنة ٨٦ هـ.
- القاضي شرف الدين أبي القاسم هبة الله بن نجم الدين الجهني الشهير بابن البارزي، المتوفى سنة ٧٣٨ هـ.
1 / 17
-أحمد بن سليمان بن أبي الحسن الكاتب، المتوفي سنة: ٧٦٩ هـ.
وغير هؤلاء مما يطول الحديث بذكرهم، وليس هذا موضع حصرهم.
هذا ويعد الدارسون لمصنفات ابن مالك والعاكفون عليها تلامذةً له في مختلف العصور، وهم خلق لا يحيط بهم إلا الله.
المبحث العاشر: مصنفاته
لقد أمد ابن مالك ﵀ المكتبة العربية بمؤلفاته الكثيرة البالغة الأهمية، وخاصة فيما يتعلق منها بعلمي النحو والصرف، وقد وهبه الله -سبحانه- القدرة الفائقة على النظم العلمي، فأخرج الكثير من مؤلفاته النحوية واللغوية نظما عذبا سائغا على الرغم من جفاف مواده وصعوبة موضوعاته وقد بلغت مؤلفاته في النحو والصرف واللغة وغير ذلكن ما يقارب الأربعين مؤلفا، ومن أشهر مؤلفاته:
"الكافية الشافية"، وهي منظومة طويلة تقرب من ثلاثة آلاف بيت من الرجز، ضمنها النحو والصرف، وقد شرحها ابن مالك نثرا بشرح مسماه: "الوافية في شرح الكافية الشافية"، كما شرحها -أيضا- ابنه بدر الدين.
ومن مؤلفاته -أيضًا- "الخلاصة" المشهورة ب "الألفية"، وهي منظومة في نحو ألف بيت من الرجز، أودع فيها ابن مالك خلاصة ما في الكافية الشافية، وقد وفق فيها ابن مالك توفيقا أدهش العقول وألبسها حلل الرضا والقبول،
1 / 18
فعكف العلماء عليها، دراسة وتدريسا وحفظا وشرحا وتعليقا، حتى أربت مصنفاتهم حولها على الخمسين، ما بين شرح لها، وإعراب لأبياتها أو حواش على شروحا.
ومن تلك الشروح: هذا الشرح الذي بن أيدينا.
ومن مؤلفات ابن مالك -أيضا- كتابه "التسهيل" المعروف: "بتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد" وهو كتاب جليل تناول فيه ابن مالك مسائل النحو والصرف في ثمانين بابا، تتضمن ما يزيد على مائتي فصل، وعليه شروح كثيرة، منها شرح للمؤلف نفسه.
هذه بعض مؤلفات ابن مالك، ومن أراد الوقوف عليها مفصلة فليرجع إلى مقدمتي كِتابي: "التسهيل، وشرح الألفية لابن الناظم، الأول: تحقيق الدكتور: محمد كامل بركات، والثاني: تحقيق الدكتور: عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد: وإلى مراجعهما.
المبحث الحادي عشر: أخلاقه
أجمع الذين ترجموا لابن مالك على أنه كان ذا دين متين، وسمت حسن، وقلب رقيق، وعقل راجح، وتؤدة، ووقار، وكان شديد الطلب للعلم، شديد الحرص على الوقت، كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب من محفوظة حتى
1 / 19
يراجعه في محلهن وكان لا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف ويقرئ.
المبحث الثاني عشر: وفاته
توفي ابن مالك بدمشق سنة ٦٧٢ هـ باتفاق، وصلي عليه بالجامع الأموي ودفن بسفح قاسيون، بتربة القاضي عز الدين بن الصائغ، وقيل: بتربة ابن جعوان.
1 / 20
الفصل الثاني: إبراهيم بن قيم الجوزية
وفيه مباحث
1 / 21
المبحث الأول: نسبه، وكنيته، ولقبه
نسبه:
هو إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزُرْعِي الحنبلي.
وكتب التراجم تتفق في سرد نسبه إلى (سعد)، أما والد (سعد) فالذي عليه الأكثرون والمشهور على ألسنة أهل العلم أن أسمه: (حَرِيز) -بالحاء والراء المهملتين، ثم الياء المثناة، والزاي المعجمة-على وزن (فعيل) -بفتح الفاء- وفي بعض كتب التراجم (جرير) وفي بعضها (جريز)، وأما جده: (مكي) فمتحصل من ترجمة عمه: (عبدالرحمن بن أبي بكر) في الدرر الكامنة، وأما الزُرعي فهو بضم الزاي المشددة نسبة إلى قرية: (زُرْع) من أعمال حوران، وحوران: ناحية واسعة من نواحي دمشق.
1 / 23
كنيته ولقبه:
يُكني إبراهيم بن محمد بن أبي بكر: ب (أبي إسحاق، أو ابن قيم الجوزية، أو ابن القيم)، وذلك أن جده (أبا بكر بن أيوب) كان قيما على المدرسة المعروفة بالجوزية -نسبة إلى منشئها وواقفها: محي الدين بن الحافظ الجوزي - الموجودة آنذاك بدمشق، فكان أبو بكر هذا يقوم على شئونها، حتى قيل له: قيم الجوزية، واشتهرت ذريته وحفدتهم بذلك، فصار الواحد منهم يدعي بابن قيم الجوزية.
أما لقبه: فبرهان الدين.
المبحث الثاني: مولده
كثير من المراجع التي ترجمت له لم يؤرخ لمولده، وقد أُرخ له في بعضها على اختلاف في ذلك، فذهب ابن حجر في (الدرر الكامنة)، وابن مكي في (السحب الوابلة) إلى أنه ولد سنة ٧١٦ هـ، وهو كذلك في فهرس الخزانة التيمورية، وذكر عمر رضا كحالة أنه ولد سنة ٧١٩ هـ، وهذا يناسب رواية الأكثرين في سنة وفاته، وأنها ٧٦٧ هـ، عن ٤٨ سنة.
1 / 24
المبحث الثالث: جوانب من حياته
أما قيل فيه:
لقد كانت المراجع حيال إبراهيم بن قيم الجوزية وجوانب حياته- بالغة الضنة، ولا تثريب عليها في ذلك، إذ أن المصادر الأساسية لم تمد إلا بالنزر اليسير من ذلك، فقد جاء في البداية والنهاية: أنه كان فاضلًا في النحو والفقه، وفنون أخرى، على طريقة أبيه، وأنه كان مدروسا بالصدرية، والتدمرية، وله تصدير بالجامع، وخطابه بجامع ابن صلحان، وذكر في الدرر الكامنة نحو ما تقدم، وقال: (حضر على أيوب الكحال، وابن الشحنة، واشتهر، وتقدمن وأفتى، ودرس).
وقال عنه في شذرات الذهب: (سمع من ابن الشحنة وغيرهن واشتغل في أنواع العلوم وأفتى، ودرس، وناظر).
ونقل النعيمي عن ابن مفلح قوله -في طبقات الحنابلة-: (حضر على أيوب بن نعمة الله النابلسي -أي الكحال-، ومنصور بن سليمان البعلي، وسمع من ابن الشحنة، واشتغل في أنواع العلوم ... إلى آخر ما تقدم عن الشذرات.
وقال عنه صاحب معجم المؤلفين: (عالم في النحو والصرف).
هذا ما ذكروه عنه.
1 / 25
ويمكن القول -بناء على غلبة الظن- في بعض الجوانب التي أغفلتها المصادر بعد عرض لمحة من حياة أبيه، وتلك أن أباه الشيخ العالم الرباني محمد ابن أبي بكر (المعروف ب"قيم الجوزية") نشأ بدمشق من الفترة: ٦٩١ - ٧٥١ هـ، وهي ما يسمى بعصر سلاطين المماليك، وقد تميز هذا العصر بانتقال مركز الثقل العسكري والثقافي في العالم الإسلامي إلى القطرين: مصر، والشام، بعد نكبة بغداد وسقوطها على أيدي التتار، فكثرت معاهد التدريس، في هذين القطرين، فزخرت المساجد بحلق العلم، وأنشئت بجانبها المدارس، وأوقف على عمارتها ونظارتها وشيوخها وطلابها، ومن تلك المدارس: (المدرسة الجوزية) التي سبق ذكرها، وكان يقوم عليها جد إبراهيم هذا فنشأ إبراهيم ووالده من قبل، في ظلال هذه المدرسة، فمن المرجح أن يتلقى إبراهيم فيها العلوم الأساسية كحفظ القرآن الكريم وقسط كبير من السنة والمتون المشهورة، كما جرت على ذلك سنة العلماء قديمًا وحتى زمن قريب، ولا سيما أنه توافر له ما لم يتوافر للكثير من طلاب العلم، فلأسرة عريقة في العلم، وتقوم على معقله، مع ما نسب إليها من صلاح وتقى وحب للعلم.
ولعل مما يدل على صدق هذا الحدس، ما سنقف عليه -إن شاء الله تعالى- عند الحديث عن شرحه للألفية من قوة استحضار للآيات القرآنية في الاستشهاد للقضايا النحوية والصرفية.
ب أخلاقه:
لم تأخذ سيرة الشيخ إبراهيم بن محمد بن قيم الجوزية حظها من الذيوع والشهرة، وهذا شأن كثير من العلماء، ولا سيما أن بعضهم كان يتحاشى الشهرة والظهور في أعماله، حرصًا على سلامتها من داء الرياء، فإذا انقضت
1 / 26
آجال هذا الصنف من العلماء المخلصين سَدَل الزمان على سيرهم ستورهن فلم يكد يوقف لهم على أثر أو خبر، أضف إلى ذلك ما لحق بالتراث الإسلامي عبر القرون من الاعتداء عليه بالنهب أو الحرق، وكل ما أشرت إليه ممكن بالنسبة لإبراهيم بن قيم الجوزية، هذا وقد ذكرت المصادر التي ترجمت له شيئًا يسيرًا من أخلاقه فذكرت أنه كان فاضلًا، وأن له أجوبة مسكتة، وذكرت بعض نوادره، ومن ذلك أنه وقع بينه وبين ابن كثير منازعة في بعض المحافل، فقال له ابن كثير: "أنت تكرهني لأنني أشعري"، فقال له: "لو كان من رأسك إلى قدميك شعر ما صدقك الناس في قولك، إنك أشعريّ وشيخك ابن تيمية".
قلت: وقد استخلصت شيئا من أخلاقه أثناء دراستي شرحه، من ذلك ما يمر في المبحث الخامس عند ذكر تعقبه لبعض النحويين، فقد كان متأثرًا بأخلاق الفضلاء، فكان عف اللسان، يرد بأدب، وكثيرًا ما يكتفي برد القول المخالف من غير تشهير بقائله، وقد جاء عنه قوله: "ولا أحفظ له شاهدًا"، فهذا يدل على التواضع والصراحة التي هي من شيم العلماء.
ج- آثاره العلمية:
من أهم آثار إبراهيم بن قيم الجوزية، هذا الشرح النافع الذي بين أيدينا، وله رسالة صغيرة مطبوعة اسمها: "اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية النميري"، جمع في هذه الرسالة ٩٨ مسألة من مسائل قيل إن شيخ الإسلام ابن تيمية انفرد بها خارقًا بها الإجماع، فقام إبراهيم بن القيم بتتبع هذه المسائل
1 / 27
وحصرها، ثم بين زيف الدعوى الموجهة ضد الشيخ، وأثبت أنه لم يعرف له مسألة خرق فيها الأجماع، ومن ادعى عليه ذلك فهو إما جاهل وإما كاذب.
كما ذكر أن له كتابًا اسمه: (اختلاف المذهبين) تعرض فيه للمسائل الخلافية بين أحمد والشافعي، ولم أعثر له على خبر.
المبحث الرابع: مذهبه النحوي
حينما أتحدث عن المذهب النحوي لإبراهيم ابن القيم، فإنما أتحدث عنه بعد طول ممارسة لشرحه لألفية ابن مالك، وبعد استجلاء رأيه وآراء الآخرين فيما يعرض من القضايا النحوية، وبخاصة الخلافية منها، فمن بعد تلك الممارسة تبين لي أن ابن القيم-﵀ لم يأسره مذهب معين عن النظر في بقية المذاهب والآراء، وإنما كان يطالع جميع الآراء الواردة في مسألة ما، ثم ينتخب لنفسه ما ترجح لديه، فهو يُعنى عناية كبيرة بما يؤازره الدليل، بغض النظر عن كونه منسوبًا إلى زيد أو عمرو-كما سيأتي قريبًا- وهو في ذلك متأثر بأبيه الشيخ محمد بن أبي بكر، فإنه وإن كان موصوفًا في ترجمته بالحنبلي كأسلافه، لكن حظه منه الاتباع لما أيده الدليل، فلقد كان ثائرًا على التقليد وأهله، يندد بهم وينعى عليهم حظهم من العلم، ويصف التقليد بأنه بدعه، وأنه من المحدثات بعد القرون المفضلة، ولكنه لم يصل به ذلك إلى الإزراء بالأئمة، وأصحابهم، كغلاة الظاهرية ومن نحا نحوهم، ولم يكن من أولئك الذين أسرهم التعصب فأصمهم وأعمى أبصارهم عن نور الوحيين: الكتاب
1 / 28