Humanisme: Pengenalan yang Sangat Singkat
الإنسانوية: مقدمة قصيرة جدا
Genre-genre
شكر وتقدير
مقدمة: ما الإنسانوية؟
1 - تاريخ الإنسانوية
2 - الحجج المؤيدة لوجود الإله
3 - الحجة المعارضة لوجود الإله
4 - الإنسانوية والأخلاق
5 - الإنسانوية والعلمانية
6 - الإنسانوية والتعليم الأخلاقي والديني
7 - معنى الحياة
8 - المناسبات الإنسانوية
Halaman tidak diketahui
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة: ما الإنسانوية؟
1 - تاريخ الإنسانوية
2 - الحجج المؤيدة لوجود الإله
3 - الحجة المعارضة لوجود الإله
4 - الإنسانوية والأخلاق
5 - الإنسانوية والعلمانية
Halaman tidak diketahui
6 - الإنسانوية والتعليم الأخلاقي والديني
7 - معنى الحياة
8 - المناسبات الإنسانوية
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الإنسانوية
الإنسانوية
مقدمة قصيرة
جدا
Halaman tidak diketahui
تأليف
ستيفن لو
ترجمة
ضياء وراد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
شكر وتقدير
أود أن أشكر بشكل خاص أندرو كوبسون (الرئيس التنفيذي للرابطة البريطانية الإنسانية)، ورونالد ليندسي (المدير التنفيذي لمركز البحث) لتعليقاتهما المفصلة على المسودات الأولى من هذا الكتاب. لقد كانت مساعدتهما قيمة للغاية. لكن هذا الكتاب بأكمله مسئوليتي الخاصة، ولا ينبغي افتراض أنه يمثل آراء أي شخص آخر، أو أي منظمة إنسانوية بعينها. كما أود أن أشكر ديفيد بابينو، وديفيد بولوك (رئيس الاتحاد الإنسانوي الأوروبي)، وجون شوك، وريجينالد ويليامز، وهو مراجع لا أعرفه يعمل لصالح مطبعة جامعة أكسفورد، وختاما قراء مدونتي:
http://www.stephenlaw.org ، لمساعدتي بتعليقاتهم ومقترحاتهم البناءة.
مقدمة: ما الإنسانوية؟
Halaman tidak diketahui
حملت كلمة «إنسانوية» - ولا تزال تحمل - مجموعة شتى من المعاني؛ فهي تشير في معناها الرحب إلى منظومة فكرية تعتبر فيها القيم والاهتمامات والكرامة الإنسانية ذات أهمية خاصة. وبهذا المعنى، ربما يصبح تقريبا كل شخص منا إنسانويا (حتى الدينيون).
إلا أن المنضمين إلى لواء «الإنسانوية» اليوم، ولا سيما في المملكة المتحدة، عادة ما يقصدون شيئا أكثر تحديدا؛ فهم لديهم رؤية للعالم من نوع خاص لا يقبلها الجميع بالتأكيد، وتلك الرؤية هي محور هذا الكتاب.
فما الذي يميز الرؤية الإنسانوية إذن؟ من الصعب أن نكون محددين جدا في هذا الشأن؛ فحدود المفهوم مطاطة، لكني أعتقد أن أغلب الإنسانويين سيتفقون على الأرجح على شيء من قبيل التوصيف السباعي المختصر التالي (مع عدم وجود ترتيب معين للنقاط الواردة فيه):
أولا: يؤمن الإنسانويون أن العلم، والعقل بشكل أعم، أداتان مهمتان للغاية يمكننا - ويجب علينا - أن نستخدمهما في كافة مناحي الحياة، ولا ينبغي النظر لأي معتقدات على أنها ممنوع الخوض فيها وغير خاضعة للاستقصاء العقلاني.
ثانيا: الإنسانويون إما ملحدون وإما على الأقل لا أدريون. إنهم يتشككون في الزعم بوجود إله أو آلهة، وكذلك يتشككون في وجود الملائكة والشياطين وغيرها من مثل هذه الكيانات فوق الطبيعية.
ثالثا: يؤمن الإنسانويون أن هذه الحياة هي الحياة الوحيدة لنا؛ فلا توجد حياة أخرى تعود فيها أرواحنا إلى أجسادنا بعد موتنا، كما لا توجد جنة أو نار. ولاحظ أن الموقف الإنسانوي المتشكك في وجود آلهة والحياة الآخرة ليس «موقفا إيمانيا» عقائديا، بل نتيجة لإخضاعهم هذه المعتقدات للاستقصاء النقدي واكتشاف أنها قاصرة بصورة خطيرة.
رابعا: تنطوي الإنسانوية على إيمان شديد بوجود وأهمية القيمة الأخلاقية. كما يؤمن الإنسانويون بأنه ينبغي أن نستمد أخلاقنا عن طريق دراسة الطبيعة الفعلية للبشر وما يساعدهم على الازدهار في هذه الحياة، لا الحياة الآخرة. وينكر الإنسانويون المزاعم السلبية على غرار أنه لا يمكن وجود قيمة أخلاقية دون الإله، وأننا لن نكون - أو يستبعد أن نكون - أخيارا دون الإله أو دون دين يرشدنا. ويقدم الإنسانويون حججا وتبريرات أخلاقية لا تعود للمعتقد أو السلطة الدينية.
خامسا: يؤكد الإنسانويون على استقلالنا الأخلاقي الفردي؛ فمن مسئوليتنا كأفراد أن نصدر أحكامنا الأخلاقية الخاصة لا أن نحاول تسليم تلك المسئولية إلى سلطة خارجية ما - مثل زعيم سياسي أو عقيدة دينية - لتصدر تلك الأحكام بالنيابة عنا. يؤيد الإنسانويون تبني أشكال من التعليم الأخلاقي تؤكد على تلك المسئولية، التي ستزودنا بالمهارات التي سنحتاجها من أجل الاضطلاع بتلك المسئولية كما ينبغي.
سادسا: يؤمن الإنسانويون أنه يمكن أن يكون لحياتنا معنى دون أن يهبنا الإله إياه؛ فهم يفترضون أن حيوات بابلو بيكاسو، وماري كوري، وإرنست شاكلتون، وألبرت أينشتاين - على سبيل المثال - كانت حيوات ثرية ومهمة وذات معنى؛ سواء وجد الإله أم لا.
شكل 1: اختار كل من الرابطة البريطانية الإنسانية والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، اللذين يتبعهما الكثير من المنظمات الإنسانوية حول العالم؛ شكل الإنسان السعيد ليكون رمزا لهما.
Halaman tidak diketahui
سابعا: الإنسانويون علمانيون؛ بمعنى أنهم يفضلون مجتمعا ديمقراطيا مفتوحا تتخذ فيه الدولة موقفا حياديا فيما يتعلق بالدين، وتحمي حرية الأفراد في اتباع واعتناق، أو رفض ونقد، الأفكار الدينية والإلحادية على حد سواء. وبينما يعارض الإنسانويون أي محاولة لإجبار الناس على اعتناق أي معتقد ديني، فهم معارضون بالقدر نفسه لإجبار الناس على الإلحاد، كما حدث في ظل حكم أنظمة شمولية معينة.
ثمة عدد من الرؤى الأخرى التي أحيانا ما ترتبط أيضا بالإنسانوية ولم أعرضها هنا. فعلى سبيل المثال، لاحظ أنه لا يجب على الإنسانوي، بوصفه الوارد هنا:
أن يكون يوتوبيا، مقتنعا أن استخدام العلم والعقل سيقود حتما إلى «عالم جديد بديع» من السلام والرضا.
أن يؤمن بأن البشر «وحدهم» هم المهمون، من الناحية الأخلاقية؛ فكثير من الإنسانويين يعتبرون سعادة ورفاهية الأنواع الأخرى مهمة أيضا.
أن يكون نفعيا، معتقدا أن تعظيم السعادة وتقليل المعاناة هو كل ما يهم، من الناحية الأخلاقية. وبينما يعتنق بعض الإنسانويين مذهب النفعية، وجميعهم تقريبا يعتقدون أن السعادة والمعاناة مهمتان من الناحية الأخلاقية؛ فليس كل الإنسانويين نفعيين.
أن يعتنق أشكال المذهب الطبيعي التي تقول بأن العالم الطبيعي المادي هو الواقع الوحيد الموجود، و/أو أن الحقائق الطبيعية المادية هي الحقائق الوحيدة الموجودة. يعتنق الكثير من الإنسانويين، وربما أغلبيتهم، شكلا من أشكال المذهب الطبيعي؛ بل إن بعضهم يعرف ضرب «الإنسانوية» الذي يعتنقه على أنه يتضمن أفكار المذهب الطبيعي. إلا أن التعريف الأرحب المستخدم هنا يتيح للإنسانويين نقد المذهب الطبيعي إن أرادوا ذلك. صحيح أن الإنسانويين يرفضون الإيمان بالآلهة والملائكة والشياطين وما إلى ذلك، أو على الأقل يتخذون موقفا لا أدريا بشأنها، لكن لا يقتضي ذلك اعتناقهم للمذهب الطبيعي. خذ كمثال عالم رياضيات يؤمن أن الرياضيات تصف واقعا رياضيا غير طبيعي (جنة رقمية من نوع ما). إن عالم الرياضيات هذا يرفض المذهب الطبيعي، لكن ذلك لا يستلزم أنه لا يمكن أن يكون إنسانويا. أو خذ كمثال فيلسوفا يرى أنه أثبت، على سبيل المثال، أن الحقائق الأخلاقية أو الحقائق بشأن ما يدور في عقولنا الواعية ، هي حقائق موجودة إلى جانب جميع الحقائق الطبيعية والمادية. مجددا، لا أرى سببا يمنع مثل هذا الفيلسوف من أن يكون إنسانويا. وكشف مسح حديث عن أنه من المشتغلين بالفلسفة لا يؤمن بالإله سوى 14,6٪، وأنه دون 50٪ مباشرة منهم يعتنقون المذهب الطبيعي. وأرى أنه لا ضرورة من التقيد بتعريف ل «الإنسانوية» يستبعد على نحو تلقائي الذين لا يؤمنون بالمذهب الطبيعي أو لا يؤمنون بوجود آلهة.
أن يعتنق المذهب العلمي، معتقدا أن كل سؤال جوهري يمكن من حيث المبدأ أن يجيب العلم عنه. ولنأخذ الأسئلة الأخلاقية مثالا على ذلك. بإمكان الإنسانويين القبول - وغالبا ما يقبلون - بأن العلم والعقل وحدهما غير قادرين على تحديد الصواب أو الخطأ أخلاقيا، رغم أن قراراتنا الأخلاقية يمكن أن تستقى من الاكتشافات العلمية. وقد يفترض الإنسانوي أن هناك أسئلة أخرى - مثل: «لم توجد الأشياء في الأساس؟» - هي أيضا أسئلة جوهرية لا يستطيع العلم الإجابة عنها. ولا يتشكك الإنسانويون إلا في إجابة واحدة بعينها؛ وهي أن الكون من صنع إله واحد أو أكثر.
من أجل تفنيد الإنسانوية كما وصفتها، لا يكفي أن أفند اليوتوبية أو النفعية أو المذهب العلمي أو المذهب الطبيعي. فبإمكان الإنسانوي أن يرفض هذه المذاهب الفلسفية كلها أو أن يظل محايدا إزاءها.
ينتقد الإنسانويون أحيانا لأنهم لا «يؤيدون» أي شيء، وكثيرا ما يتم تصويرهم على نحو مبالغ فيه في صورة معترضين، تتشكل صورتهم بالكامل من خلال ما يرفضونه؛ وهو الإيمان بوجود إله أو آلهة.
لكن لاحظ أنه حتى المؤله (المؤمن بوجود إله) يرفض الإيمان بالآلهة العديدة «الأخرى» التي آمن بها الناس عبر القرون (مثل آلهة الرومان والإغريق والنورديين وشعوب المايا والمصريين القدماء وما إلى ذلك). ويظل الإنسانوي غير مقتنع بوجود إله من الأساس.
Halaman tidak diketahui
علاوة على ذلك، لاحظ أنه، كما أشرنا هنا، تتجاوز الإنسانوية مجرد الإلحاد أو اللاأدرية؛ ومن الواضح أنها «تؤيد» الكثير من الأمور الأخرى.
فعلى سبيل المثال، تؤيد الإنسانوية حرية الفكر والتعبير ووجود مجتمع منفتح، وتؤيد أشكال التعليم الأخلاقي التي تؤكد على استقلالنا الأخلاقي وأهمية التفكير على نحو نقدي ومستقل. لا يرفض الإنسانويون المناهج العقائدية في الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية فحسب، بل إنهم يؤيدون بشدة استحداث بدائل وضعية، وعقلانية، وفي الأساس أكثر دعما للعيش في هذه الحياة وسعيا لتحسين جودتها.
وأحيانا ما يوصف الفكر الإنسانوي على نحو مبالغ فيه؛ على أنه يقوم على مزيج غير متجانس من الأفكار المتباينة غير المترابطة. ولكن مجددا، هذا غير صحيح؛ فتركيز الإنسانوية منصب على «الأسئلة الكبرى»، على سبيل المثال: ماهية الأشياء الحقيقية، وماهية ما يجعل الحياة تستحق العيش في الأساس، وماهية الصواب والخطأ أخلاقيا والسبب وراء ذلك، وأفضل سبيل لتنظيم مجتمعنا. وفي حين يتناول الدين عادة مثل هذه الأسئلة، فإنها بوضوح ليست حكرا على الدين؛ فتلك الأسئلة تنتمي أيضا للفلسفة، وكان يجري تناولها على نحو عقلاني لا ديني قبل ظهور المسيحية. وما يجمع رؤانا السبع المميزة للإنسانوية في كيان أشبه بمنظومة فكرية هو؛ أولا: تركيزها المشترك على «الأسئلة الكبرى»، وثانيا: وجود درجة من الارتباط المتبادل فيما بينها (على سبيل المثال، إن كنت متشككا في وجود الآلهة، فسيقودك ذلك إلى التشكك في الزعم بأن الحس الأخلاقي مغروس بداخلنا من قبل إله)، وثالثا: الدور المهيمن الذي تلعبه النقطة الأولى؛ يؤمن الإنسانويون بهذه الرؤى حيال «الأسئلة الكبرى»، ليس في صورة «موقف إيماني» معتنق على نحو عقائدي، ولكن لأنهم يعتبرونها بشكل أكبر مواقف منطقية يمكن تبنيها، وذلك بعد أن أخضعوا البدائل المختلفة للاستقصاء العقلاني.
وفي النهاية، أود أن أتحدث عن تعارض الإنسانوية الشديد مع الدين. من الواضح أن كثيرا من الإنسانويين لا يعتبرون الدين زائفا وحسب، وإنما أيضا خطرا، بل يراه بعضهم شرا عظيما، ولكن ليس جميعهم كذلك؛ فعدد كبير من الدينيين يؤيدون كثيرا من الرؤى التي وصفت الإنسانوية في إطارها، كما أنهم علمانيون، ويقبلون بإمكانية وجود منظومة أخلاق وحياة ذات معنى حتى في غياب الإله، وكذلك قد يتشاركون مع الإنسانويين في كثير من أهدافهم. يسعد الكثير من الإنسانويين بالعمل مع الأشخاص الدينيين والمؤسسات الدينية لتحقيق تلك الأهداف، وثمة بالطبع دينيون مستعدون للعمل مع الإنسانويين. وفي وقت كتابة هذا الكتاب، تبرع المركز البحثي «ثيوس»، التابع لجمعية الكتاب المقدس، لتنفيذ حملة دعائية للرابطة البريطانية الإنسانية تروج لفكرة أن الأطفال ينبغي ألا يحملوا دينا بعينه، بل ينبغي السماح لهم بالنضج بحرية بحيث يتخذون قرارهم بشأن أي الأديان سيعتنقون، هذا إن اعتنقوا دينا من الأديان. بالتأكيد يختلف الإنسانويون والدينيون بشأن قضايا جوهرية معينة، لكن ثمة الكثير الذي يمكنهم الاتفاق بشأنه، ولا يوجد سبب بعينه يمنع المنظمات الإنسانوية من إنشاء شراكات تعاون بناءة مع نظرائها الدينية.
يهدف هذا الكتاب إلى تقديم مزيد من الشرح عن الإنسانوية، كما وصفتها أعلاه، وإلى عرض الحجج المؤيدة لها.
الفصل الأول
تاريخ الإنسانوية
تعود جذور الإنسانوية الحديثة إلى الماضي حتى العالم القديم على الأقل؛ فنوعية «الأسئلة الكبرى» التي تتناولها الإنسانوية - على غرار: «هل الإله موجود؟» و«ما الذي يحقق حياة ذات معنى؟» و«ما الذي يجعل الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا؟» - هي أسئلة ما فتئت الإنسانية تطرحها لآلاف السنين. وفي كثير من الأزمنة والأمكنة، كان كل من المنهج المتبع في الإجابة عن تلك الأسئلة والإجابات اللادينية المعطاة مشابهين للمنهج الذي يتبعه الإنسانويون اليوم والإجابات التي يقدمونها. وكما سيتضح من العرض التالي، فإن الإنسانوية الحديثة بإمكانها الاعتماد على إرث فكري غني وممتد. (1) الفكر الهندي القديم
كان التشكك في التعاليم الدينية سمة من سمات بعض الكتابات الهندية المبكرة، بل إن أحد نصوص الأوبانيشاد يشكك حتى في وجود الإله براهما. وفي وقت لاحق، لم تتشكك مدرسة فكرية هندية ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد - منظومة كارفاكا - في وجود إله وحسب، بل أكدت على نحو واضح على عدم وجوده. ومدرسة كارفاكا الفلسفية مدرسة إلحادية ومادية في الأساس، تصر على أن العالم الطبيعي المادي يشكل كل ما هو موجود، وأنه لا فائدة من الكهنة، وأن الدين بدعة بشرية زائفة، وبدلا من أن نعيش حياة متقشفة، يجب علينا أن نستمتع بحياتنا إلى أقصى درجة، ونسعى خلف المتعة والسعادة. وتوضح مدرسة كارفاكا أن تبني موقف تشككي من جميع المعتقدات الدينية ليس ظاهرة حديثة، أو مقصورة على الغرب. (2) كونفوشيوس
يعتبر كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد) هو مؤسس الكونفوشيوسية؛ وهي منظومة فكرية هيمنت على الصين وأجزاء أخرى من آسيا لآلاف السنين. وعلى الرغم من أن كونفوشيوس سلم بوجود كل من الآلهة والقوى فوق الطبيعية، فإن منظومة الفلسفة الأخلاقية والسياسية التي وضعها استقلت على نحو كبير عن أي تقيد بالآلهة أو تلك القوى. وكونفوشيوس معروف على نحو خاص بما يسمى بالقاعدة الذهبية؛ إذ قال:
Halaman tidak diketahui
عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك. حسبك هذا القانون؛ فهو الأساس لغيره من القوانين.
لا يعتنق هذه القاعدة الذهبية كثير من الدينيين وحسب (فهي بالطبع مرتبطة بشخصيات دينية لاحقة، مثل السيد المسيح)، ولكن كثير من الإنسانويين أيضا. (3) اليونان القديمة
شهدت اليونان القديمة ازدهارا استثنائيا للثقافة البشرية، وكذلك الاستخدام المنهجي للعقل في التعامل مع مختلف المسائل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية الجوهرية، وهذا الموقف التشككي الناقد أدى بالبعض إلى إنكار الإيمان بالآلهة.
ولليونان القديمة أيضا أهمية عند الإنسانويين المعاصرين؛ لأنها تقدم تطورات سياسية مهمة للإنسانوية؛ ولا سيما شكل محدود من «الديمقراطية» (رغم أن صورا من الديمقراطية ربما تكون قد ظهرت قبل ذلك، على سبيل المثال، في الهند في القرن السادس قبل الميلاد). وكانت بعض المدن الإغريقية - خاصة أثينا - «منفتحة» نسبيا، واستوعبت على نحو كبير التشكك في المعتقدات التقليدية، وشجعت على نشأة مجموعة متنوعة من الآراء الفلسفية.
ويمثل ثلاثة فلاسفة إغريق أوائل - طاليس وأناكسيماندر وأنكسيمانس - أهمية خاصة؛ فالطريقة النقدية المستقلة التي فكر بها هؤلاء الفلاسفة الميليتوسيين - بطرح التفسيرات الميثولوجية والدينية جانبا، ومحاولة تطوير أفكارهم ونظرياتهم اعتمادا على الملاحظة والعقل - تجعلهم بوضوح في غاية الأهمية من وجهة النظر الإنسانوية؛ فهم يتبنون العديد من أفكار الإنسانوية الرئيسية وقيمها. ويعتبر الكثيرون أناكسيماندر أبا علم الفلك؛ فقد وضع نموذجا آليا لعمل الأجرام السماوية، اختلف على نحو كبير عن التفسيرات الميثولوجية التي قدمت قبله. كما وضع أناكسيماندر نظرية، مبنية في أكثرها على الحفريات، مفادها أن الإنسان تطور من كائنات كانت تعيش في البحر.
ثمة فيلسوف مهم آخر من وجهة النظر الإنسانوية، وهو بروتاجوراس (490-420 قبل الميلاد). فقد تابع استدلاله بشأن الأخلاق والفضيلة دون أي اعتماد على مذهب أو معتقد ديني. وقد أعلن بروتاجوراس أنه لا أدري؛ إذ قال:
بخصوص مسألة الآلهة، لا سبيل لي إلى معرفة إن كانت موجودة أم لا، أو ما الشكل الذي قد تكون عليه، بسبب غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.
والاعتقاد المعروف به بروتاجوراس بشدة الآن هو:
الإنسان هو مقياس كل شيء، هو مقياس وجود ما يوجد من الأشياء، ومقياس عدم وجود ما لا يوجد منها.
فسر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون مغزى مقولة بروتاجوراس السابقة بأن ما هو صحيح وما هو خاطئ نسبي بالنسبة إلى الفرد وما يؤمن به. فعلى سبيل المثال، إذا كنت أعتقد أن باريس هي عاصمة فرنسا، فهذا «صحيح بالنسبة إلي»؛ وإذا كنت تعتقد أن برلين هي عاصمة فرنسا، فهذا «صحيح بالنسبة إليك». لا توجد حقيقة موضوعية في المسألة؛ لا توجد حقيقة مطلقة على هذا النحو تفصل أينا على حق. ولاحظ أنه من خلال هذه الرؤية المجردة، النسبية للحقيقة، من الممكن جعل شيء صحيحا بمجرد الإيمان به. (فإذا كنت تريد أن تتمكن من الطيران، فما عليك سوى أن تؤمن بقدرتك على الطيران.) ويشتهر عن أفلاطون مهاجمته لهذا الشكل من النسبوية في محاورته «الثئيتتس»؛ حيث لفت الانتباه إلى أنه إن كانت النسبوية صحيحة، إذن فهي صحيحة فقط على نحو نسبي، ويمكن أن يجعلها أفلاطون خاطئة بمجرد الاعتقاد بأنها كذلك.
Halaman tidak diketahui
لم تكن رؤى بروتاجوراس النسبوية ذات أهمية تاريخية وحسب؛ فهذا الشكل من النسبوية شائع اليوم. وقد كتب ذات مرة الأستاذ الأكاديمي الأمريكي آلن بلوم قائلا:
ثمة أمر يمكن لأي أستاذ جامعي أن يتأكد منه تمام التأكد: تقريبا كل طالب يلتحق بالجامعة يعتقد، أو يقول إنه يعتقد، أن الحقيقة نسبية.
وفي الواقع، يعتقد على نطاق واسع أن النسبوية شيء يشبه المرض الذي يصيب المجتمع المعاصر ويقوض منظومته الأخلاقية؛ فعلى سبيل المثال، عندما اكتشف أن قوات الجيش الأمريكي قد عذبت مدنيين عراقيين في أبو غريب، قال ريتشارد لام، حاكم كولورادو:
هذا يعكس انهيارا في المجتمع. لقد تعطلت البوصلة الأخلاقية لهؤلاء الأشخاص لسبب ما، وظني أن ذلك بسبب أن النسبوية أصابتهم.
وقد عبر بابا الفاتيكان الحالي عن مخاوف مشابهة قائلا:
إننا نمضي نحو ديكتاتورية النسبوية التي لا تعتبر أي أمر أكيدا، والتي تهدف في المقام الأول إلى إرضاء غرور الذات ورغباتها.
كان لهذا القلق المعاصر بشأن النسبوية تأثير على السياسة التعليمية؛ فعلى سبيل المثال، قال نيك تيت، الرئيس التنفيذي لهيئة المؤهلات والمناهج بالمملكة المتحدة (فيما يتعلق بإدراج حصص المواطنة بالمنهج الوطني):
إذا كان هناك عدو يستحق الهزيمة، فإنه النسبوية.
وثمة خلاف على نطاق انتشار النسبوية الفعلي، إلا أنه من الجدير بالذكر أن النسبوية ليست ظاهرة حديثة، وأنها كانت محل أخذ ورد حتى في العصور القديمة.
وكثيرا ما يتم تصوير الإنسانويين المعاصرين على نحو مبالغ فيه على يد معارضيهم على أنهم مؤيدون للنسبوية، ولا سيما النسبوية «الأخلاقية»؛ وهي الرؤية القائلة بأن الحقيقة بشأن الصحيح أو الخاطئ أخلاقيا هي ما يعتقده الفرد أو المجتمع. إلا أن الإنسانويين - كما سأشرح في الفصل الرابع - معارضون للنسبوية عامة، وللنسبوية الأخلاقية خاصة.
Halaman tidak diketahui
كما أن أرسطو (384-322 قبل الميلاد) ذو أهمية لدى الإنسانويين؛ خاصة لأنه كان يحاول وضع نظرية عقلانية أخلاقية قائمة على دراسة وثيقة لطبيعة البشر، ولأن تركيز منظومته الأخلاقية ينصب على كيفية تحقيق نوع معين من السعادة أو الرفاهية في هذه الحياة (وليس في حياة ما ستأتي لاحقا). كان لأخلاق الفضيلة عند أرسطو - التي تركز على أهمية تكوين شخصية صالحة، لا على القواعد أو العواقب - تأثير بين الأخلاقيين المعاصرين، وفيهم بعض الأخلاقيين الإنسانويين.
لكن لعل أهم فيلسوف إغريقي من وجهة نظر الإنسانوية هو إبيقور (341-271 قبل الميلاد). كان إبيقور ماديا يعتقد، مثل الفيلسوف ديموقريطوس، أن المادة مكونة من أجزاء أو ذرات غير مرئية توجد في الفراغ وتحكمها قوانين. والبشر أيضا ماديون في الأساس، حسب اعتقاد إبيقور، لا يملكون روحا غير مادية أو خالدة. وهو يرى أن العدل يتمثل في التزامنا بالعقود والعهود التي نبرمها فيما بيننا، والتي مفادها ألا يؤذي أحدنا الآخر.
وللفلسفة عند إبيقور وظيفة علاجية في الأساس. كان هدفه هو وضع فلسفة للحياة من شأنها أن تتيح لنا التمتع بحياة سعيدة وهادئة خالية من الخوف.
شكل 1-1: إبيقور.
رغم أن إبيقور سلم بوجود آلهة، فقد افترض أنها قد لا تكون مهتمة بأمور البشر؛ فهي لا تكافئنا ولا تعاقبنا؛ ولذا ليست هناك حاجة للخوف منها. ورأى إبيقور أنه لا ينبغي الخوف كذلك من الموت؛ لأنه بمجرد أن نموت، ينقطع وجودنا بحيث لا نشعر بأي شيء. وحينذاك لا يوجد في الموت ما نخشاه؛ لا ألم ولا معاناة. يقول إبيقور في هذا الشأن:
سواء لم يكن لي وجود، أو كان لي وجود، أو ليس لي وجود الآن، فأنا لا أكترث!
كثيرا ما نقشت تلك المقولة على شواهد قبور أتباعه، ولا سيما على مدار عهد الإمبراطورية الرومانية، وكثيرا ما تتلى بجنازات الإنسانويين اليوم.
أكد إبيقور تأكيدا خاصا على الصداقة وجودة الحياة. كما اعتقد أن المتعة والألم هما المعياران الوحيدان لقياس الخير والشر؛ ونتيجة ذلك، كثيرا ما أسيء تفسير كلام إبيقور على أنه يوصي بحياة من اللذة المطلقة العنان؛ حياة من الشره والعربدة. لكن في الحقيقة، حذر إبيقور من الإفراط في إشباع الرغبات والإسراف الشديد في كل الأمور. ولإبيقور حيثية لدى الإنسانويين؛ لأنه وضع منهجا لعيش حياة طيبة بمعزل تام عن أي شواغل بشأن الآلهة أو الكيانات فوق الطبيعية. (4) الإمبراطورية الرومانية
أنتجت الإمبراطورية الرومانية القديمة عددا من المفكرين الذين عبروا، بدرجات متفاوتة، عن رؤية إنسانوية عامة.
على سبيل المثال، كان شيشرون (106-43 قبل الميلاد) متشككا، يرى أنه من المستحيل أن تتأتى معرفة عن الآلهة، واعتقد أن القيم الأخلاقية مستقلة عن الدين المؤسسي، وأنها تخضع للاستقصاء العقلاني الفلسفي.
Halaman tidak diketahui
كان الفيلسوف الروماني سنيكا (2 قبل الميلاد-65 ميلاديا) يرى أن:
الدين بالنسبة إلى البسطاء حقيقة، وإلى الحكماء كذب، وإلى الحكام وسيلة نافعة.
ومثل أغلب الإنسانويين اليوم، أصر سنيكا على أن «الوقت المناسب للعيش هو الآن.» (5) ابن رشد
إبان العصور الوسطى، كان الفكر المسيحي هو المسيطر على أوروبا على نحو كبير؛ فكانت جميع الأنشطة الفنية والفكرية تقريبا لاهوتية التوجه، ونادرا ما كان يتم التسامح مع التشكيك في المعتقد الديني التقليدي، وغالبا ما كان يقابل هذا بالعنف والتعذيب.
إلا أنه كانت توجد اتجاهات فكرية أكثر ليبرالية في العالم العربي. ولد المفكر العربي ابن رشد (1126-1198) في قرطبة بالأندلس، وهي بقعة اشتهرت بحريتها الفكرية النسبية. كان لشروح ابن رشد الواضحة والميسرة لأرسطو تأثير مهم على المفكرين المسيحيين الأوروبيين الذين كانوا يعيدون اكتشاف أعمال أرسطو، التي غابت بصورة عامة عن أوروبا المسيحية منذ القرن السادس. وفي الواقع، أطلق المفكر المسيحي توما الإكويني (1225-1274) على أرسطو «الفيلسوف» وعلى ابن رشد «الشارح».
وقال ابن رشد إنه عندما يتعارض النص الديني مع ما قاله فلاسفة على غرار أرسطو، يجب إعادة تفسير النص الديني باعتبار أنه يعتمد في أسلوبه على المجاز. وهذا المنهج الراديكالي الليبرالي نسبيا في تناول النصوص الدينية، الذي يعطي في الواقع العلم والعقل سلطة الاعتراض على الفهم الحرفي للنص، انتهى من العالم العربي. إلا أن ابن رشد غرس بذرة تحررية مهمة في الفكر الغربي؛ إذ زادت أهمية النقاشات حول إمكانية التقريب بين الدين والفلسفة. (6) عصر النهضة
يمتد عصر النهضة من القرن الرابع عشر حتى نهاية القرن السادس عشر أو بداية القرن السابع عشر، وكانت بدايته في فلورنسا بإيطاليا. تحققت الحركة جزئيا نتيجة لتجدد الاهتمام بالفكر الكلاسيكي؛ فقد أعاد أرباب الحركة اكتشاف أفكار وحجج المفكرين الإغريق والرومان ودراستها، تلك التي أعطت زخما عظيما للاستقصاء الفكري، الذي اتسع في تلك الفترة ليتخطى حدود اللاهوت المسيحي. واتسع أيضا نطاق الفنون المرئية، التي كانت تركز على نحو أساسي على الأمور الدينية، وأصبحت تركز على المذهب الطبيعي على نحو أكبر، إضافة إلى اعتمادها على الميثولوجيا الكلاسيكية إلى جانب الميثولوجيا اليهودية والمسيحية. ونشأ الرسم المنظوري. ودراسات ليوناردو دافنشي (1452-1519) لملامح الوجه البشري وما تخبرنا به عن شخصياتنا - التي ألهمت تصويره الفني للهيئة البشرية - توضح بدقة النحو الذي زاد به التركيز على دراسة الإنسان وثقافته إبان عصر النهضة.
كما كانت هناك ثورات دينية مهمة أيضا؛ فقد تصاعد النقد الموجه للكنيسة الكاثوليكية، التي تنامت النظرة إليها على أنها فاسدة، ولا سيما في مسألة بيع صكوك الغفران، التي وهبت مشتريها، المفترض دخولهم الجنة، العتق من العذاب في المطهر. وفي عام 1517، نشر مارتن لوثر (1483-1546) أطروحاته الخمس والتسعين عن قوة صكوك الغفران. وأتاح اختراع الطباعة انتشار مثل هذه الأفكار الجديدة والراديكالية على نطاق واسع. وأدت محاولات لوثر لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية في النهاية إلى ما يسمى بحركة الإصلاح الديني ونشوء البروتستانتية، وإنهاء الهيمنة الدينية للكنيسة الكاثوليكية على أوروبا.
إبان عصر النهضة، ابتكر المنهج العلمي الحديث، ربما على يد فرانسيس بيكون (1561-1626) بشكل خاص. وبالتأكيد شهد هذا العصر بعض محاولات التحدي العلمي للفكر الديني. كان جوردانو برونو (1548-1600) دومينيكيا موسوعيا، وهو الذي دافع عن نظرية كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس. استجوبت محكمة التفتيش برونو حول آرائه الكونية وكذلك آرائه الدينية غير التقليدية الأخرى؛ وفي النهاية حكمت بحرقه على الخازوق. وكان الفيزيائي وعالم الفلك جاليليو (1564-1642) طرفا بأحد أكثر المواقف الدرامية التي تصور التوتر المتنامي بين الفكر العلمي والفكر الديني؛ فقد حذرت الكنيسة الكاثوليكية جاليليو ألا يؤكد بقوة صحة نموذج كوبرنيكوس عن مركزية الشمس (حيث يمكن استخدامه كأداة تنبئية مفيدة). إلا أن جاليليو أقدم على ذلك، وعلى نحو مستفز إلى حد كبير؛ ونتيجة لذلك، ألقي القبض عليه وهدد بالتعذيب والإعدام على يد محكمة التفتيش العليا. وبعد أن تنصل جاليليو من أفكاره، سجن فحسب، واستبدل بهذا الحكم بعد ذلك الإقامة الجبرية.
ويصر عدد من المعلقين الكاثوليك المحدثين على أنه لن يكون من المنصف وصف الكنيسة الكاثوليكية بأنها كانت مناهضة للعلم في ذلك الحين. ويرى بعضهم أن آراء برونو اللاهوتية، وليست آراءه الكونية، هي التي أوقعته في المشاكل مع محكمة التفتيش. إلا أن وثائق الفاتيكان كشفت خطأ هذا الزعم؛ مما يشير بوضوح إلى أن التحقيق مع برونو جرى بسبب آرائه الكونية. كما يذهب بعض المعلقين إلى أن جاليليو ألقي القبض عليه، لا لآرائه العلمية، وإنما لآرائه حول تفسير الكتاب المقدس. ولكن هذا غير صحيح؛ فلأن جاليليو ذهب إلى أن الأرض تدور حول الشمس، لم يكن أمامه خيار سوى أن يقول إما أن مزاعم الكتاب المقدس المخالفة لذلك كانت خاطئة فحسب (وهو الأمر الذي كان سيعد عملا انتحاريا بالطبع)، وإما أن تلك الأجزاء من الكتاب المقدس - التي «يبدو» أنها تزعم أن الأرض لا تتحرك - تحتاج إلى إعادة تفسير.
Halaman tidak diketahui
وفي الواقع، اعترف بعض علماء اللاهوت الكاثوليك، مثل الكاردينال بلارمين الذي كان مسئولا عن التحقيق مع جاليليو، أنه إن ثبت بالبرهان الحاسم أن الأرض تتحرك، فقد يحتاج الكتاب المقدس إلى إعادة تفسير. إلا أن المشكلة أن جاليليو لم يملك دليلا حاسما.
وعليه، فإن وصف موقف الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الحين بأنه كان متحجرا وغير مبال «بالكامل» بالتطورات العلمية الحديثة سيكون مبالغا فيه بعض الشيء. لكن يبدو أن الكنيسة كانت مؤيدة لتعذيب وقتل أي عالم مستعد للمعارضة العلنية لأفكارها الكونية القائمة على مركزية الأرض دون أن يملك دليلا علميا دامغا.
وبطبيعة الحال، يتفق تماما الغالبية العظمى من الدينيين اليوم على أن استخدام العلم والعقل في محاولة فهم الكيفية التي يسير بها الكون يجب ألا يخضع لأي رقابة أو توجيه ديني. في عام 2000، اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني علانية، من بين جملة أشياء أخرى، عن محاكمة الكنيسة لجاليليو. إلا أنه في عام 1990، نقل الكاردينال راتسنجر، البابا بنديكت السادس عشر، البابا الحالي، عن الفيلسوف بول فايراباند فيما يبدو عن تأييد منه:
في زمن جاليليو، كانت الكنيسة تؤيد العقل أكثر بكثير من جاليليو نفسه. وكانت محاكمة جاليليو منطقية وعادلة.
والمعنى الدقيق الذي قصده راتسنجر بتلك الملاحظة محل خلاف، إلا أنه من الواضح أنه أثار دهشة بعض الإنسانويين. (7) عصر التنوير
يمتد عصر التنوير - المعروف أحيانا ب «عصر العقل» - من أواخر القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر. وقد شهد عصر التنوير نقدا متزايدا للمعتقدات والمؤسسات الدينية التقليدية من جانب جماعات دينية حديثة أكثر راديكالية، وقد أدى ذلك إلى انقسام الديانة المسيحية إلى مزيد من الطوائف. لكن رغم توجيه الانتقادات إلى الدين، كان ذلك عادة من وجهة نظر معتقدات دينية بديلة؛ فحينها كان وجود المعتقدات الإلحادية ما زال نادرا، وفي كثير من الأماكن كان اعتناق مثل هذه الأفكار ينطوي على المخاطرة بالوقوع تحت طائلة الاضطهاد.
في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر، نشر مفكرا عصر التنوير دنيس ديدرو (1713-1784) وجون دالمبير (1717-1783) «الموسوعة»؛ وهي ملخص محرر للمعارف احتوى على العديد من الأفكار الليبرالية والخاصة بالمذهب الطبيعي والتشككية الراديكالية. كان ديدرو ملحدا، وكان كلا الرجلين يوجهان انتقادات شديدة للدين المؤسسي. وقد حظر هذا الكتاب قبل أن يكتمل. وعصر التنوير باعتباره حركة فكرية وصف بمجموعة مختلفة من الطرق. وقد عرف ديدرو ودالمبير المفكر التنويري بأنه الشخص الذي:
يطأ بقدميه التمييز والتقليد والإجماع العام والسلطة؛ أي كل ما يستعبد أغلب العقول، وهو الذي يجرؤ على التفكير بنفسه.
لكن لعل أشهر تعريف لعصر التنوير يأتي من الفيلسوف إيمانويل كانط (1724-1804)، الذي كتب في عام 1784 مقالا قصيرا بمجلة حمل عنوان «ما التنوير؟» ووصف فيه عصر التنوير بأنه:
خروج المرء من إطار الطفولة الذي فرضه على نفسه. والطفولة هي غياب القدرة على استخدام المرء عقله دون توجيه من شخص آخر، وهي إطار يفرضه المرء على نفسه، يعتمد على نقص، لا في العقل، بل في العزيمة والشجاعة على استخدام العقل دون توجيه خارجي. لذا، فإن شعار عصر التنوير هو «تجرأ على المعرفة»؛ تمتع بالشجاعة لاستخدام عقلك!
Halaman tidak diketahui
يتهم بعض مفكري عصر التنوير بأنهم من أنصار «اليوتوبية»؛ أي إنهم يفترضون على نحو ساذج أن عصر العقل سيجلب حتما عصر السلام والرخاء والرضا. كما أن فكر عصر التنوير متهم أيضا ب «العقلانية» المفرطة، بافتراض أن المجتمع ومنظومة الأخلاق يمكن أن يكون لهما أساس عقلاني «بالكامل». والآن ثمة اعتقاد واسع الانتشار بأن ذلك كان خطأ؛ فلا يمكن استدعاء مبادئ الأخلاق بالكامل من عباءة العقل. وسيضيف كثير من منتقدي عصر التنوير أن هذا كان خطأ خطيرا؛ فنبذ الركائز القديمة المتمثلة في التقليد والسلطة الدينية من شأنه أن يؤدي إلى ترك منظومة الأخلاق والمجتمع دون أي ركائز على الإطلاق؛ وهي وصفة للفشل ووقوع الكوارث.
ولكن، رغم أن بعض مفكري عصر التنوير كانوا يوتوبيين في الواقع، وبعضهم - مثل كانط - افترض أنه يمكن تأسيس الأخلاق على العقل وحده، لاحظ أن توصيف كانط لعصر التنوير لا يقتضي أيا من هذين الاعتقادين؛ فالإيمان بأهمية تنشئة مواطنين متنورين بالمعنى الذي قصده كانط - مواطنين يجرءون على التفكير والشك، ويستخدمون قوى عقلهم لأبعد حد ممكن بدلا من مجرد القبول السلبي غير الناقد لما يقال لهم من سلطة دينية ما أو غيرها - لا يعني تأييد اليوتوبية أو افتراض أن الأخلاق والمجتمع يمكن أن تكون لهما ركائز عقلانية بالكامل. والإنسانوية الحديثة تنطوي بوضوح على التزام بالتنوير بحسب معنى كانط. وهذا لا يعني أن إنسانويي اليوم يوتوبيون، أو أنهم يبالغون في تقدير قدرات العقل (مع أن كلا الاتهامين يوجهان عادة إلى الإنسانوية المعاصرة).
ثمة نقد شهير آخر يوجه إلى كثير من مفكري عصر التنوير؛ وهو أنهم يفترضون خطأ أنه يمكن استخدام العقل دون الاحتكام إلى تقليد مشترك؛ فكما رأينا، عرف ديدرو ودالمبير المفكر التنويري بأنه الذي «يطأ» بقدميه التقليد. ولكن ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن هذه الرؤية غير متماسكة؛ لأنه أيا كانت صور التفكير التي سنستخدمها، «فإنها نفسها ستنبع من تقليد مشترك وتعتمد عليه.» على سبيل المثال، يقول الفيلسوف المعاصر أليستر ماكنتير:
كافة صور التفكير تحدث في سياق شكل تقليدي من أشكال الفكر.
فيزعم ماكنتير أنه لا يمكن «الخروج عن» التقليد بأسره والتفكير من منظور تخلى تماما عن التقليد. لذا، من وجهة نظر ماكنتير، من المستحيل عمليا أن نقوم بما يحضنا ديدرو ودالمبير على القيام به: استخدام العقل على أساس فردي، بمعزل عن أي تقليد.
لكن حتى لو كان ماكنتير على حق، فلا يستتبع ذلك أنه لا يجب علينا التشكيك في الفكر التقليدي. وكان ماكنتير نفسه واضحا في هذا الصدد، إذ أكد:
لا شيء يمكن أن يزعم أنه مستثنى من النقد التأملي.
أن نقول - عند استخدام العقل - إنه لا يسعنا سوى أن نعتمد على التقليد، فهذا شيء؛ وأما القول بأنه يجب ألا نبالغ في النقد عند فحص المعتقدات التقليدية، فهذا شيء آخر. ودعوة كانط بأنه يجب علينا أن نتجرأ على التشكك والتفكير بأنفسنا، لا القبول المستسلم بما يصرح به التقليد، تظل متماسكة. وإنها لدعوة التنوير التي يعتنقها الإنسانويون اليوم.
يعتبر ديفيد هيوم (1711-1776) مفكرا تنويريا ذا أهمية خاصة من وجهة نظر الإنسانوية. كان هيوم مؤرخا وفيلسوفا اسكتلنديا عبقريا أخضع الكثير من المعتقدات المفترضة منطقيتها للاستقصاء الناقد، وفيها المعتقدات الدينية. كان متشككا في المعجزات الدينية وغيرها من المعجزات. نشر كتاب هيوم «محاورات في الدين الطبيعي» بعد موته، وضم بعضا من أشد الانتقادات وأقواها التي وجهت في أي وقت إلى ما يعرف ب «براهين التصميم» المؤيدة لوجود الإله. ولا يزال الخلاف دائرا حول إن كان هيوم لا أدريا أم ملحدا، إلا أنه لم يؤمن بالإله.
طرح هيوم بعض الأسئلة المهمة حول «حدود العقل». وقال إن المعتقدات الأخلاقية غير قابلة أساسا للتبرير بالاحتكام إلى العقل أو الخبرة، مؤكدا على ما يلي:
Halaman tidak diketahui
لا ينافي العقل أني أفضل تدمير العالم بأسره على أن تخدش إصبعي.
كذلك قال هيوم إن التفكير الاستقرائي - المؤسسة عليه معتقداتنا كلها حول المستقبل - والعلوم التجريبية لا يمكن تبريرهما عقلانيا. وباعتبار أننا نرى الشمس تشرق كل يوم، فإننا نعتقد أنها ستشرق صباح غد، وفي الحقيقة، لا يسعنا سوى اعتقاد ذلك. مع ذلك، يقول هيوم إن افتراضنا أن الشمس ستشرق صباح غد ليس أكثر تبريرا من افتراضنا، على سبيل المثال، أن قرصا ضخما من أزهار التيوليب يبلغ عرضه مليون ميل سيعتلي الأفق بدلا من قرص الشمس.
ويتفق أغلب الإنسانويين المعاصرين مع هيوم في أن للعقل - رغم أنه يجب علينا استخدامه أينما نستطيع وبأفضل ما يمكننا - حدوده (رغم الخلاف حول إن كانت تلك الحدود تقع حيث افترض هيوم أم لا). (8) القرن التاسع عشر
في عام 1859، نشر تشارلز داروين (1809-1882) كتابه «أصل الأنواع»، الذي شرح كيف تطورت الأنواع الجديدة على مدار ملايين السنين. قبل داروين، كان الناس يفترضون أن الأنواع لا يمكن خلقها إلا بواسطة الإله. في الواقع، لم يمتلك مفكرو التنوير تفسيرا بديلا للطريقة التي ربما خلقت بها الأنواع. شرح داروين كيف أن آليات طبيعية بالكامل وخاضعة للبحث العلمي قادرة على إنتاج أنواع جديدة، وهو ما يعد تطورا مثيرا جدا. في الواقع، كان تطور الأنواع على هذا النحو مدعوما بقوة بالأدلة، وهو ما تعارض بالطبع تعارضا صريحا مع الكتاب المقدس.
شهد أيضا القرن التاسع عشر تطورات مهمة على صعيد نقد الكتاب المقدس، ولا سيما في ألمانيا. كان الباحثون الألمان مثل ديفيد شتراوس (1808-1874) ويوليوس فلهاوسن (1844-1918) بصدد الكشف عن الطبيعة الخرافية لقسم كبير من الكتاب المقدس. وفي ألمانيا أيضا، أنكر عالم اللاهوت والفيلسوف لودفيج فويرباخ (1804-1872) الأفكار الدينية التقليدية، وأكد على أن رب الدين التقليدي هو الإسقاط الوهمي الخارجي لطبيعة البشر الكامنة داخلهم، وانتقد فريدريش نيتشه (1844-1900) بشدة منظومة الأخلاق المسيحية، واتهمها بأنها معوقة للحياة، ومحملة بمشاعر الكراهية والسخط. وبالطبع قال كارل ماركس (1818-1883) إن الدين «أفيون الشعوب».
وفي بريطانيا، وضع الفيلسوفان جريمي بنثام (1748-1832) وجون ستيوارت ميل (1806-1873) نظرية أخلاقية ثورية تعرف باسم النفعية، وهي التي حددت الخير الأخلاقي من منطلق السعادة. وحسب بنثام، فإن «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس هو أساس الأخلاق والتشريع.» وإحدى سمات النفعية الراديكالية هي الطريقة التي تستغني بها عن الحاجة إلى طرح أي كيان فوق طبيعي من أجل تعزيز أو تبرير منظومة الأخلاق. ويرى المؤمن بالنفعية أنه من أجل تقييم مدى صحة شيء أو خطئه أخلاقيا، يجب ألا نركز على أي شيء آخر غير ما يحدث في «هذا» العالم «الطبيعي». وبالنسبة إلى كثير من الدينيين، هذه الرؤى كانت - ولا تزال - غير مقبولة مطلقا. والكثير من العادات والقوانين والمؤسسات في زمان بنثام سببت الشقاء للعديدين. وتشير النفعية إلى أن تخفيف المعاناة حيث يمكننا ذلك ليس أمرا مرغوبا وحسب، وإنما هو في الواقع متطلب أخلاقي؛ ومن ثم قادت النفعية - ولا تزال تقود - كثيرا من النفعيين إلى الإصلاح القانوني والاجتماعي. وقد أدت نفعية بنثام إلى اعتقاده أن علينا التزامات أخلاقية تجاه المخلوقات الأخرى؛ لأنها تعاني أيضا مثلنا، فقد قال بنثام عن الحيوانات الأخرى:
سيحل اليوم الذي قد تكتسب فيه الحيوانات كافة تلك الحقوق التي لا يمكن أن تسلب منها إلا بالطغيان.
وبالتأكيد ليس جميع الإنسانويين نفعيين. إلا أن نشوء النفعية كان مهما بوضوح لنشوء الإنسانوية الحديثة، ولا سيما لأنها توضح مجددا كيف أنه يمكن التعبير والدفاع عن رؤية مميزة ومحكمة فكريا لمنظومة الأخلاق بمعزل تام عن أي معتقد ديني.
ظلت الرقابة على غير المؤمنين واضطهادهم في أوروبا قائمة، وشهد عام 1826 آخر ضحية لمحكمة التفتيش العليا، أعدم في إسبانيا (أعدم المدرس كايتانو ريبول خنقا لمزاعم تدريسه أفكارا ربوبية). وفي عام 1842، كان جي جيه هوليوك (1817-1906) (أول من صك مصطلح «العلمانية») آخر شخص (وربما أول شخص) يسجن في بريطانيا بتهمة الإلحاد. إلا أن أعدادا متزايدة من الشخصيات العامة كانت مستعدة علنا للتشكيك في مزاعم الدين. ففي بريطانيا، جهر الكتاب بيرسي بيش شيلي (1792-1822) وجورج إليوت (1819-1880) وتوماس هاردي (1840-1928) بإلحادهم. وفي عام 1880، أصبح تشارلز برادلو (1833-1891)، المؤسس المشارك للجمعية الوطنية العلمانية التي ظهرت في عام 1866، أول عضو برلماني منتخب في بريطانيا يجهر بإلحاده (إلا أن إلحاده كان يعني أنه لن يستطيع أن يقسم قسم الولاء؛ ولذا حرم من مقعده لعدة سنوات).
شكل 1-2: مبنى كونواي هول، ميدان ريد لايون، مقر جمعية ساوث بليس الأخلاقية.
Halaman tidak diketahui
شهد القرن التاسع عشر نشأة جمعيات أخلاقية، وهي التي ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة. وفرت تلك الجمعيات إطارا يمكن للناس من خلاله مناقشة المسائل الأخلاقية والاشتراك في نشاط أخلاقي، مثل العمل الخيري والبرامج الاجتماعية والتعليمية. كان أعضاء تلك الجمعيات مفكرين أحرارا، يشجعون على النقاش المفتوح حول المسائل الأخلاقية والدينية. ورغم أن كثيرا من تلك الجمعيات وصفت نفسها بأنها «دينية»، فإنها لم تكن دينية غالبا إلا من منطلق أنها أخذت على عاتقها التزاماتها الأخلاقية بجدية، وكان الإيمان بوجود إله اختياريا. وقد قال فيلكس أدلر (1851-1933)، مؤسس جمعية نيويورك للثقافة الأخلاقية في عام 1876: «إن الثقافة الأخلاقية دينية لأصحاب العقلية الدينية، وهي أخلاقية فحسب لمن لا يمتلكون تلك العقلية.» وأول جمعية أخلاقية بريطانية - جمعية ساوث بليس الأخلاقية، الموجودة حتى يومنا هذا - تأسست رسميا في عام 1888، بعد أن خرجت من رحم كنيسة توحيدية. وسرعان ما تبعتها جمعيات أخلاقية بريطانية أخرى عديدة.
تحولت مختلف الجمعيات الأخلاقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر إلى إحدى الركائز الأساسية للحركة الإنسانوية الحديثة. في عام 1896، تجمعت الجمعيات الأخلاقية البريطانية معا لتشكل اتحاد الجمعيات الأخلاقية، الذي أعيدت تسميته في عام 1967 ليكون الرابطة الإنسانوية البريطانية. وفي عام 1952، أصبح الاتحاد الأخلاقي الأمريكي، وهو منظمة جامعة لمختلف الجمعيات الأخلاقية بالولايات المتحدة، عضوا مؤسسا في الاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، وهو الجهة التي تمثل الآن الحركة الإنسانية العالمية. (9) القرن العشرون
في كثير من الدول إبان النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الإنسانوية جزءا من الاتجاه السائد. ففي أوروبا، تراجع الدين على نحو كبير؛ فعلى سبيل المثال، تشير استطلاعات الرأي أنه في نهاية القرن العشرين، تبنى حوالي 36٪ من البريطانيين معتقدات وقيم الإنسانوية والرابطة الإنسانوية البريطانية. وعلى مستوى أغلب أوروبا، أمكن التعبير عن المعتقدات الإلحادية أو الإنسانوية دون كبير خوف من التبعات.
كان كثير من مفكري القرن العشرين البارزين من الإنسانويين؛ وفيهم برتراند راسل، الذي كان لكتابه «لماذا لست مسيحيا؟» تأثير بالغ. وفي نهاية القرن العشرين، زعم عدد قليل نسبيا من الفلاسفة أن الأخلاق تتطلب أساسا إلهيا من نوع ما (في الواقع، أشارت نتيجة استطلاع حديث أن 14,6٪ فحسب من الفلاسفة مؤلهون). وأبرز الأخلاقيين اليوم وأبلغهم تأثيرا، وهو بيتر سنجر، إنسانوي.
إبان القرن العشرين، زادت صعوبة تمييز الدين الذي يمثله كثير من علماء اللاهوت وغيرهم من المفكرين الدينيين؛ إذ إنه من الأسهل بكثير توصيف تدينهم من منطلق ما ليس عليه لا من منطلق ما هو عليه. وفي الواقع، يصعب تمييز معتقدات بعض علماء اللاهوت المتطورين عن معتقدات بعض الإنسانويين.
لكن على مستوى الدينيين في العالم، تلك الأفكار اللاهوتية المتطورة هي الاستثناء لا القاعدة؛ إذ الأصولية الدينية هي السائدة. ففي الولايات المتحدة، تشير استطلاعات الرأي باستمرار إلى أن حوالي ثلث المواطنين يؤمنون بصحة كل ما جاء في الكتاب المقدس؛ ومن ثم بأن عمر الكون بضعة آلاف من السنوات فقط. والملحدون من أقل الأقليات المؤتمنة بالولايات المتحدة؛ إذ أشارت دراسة وطنية إلى أن الملحدين هم أبعد أقلية يسمح الأمريكيون لأبنائهم بالزواج منها. وقالت دوروثي إدجيل، قائدة فريق الدراسة السابقة التي أجرتها جامعة مينيسوتا: «يبدو أن نتائجنا تقوم على نظرة للملحدين مفادها أنهم أفراد لا يهتمون إلا بذواتهم ولا يكترثون بالصالح العام.» فينبغي تناول المفاهيم الخاطئة حول ماهية معتقدات الإنسانويين والتمييز الذي يعانون منه نتيجة لتلك المفاهيم، حتى داخل أكبر الديمقراطيات الليبرالية في العالم.
وحتى في كثير من الدول الليبرالية، تحظى المعتقدات الدينية بوضعية متميزة ترعاها الدولة، ولا تزال المعركة تدور من أجل إتاحة تكافؤ فرص بين الدينيين واللادينيين. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تمول الدولة المدارس الدينية التي بمقدورها التمييز بين كل من هيئة التدريس والطلاب على أساس معتقداتهم الدينية. ويلزم القانون كل مدرسة تمولها الدولة في إنجلترا وويلز بأن تبدأ كل يوم بشعيرة من شعائر العبادة الجماعية، ويجب أن تكون «ذات محتوى مسيحي الطابع على نحو كلي أو رئيسي.»
وفي كثير من البلدان حول العالم، أن يخرج أحدهم عن الدين الذي ولد عليه فإنه يخاطر بنبذه اجتماعيا أو ما هو أسوأ. المسلمون المرتدون يعدمون في السعودية وإيران والصومال وقطر واليمن وموريتانيا. وفي مالاوي ونيجيريا، يدين القساوسة المسيحيون الأطفال لممارستهم السحر، ويعاقبونهم بالضرب والتعذيب، وأحيانا القتل في مراسم طرد الأرواح الشريرة. ونتيجة لممارسات جماعات الضغط الدينية، تنظر أوغندا في إنزال عقوبة السجن مدى الحياة لتكون الحد الأدنى لعقوبة ممارسة الجنس المثلي. وفي بقاع كثيرة من العالم، ينتشر التعصب الديني ولا تزال المعركة من أجل الحقوق والحريات الأساسية دائرة.
وعلى كلا الصعيدين المحلي والعالمي، ثمة عدد ضخم من القضايا المهمة، وأحيانا البالغة الأهمية بالنسبة إلى الإنسانويين؛ قضايا تواصل المنظمات الإنسانوية - مثل الرابطة البريطانية الإنسانية، ومركز البحث، والجمعية الإنسانوية الأمريكية، والاتحاد الإنسانوي الأوروبي، والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي - تنظيم الحملات من أجلها.
عادة ما يكون الإنسانويون إصلاحيين. وكثيرا ما تضعهم آراؤهم في موقف المواجهة مع الدينيين - ولا سيما المتحفظين منهم - حول قضايا مثل تحديد النسل وحقوق المثليين من الجنسين، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحرية التعبير، ووضع نهاية لحظوة الدين. ويرجع ذلك إلى أن ما يعارضه الإنسانويون في كثير من الأحيان (لكن ليس دائما) متجذر في التقاليد والمؤسسات الدينية ويحظى بتبرير ديني.
Halaman tidak diketahui
إلا أنه ثمة عدد كبير من الدينيين الذين يتفقون مع كثير مما يقوله الإنسانويون، بل مع كل ما يقولونه حول تلك القضايا - الذين يرون أن التبريرات الدينية التقليدية لمثل هذا التمييز والظلم والحظوة لا يمكن الدفاع عنها - ومن ثم يمكن للإنسانويين التعاون، وأحيانا ما يحدث ذلك، مع الدينيين أفرادا ومنظمات لتحقيق الأهداف المشتركة.
ليس «العداء للدين» هو الذي يوجه مطامح الإنسانويين الإصلاحية كما يفترض بعض الدينيين، وإنما «التزام إيجابي بتناول القضايا الأخلاقية والسياسية بأسلوب رشيد ومحايد.» وبالطبع هذا الالتزام يضع الإنسانويين حتما في صراع مع كثير من الدينيين حول كثير من تلك القضايا، ولكن بالتأكيد ليس معهم كلهم.
والجدير بالذكر أيضا أن الإنسانويين لا يقلون في معارضتهم للقمع والتمييز بغير وجه حق عندما يكون على يد أنظمة «ملحدة»، مثل نظامي ماو تسي تونج وستالين الديكتاتوريين اللذين ظهرا في القرن العشرين (حيث أقدم كلاهما على اجتثاث أصحاب الفكر الحر التنويريين بالقسوة نفسها التي أقدما بها على اجتثاث الفكر الديني). (10) نظرة سريعة على تاريخ مصطلح «الإنسانوية»
لعل أول استخدام لكلمة «إنسانوي» كان لوصف فرع من المناهج التعليمية: العلوم الإنسانية؛ التي تضم النحو والشعر والبلاغة والفلسفة الأخلاقية. وخلال عصر النهضة، كان هناك إعادة اهتمام، كما أشرنا آنفا، بالثقافة الكلاسيكية، وتركيز متزايد على الإنسان. وأطلق المعلقون على القرن التاسع عشر فيما بعد على الحركة الثقافية والفكرية هذه «إنسانوية عصر النهضة».
أما اليوم، فالاستخدام الرئيسي لمصطلح «الإنسانوية»، في كل من المملكة المتحدة والعالم، هو لوصف الاتجاه الذي عرضت ملامحه في مقدمة كتابي هذا. وكان هذا المعنى الرئيسي للمصطلح للأعوام السبعين الماضية على الأقل؛ المعنى الذي بدأ يكتسبه خلال القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة، يضع البعض كلمة «العلمانية» قبل كلمة «الإنسانوية»؛ كي يؤكدوا على أن معتقداتهم منفصلة عن أي معتقد ديني. وفي المملكة المتحدة، تعتبر إضافة كلمة «العلمانية» إطنابا لا داعي له.
الفصل الثاني
الحجج المؤيدة لوجود الإله
الإنسانويون إما ملحدون وإما لا أدريون، ويفترضون في المعتاد أن الإيمان بوجود إله أو عدة آلهة غير منطقي أو مبرر، ويزيد آخرون على ذلك؛ إذ يؤكدون على أن الإيمان بالإله غير عقلاني على الإطلاق.
وفي المقابل، فإن المؤمنين بالإله يفترضون في المعتاد أن معتقدهم عقلاني، مع تأكيدهم على أن موقفهم هو «موقف إيماني». إنهم يفترضون أن الإيمان بالإله ليس مثل الاعتقاد في وجود بابا نويل أو الجنيات؛ فالأمر أكثر عقلانية بكثير من ذلك. ربما يعترفون أن وجود الإله لا يمكن «إثباته» على نحو حاسم، لكنهم يصرون دوما على أن الاعتقاد بوجود الإله شيء عقلاني، إلى حد ما، على الأقل بالنسبة إلى شخص بالغ متعلم ومتحضر.
لكن إن كان الإيمان بالإله أكثر عقلانية بكثير من الإيمان بوجود الجنيات، على سبيل المثال، فما سبب ذلك؟ ما الذي يجعل الإيمان بالإله أكثر عقلانية؟ يرد المؤلهون (المؤمنون بالإله) على هذا السؤال بإجابات مختلفة؛ يحاول كثير منها عرض «حجة منطقية» ما تؤيد وجود إله.
Halaman tidak diketahui
ثمة الكثير من مثل هذه الحجج، وسأعرض هنا لحجتين من أشهر الحجج المؤيدة لوجود الإله، وسأشير إلى نقاط الضعف التي يراها نقادها من الإنسانويين. سأبدأ بمثال على الحجة الكونية، ثم سأنتقل إلى بعض صور برهان التصميم، وفي ذلك مثالان معاصران يستند أولهما إلى التعقيد غير القابل للاختزال والثاني إلى التصميم الدقيق. وهدفي هنا هو مجرد عرض لإطلالة موجزة على بعض المشاكل والاعتراضات التي تواجه مثل تلك الحجج في المعتاد. (1) الحجة الكونية: لم توجد أشياء من الأساس؟
نظر أغلبنا في وقت ما إلى السماء المرصعة بالنجوم وخطر له السؤال التالي: «من أين أتى كل هذا؟ لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» هذا سؤال عميق؛ سؤال جدير بدراسة جدية.
بالطبع، وضع العلماء نظريات حول كيفية نشأة الكون، وحاليا يعتقد أغلب العلماء أن الكون بدأ منذ 13 أو 14 مليار سنة تقريبا بالانفجار العظيم؛ ذاك الحدث الذي لم تبدأ معه المادة والطاقة فحسب، وإنما الزمان والمكان أيضا.
إلا أن تلك الإجابات العلمية يبدو أنها تؤجل اللغز فحسب ولا تجيب عنه؛ فنحن نريد الآن أن نعلم: لم كان هناك انفجار عظيم؟ لم كانت هناك - وما زالت توجد - أشياء من الأساس؟
وعند هذه النقطة يبدو أننا نواجه سؤالا لا يستطيع العلم، بالضرورة، أن يجيب عنه؛ فالعلم يفسر الظواهر الطبيعية بالإشارة إلى سمات أخرى من العالم الطبيعي، مثل الأسباب المادية أو قوانين الطبيعة. على سبيل المثال، إذا سألت عالما: لم تجمدت المياه الليلة الماضية بالأنابيب؟ فربما يجيبك بما يلي؛ أولا: من قوانين الطبيعة أن الماء يتجمد تحت درجة صفر مئوي، وثانيا: الليلة الماضية انخفضت درجة حرارة الماء بالأنابيب لتحت الصفر. وهذا سيفسر لك لم تجمد الماء. لكن ما الذي يفسر سبب وجود أي قوانين للطبيعة في المقام الأول؟ بل ما الذي يفسر سبب وجود عالم طبيعي من الأساس؟
بالطبع عند هذه النقطة من المفترض أن يدخل الإله في الصورة. لا يستطيع العلم تفسير سبب وجود الكون؛ لذا، إن لم نفترض أن وجوده حقيقة عمياء لا يمكن تفسيرها، يجب أن نتجه إلى الإله بوصفه الحل لتلك المعضلة. فالإله يقدم التفسير الوحيد، أو أفضل تفسير متاح على الأقل، للسبب وراء وجود أشياء من الأساس.
وفي حين يقر كثير من المؤلهين بأن الحجة السابقة لا تشكل دليلا حاسما على وجود إله، يعتقد كثير منهم أن مثل هذه الحجج «الكونية» - الحجج التي تستدل على وجود الإله بوصفه أفضل تفسير أو التفسير الوحيد لوجود الكون - تمنح معتقدهم على الأقل قدرا كبيرا من الدعم العقلاني. (2) مشاكل الحجة الكونية
الحجة الكونية الموضحة ملامحها أعلاه تواجه عدة مشاكل معروفة جيدا، سأشرح الخطوط العريضة لثلاث منها فحسب:
أولا، تفترض الحجة أن السؤال: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» سؤال منطقي، لكن هل هو سؤال منطقي؟ بإلقاء نظرة أعمق على الأمر فإن الأمر ليس بهذا الوضوح. لكن إن كان السؤال غير منطقي فهو لا يحتاج لأي إجابة، فضلا عن احتياجه لإجابة دينية. فيما يلي خط التفكير الذي يخلص إلى أن هذا السؤال لا معنى له في واقع الأمر.
عندما نتحدث عادة عن وجود «عدم»، فإننا نقصد مثلا وجود مساحة خالية من الفراغ؛ فعندما أقول: «لا يوجد شيء في فنجاني»، أقصد بذلك أن المساحة الموجودة داخل فنجاني الآن فارغة. وعندما أقول: «لا شيء أقوم به الآن»، أقصد بذلك أنني في هذه اللحظة لا أؤدي أي نشاط. ويقدم الكون الزمكاني، إن جاز التعبير، الساحة التي قد تظهر عليها تلك الأمثلة من الأشياء والعدم.
Halaman tidak diketahui
لكن عندما نطرح السؤال الفلسفي: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» فنحن نقصد شكلا أكثر راديكالية بكثير من العدم، يمكن أن نطلق عليه العدم «المطلق». والبديل لشيء يفترض أننا الآن نتصوره ليس مجرد غياب للأشياء أو الأمور التي تجري. يفترض بنا أن نفكر في الاحتمال التالي: ليس الأمر غياب الشيء أو عدم حدوث أي شيء فقط، وإنما أيضا لا يوجد زمان أو مكان يمكن أن يوجد فيهما أي شيء أو يمكن أن يحدث أي أمر؛ فالساحة نفسها اختفت الآن.
وهذا نوع عميق ومحير من الغياب؛ محير جدا لدرجة لا يتضح معها إن كانت الفكرة تبدو منطقية أم لا (وهو بالتأكيد يطرح بعض الأسئلة المثيرة؛ مثل: «ما الفرق بين التفكير في العدم المطلق، وعدم التفكير في أي شيء؟»)
قد نسارع بقول «لكن بالتأكيد فكرة العدم المطلق منطقية، فما هي سوى فكرة عن «ما كان موجودا فيما مضى»، قبل وجود أي شيء». لكن في الواقع العدم المطلق ليس ما كان موجودا فيما مضى؛ فلم يأت زمن كان فيه العدم المطلق (لأنه إن كان هناك زمن كذلك، فلن يكون هناك عدم مطلق).
لكن دعونا نقر، وإن كان لغرض المناقشة وحسب، أن فكرة العدم المطلق منطقية، وكذلك السؤال القائل: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» برغم هذا، تظل الحجة الكونية تواجه مشاكل أخرى .
ثمة مشكلة واضحة في افتراض أن الإله هو الإجابة على السؤال: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» هي أنه بطرحنا الإله يبدو أننا طرحنا شيئا آخر يجب تفسير وجوده هو الآخر، فيبدو أننا زدنا من اللغز فحسب بدلا من أن نحله. وإذا ترك وجود الإله دون تفسير، فما المسوغ لطرح الإله؟ لم لا نتوقف عند الكون فحسب؟
ومن الردود التقليدية للتأليهيين على هذا الاعتراض الإصرار على أن الإله - بعكس الكون الطبيعي - كيان «ضروري»؛ شيء لا بد بالضرورة من أن يوجد.
وكيف يمكن لشيء أن يوجد «بالضرورة»؟ ربما إن كانت فكرة هذا الشيء تنطوي في الواقع على فكرة الوجود. إننا يمكن أن نتصور عدم وجود الكون. لكننا، كما يزعم بعض التأليهيين، لا نستطيع تصور عدم وجود الإله. فإذا تصورت عدم وجود شيء، فلا يمكن أن يكون الإله هو ما تتصوره؛ لأن مفهوم الإله يكتنف مفهوم الوجود. وبذلك فإن الإله، إن اتفقت مع هذا الطرح، «يفسر وجوده»، وتفسير وجود الإله هو «أنه، بطبيعته، يجب أن يوجد.»
لكن إن كان الإله كيانا ضروريا، فإن البحث عن تفسير نهائي لسبب وجود أشياء من الأساس يصل إلى غاية مرضية: لا حاجة إلى البحث فيما وراء الإله عن شيء آخر لتعليل وجوده (ثم عن شيء آخر وراء ذلك الشيء يعلل وجوده، وهكذا إلى ما لا نهاية)؛ ففي ظل وجود الإله، نصل إلى نهاية الطريق.
إلا أن فكرة الوجود الضروري بالتأكيد فكرة خلافية. وفي واقع الأمر، فإن كثيرا من الفلاسفة يتشككون في الزعم القائل بأن شيئا قد يوجد بالضرورة.
لننظر، على سبيل المثال، إلى إحدى الرؤى الفلسفية الأساسية عن الضرورة: إن ما هو ضروري أو أساسي هو في النهاية نتاج لممارساتنا اللغوية و/أو السبل التي نكون بها مفاهيمنا عن الأشياء. وهذا معقول للوهلة الأولى في كثير من الحالات؛ فعلى سبيل المثال، أليس السبب في أن من الضروري لكي يكون كائن من الكائنات فحلا أن يكون ذكرا وحصانا في نفس الوقت الذي يكون فيه هذا هو «تعريف » الفحل؟ فأن يكون الكائن ذكرا وحصانا في نفس الوقت، إن اتفقت مع هذا الطرح، هما مكونان أساسيان لمفهوم الفحل.
Halaman tidak diketahui
ولكن حسب رؤية الضرورة هذه، إن كان الإله، أو شيء آخر، يوجد بفعل الضرورة، فلا يمكن أن يتحقق ذلك إلا «بسبب أن الإله معرف أو متصور بهذا الشكل؛ أي على أنه شيء موجود.»
والمشكلة هنا هي أنه «لا الوجود ولا الوجود الضروري يمكن الجزم بهما مفاهيميا على هذا النحو.» فإن عرفت «ووزل» على أنه أول شخص سار على سطح المريخ في عام 2000، فأنا بذلك أعرف أنه إن كان أي شخص ووزل، فسيكون أول من سار على المريخ في عام 2000. لكن بالطبع لم يسر أحد على المريخ عام 2000. ولاحظ أنني لا أستطيع الجزم بأن مثل هذا الشخص موجود بمجرد إضافة الوجود إلى تعريفي له، مثل الآتي: «ووزل» هو أول شخص يسير على سطح المريخ في عام 2000 «وهو موجود».
وعلى نحو مشابه، حتى إن كان الوجود مشمولا في فكرة الإله، فلن يستتبع ذلك وجود مثل ذلك الكيان، فضلا عن وجوده بالضرورة (ولهذا السبب فإن الفشل مصير تلك الحجج «الوجودية» التي تحاول إثبات وجود الإله عن طريق الإشارة إلى أن مفهوم الإله ينطوي على مفهوم الوجود).
ولذا، إذا كان السبيل الوحيد لإلحاق صفة بشيء على نحو ضروري هو عن طريق تعريفنا أو تصورنا له بطريقة معينة، وليس من الممكن إلحاق الوجود على هذا النحو؛ إذن «فالعدم يمكن أن يوجد بالضرورة.»
حتى إن أمكن التعامل مع جميع الاعتراضات المختلفة الموضحة أعلاه، فستبقى مشاكل أخرى أمام الحجة الكونية، وفيها المشكلة التالية: حتى إن لم تنجح الحجة في إثبات وجود شيء ما موجود بالضرورة يسير الكون، فإنها، بشكلها الحالي، قفزة أخرى ضخمة غير مبررة إلى الخلوص بأن هذا الشيء أشبه بكيان ذكي، بله كيان يتمتع بخصائص أخلاقية مثل الخيرية العليا، ويستجيب لدعواتنا، ويقوم بمعجزات، وما إلى ذلك.
إن الحجة الكونية على ذلك النحو لا تؤيد الإيمان بالإله كما هو في الديانتين اليهودية والمسيحية بالقدر نفسه الذي لا تؤيد به الإيمان بإله عظيم القوة ومتباين أخلاقيا، أو في الواقع بعدد لا يحصى من الآلهة أو الأشياء الأخرى. وهو بالطبع ما تؤيده الحجة بالكاد، في كل حالة، إن كانت تؤيده من الأساس. (3) برهان التصميم
دعونا نلتفت الآن إلى ما يعرف ببرهان التصميم أو الحجج الغائية المؤيدة لوجود الإله. تبدأ هذه الحجج بملاحظة أن العالم الطبيعي - أو العناصر التي يضمها - يبدو أنه يتمتع بسمات مميزة معينة؛ مثل الترتيب والغاية. وتخلص هذه الحجج إلى أنه بما أن الإله هو التفسير الوحيد، أو أفضل تفسير متاح على الأقل، لتلك السمات؛ فالإله موجود إذن.
لعل أشهر حجة من حجج التصميم هي الحجة التي قدمها ويليام بايلي في كتابه «اللاهوت الطبيعي» المنشور عام 1802. يقول بايلي إن رأى أحدهم شيئا معقدا مثل ساعة يد ملقاة على الأرض، فمن غير المعقول افتراض أن تلك الساعة وجدت هناك بالمصادفة، أو أنها وجدت دائما في هذا الشكل. ومع العلم بالغرض الواضح من الساعة - معرفة الوقت - وتكوينها الشديد التعقيد المصمم للوفاء بهذا الغرض، فمن المنطقي افتراض أن الساعة صنعها كيان عاقل من أجل هذا الغرض. لكن إن كانت تلك نتيجة منطقية تخلص إليها في حالة الساعة، فبالتأكيد النتيجة نفسها التي تخلص إليها في حالة العين البشرية، مثلا، لا تقل منطقية عن سابقتها؛ إذ تتمتع العين البشرية بغرض مصممة له هي الأخرى بإتقان. ويفترض بايلي أن هذا المصمم الذكي هو الإله.
وفكرة أن العضو البيولوجي مثل العين البشرية يجب أن يكون له مصمم ما قام بتصميمه، فكرة يقبل بها الكثيرون، وفيهم العالم تشارلز داروين، إلى أن وضع داروين تفسيره التطوري البديل للكيفية التي ظهرت بها العين.
والآلية التي كان داروين يرى أنها يمكن أن تفسر التطور التدريجي للعين هي «الانتخاب الطبيعي». عندما تتكاثر الكائنات الحية، قد تختلف ذريتها قليلا في مناح وراثية. ويستغل مربو الحيوانات وزارعو المحاصيل تلك الطفرات التي تحدث بالمصادفة لإنتاج سلالات جديدة. فعلى سبيل المثال، قد ينتقي مربي كلاب من كل جيل من الكلاب الكلاب الأكبر حجما والأقل شعرا، وفي النهاية ينتج سلالة جديدة بالكامل من الكلاب الضخمة العديمة الشعر.
Halaman tidak diketahui
تمثلت فطنة داروين في إدراك أن البيئة الطبيعية التي توجد بها الكائنات ستنتقي في الواقع من بين ذرية تلك الكائنات؛ فالكائنات التي تمر مصادفة بطفرات تعزز من قدرتها على البقاء والتناسل في تلك البيئة ستزيد احتمالات توريثها لتلك الطفرة، والكائنات التي تمر بطفرات تقلل من فرص بقائها وتناسلها في تلك البيئة ستقل احتمالات توريثها لتلك الطفرة. هكذا، وعلى مدار أجيال كثيرة، تتأقلم الكائنات تدريجيا مع بيئتها. بل وفي ظل ظروف معينة، قد ينشأ نوع جديد بالكامل.
أطلق داروين على هذه الآلية الانتخاب الطبيعي، لتمييزها عن الانتخاب الاصطناعي الذي يستخدمه مربو الكلاب وزارعو المحاصيل. وعلى عكس الانتخاب الاصطناعي، لا يستلزم الانتخاب الطبيعي عقلا ذكيا لتوجيه عملية الانتخاب نحو غاية بعينها؛ فالطبيعة العمياء غير المفكرة تتولى الآن عملية الانتخاب برمتها دون تخطيط.
وتوجد حفريات كثيرة وغيرها من الأدلة على أن العين البشرية تطورت في الحقيقة تدريجيا على مدار ملايين السنين، وربما بدأت بظهور خلية واحدة حساسة للضوء من باب المصادفة لدى كائن كان يعيش منذ ملايين السنين؛ وعلى أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي تقود هذه العلمية التطورية.
واكتشاف آلية الانتخاب الطبيعي أدى بداروين إلى رفض برهان التصميم لبايلي؛ فكتب داروين يقول:
إن برهان التصميم القديم في الطبيعة، كما عرضه بايلي، وهو الذي بدا لي فيما مضى برهانا قاطعا، أصبح لا أساس له، منذ أن اكتشف قانون الانتخاب الطبيعي.
رغم أن ظهور نظرية داروين للانتخاب الطبيعي ومن بعدها نظرية الجينات أدى إلى انخفاض في شعبية برهان التصميم، فإن حجج البرهان بصدد العودة إلى الأضواء مؤخرا، وفيما يلي شكلان شهيران أكثر حداثة من تلك الحجج. (4) حجة التعقيد غير القابل للاختزال
يذهب البعض، مثل أستاذ الكيمياء الحيوية مايكل بيهي، صاحب كتاب «صندوق داروين الأسود»، إلى أنه توجد سمات معينة للكائنات البيولوجية لا يمكن لنظرية داروين للانتخاب الطبيعي تفسيرها. وفي حين يقبل بيهي بأن الأنواع الجديدة تتطور وبأن الانتخاب الطبيعي يلعب دورا في ذلك، فإنه يؤكد أن «بعض» الأنظمة البيولوجية معقد تعقيدا غير قابل للاختزال؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتخاب الطبيعي.
يقصد بيهي بالنظام المعقد تعقيدا غير قابل للاختزال ما يلي:
نظام واحد يتألف من عدة أجزاء عديدة متفاعلة محكمة التوافق تساهم في القيام بالوظيفة الأساسية للنظام؛ بحيث تؤدي إزالة أي جزء من تلك الأجزاء إلى تعطل النظام بأكمله عن أداء وظيفته بفعالية.
ويسوق بيهي مصيدة الفئران باعتبارها مثالا لتوضيح فكرته. افصل أي جزء من أجزائها عنها - القاعدة أو الزنبرك أو الجبن - وستتوقف الآلة بأسرها عن أداء وظيفتها. ويضيف بيهي قائلا:
Halaman tidak diketahui