وهذا الحادث رفع - ولا شك - من معنويات سليم، حتى ومن أسهمه في البيت؛ ولذلك كبر حجم وريقاته ورسومه.
وله حادث لا يقل طرافة عن الأول، ففي بدء الحرب، وكان الناس في حماس شديد للدولة والجيش المظفر، وكان أينما ذهب الصبي يسمع الناس يلغطون في حديث المعارك الدائرة في الجبهة، غير أنهم كانوا يشكون من قلة المدافع والطائرات عند الدولة، فتألم سليم لهذا النقص في المعدات وخشي خسارة المعركة و... لذلك أسرع يصور معركة عظيمة بين الجيشين أكثر فيها من الطائرات والمدافع الثقيلة؛ وبهذا حمل النصر الباهر إلى جيوشنا المظفرة، وقد أعجب الذين شاهدوا صورة سليم لنشاطه وقوة خياله، وتمنوا لو أن للدولة مثلها وأن تقوم بتحقيق بعضها.
وكانت له أحيانا مشاريع غريبة رغم هدوئه وانزوائه، مما يدل عن نفسية حساسة وشعور وطني عميق.
عندما كانت الحالة على أشدها أثناء الحرب الأولى، وكان هو على رغم صغره يشاهد الجياع يستغيثون ويطلبون لقمة، مما أثر عليه وعلى بعض أقرانه، فعقدوا مؤامرة رسم لهم خطتها، ولكن علم أخوه بذلك وكانت النتيجة «قتلة» من عصا أمه المعلومة، تركت آثارها على جوانبه اللينة، أنسته إلى حين أصول الرسم ولذة التصوير، وأنفخت الدف طبعا.
ومن حوادثه أيضا أن والدته كلفته مرة بشراء بعض أغراض لعمل الطعام، وذهبت في مهمة خارج البيت، وكان سليم منهمكا في عمل رسم فنسي مشترى الأغراض، وقد تذكر ذلك في آخر دقيقة، ولكنه لم يجد منها لأنها نفذت من عند البقال، فعاد إلى البيت وصور مثلها، وعندما عادت أمه وسألته عن الأغراض دل بيده المرتجفة على الصورة! وبالطبع كانت النتيجة معروفة، هي بضعة عصي مكينة.
وكان دأبه الرسم المستمر، طبعا بعد أن يقوم بفروضه المدرسية، فهو لم يكن خاملا بين أقرانه، ولكنه كان يقوم بهذه الرسوم في أوقات فراغه، وصادف أن مرض سليم مرة وعندما شاهده الطبيب قال لأمه: «إن ولدك لا يحمل علة، ولكنه بحاجة للانطلاق في قلب الطبيعة، فهو أشبه ما يكون بالعصفور والفراشة، وهو بحاجة للطبيعة حيث يشدو ويلعب.»
وقد أصبح سليم أحسن حالا من قبل، فهو يملك الآن بدل الوريقات المبعثرة دفترا ودفترين، يرسم بهما الحوادث التي كانت تقع في صفه وفي حديقة المدرسة، فهو يصور بعينيه النافذتين بعض رفقائه في الصف في مختلف الحالات، من قصاص المعلم للبعض، أو يمثل الأستاذ وهو غاضب وتكاد عيناه تبرزان من محلهما، بينما تكون إحدى يديه مرفوعة فوق رأس التلميذ الذي يحاول ردها بيديه المتجمعتين أمام رأسه، وغيرها من المشاهد التي تحصل بالصف، فكانت هذه الرسوم الانتقادية بما فيها من صدق، أداة إصلاح لأسلوب القصاص في المدرسة، مما حدا بالمعلمين على الإقلاع عن عاداتهم غير اللائقة، وبالتلاميذ للهدوء حتى لا يمثلوا بهذا الشكل المخجل، وقد كلفت هذه الرسوم سليما عند بعض المعلمين الضيقي الأفق ببعض الضربات على يديه الطريتين، وحرمته من مسك دفاتره وقلمه. وعلى الرغم من كل هذا فقد نشر هذا الصبي الهادئ في جو المدرسة نوعا جديدا من أنواع الفكر غير مألوف في العالم العربي وفي الذهنية العربية.
وعندما نعلم أن سليما كان يعيش في عهد متأخر، وفي عقلية قديمة، لا عهد لها بالفنون ولا في أمثالها من أسباب التأمل الرصين، يستطيع الإنسان أن يدرك أثر ذلك وتأثيره في النفوس.
ففي ساحة اللعب كان يجتمع حوله التلامذة من صغار ومن كبار، يعجبون بقلمه وهو يسجل بعض صور رفاقهم أو أساتذتهم، ويمثل بعض اللاعبين في كرة القدم أو ضرب الجريد أو القفز وغيره.
كان سليم يتدرج في المدرسة ويتلقى العلوم الابتدائية برغبة ونهم، وكان يشعر بحاجة إلى المال ليشتري بعض اللوازم لذلك، أخذ يرسم لرفاقه صورا كبيرة وخاصة الأغنياء منهم، ولكن الأمور لم تدم له طويلا، فقد أقفلت المدرسة أبوابها وتفرق التلامذة، أما سليم فلم يقنط، بل تابع العمل بنشاط عجيب؛ ليجمع بعض المال ويتلقى العلم الذي كان يحبه في آن واحد.
Halaman tidak diketahui