الجواب الثاني: أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل ذلك على أنه خلق لهم واختراع، ألا ترى أن مشى الفرس والدابة يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو، وتقريب، واستطراف، ووقوف، إلى غير ذلك. ولا يقول عاقل إن الراكب خلق جرى الفرس ولا سرعتها، ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه، وكذلك أيضا السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شمال على حسب قصد الملاح، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها فإن كابروا الحقائق وقالوا نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد، وأن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح، وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له. قلنا: فكذلك أفعال أحدنا قد تقع، ولا نقول إنها تقع في كل حال على حسب قصده، ولا يبدل ذلك على أنه خلقها فاخترعها. يؤكد ذلك أن البياض يحصل في الناطف عند قصد الناطفي له، ولا يقول أحد إن واحدا منا يقدر أن يخلق لونا لغيره ولا لنفسه، فلا يمتنع أن يكون الفعل قد يحصل على حسب قصد أحدنا، وليس هو خلقا له ولا موجودا له، من العدم إلى الوجود. فاعلم ذلك.
يؤكد هذا أيضا أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك، ولا يقول أحد إن نمو الزرع خلقه الزارع، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها وكذلك ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين. وغير ذلك.
وكذلك سمن الدابة يحصل على قصد العالف لها والساقي، ولا يقول أحد إن العالف والساقي هو الذي خلق الشحم والسمن في الدابة. وكذلك دود القز يحصل منه القز على حسب قصد القائم عليه والمربي له، ولا يقال إن القز خلقه في الدود إلا الله تعالى، وإن كان حاصلا على حسب إرادة القائم عليه وقصده، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده، لا يدل على أنه هو خلقه بل الخالق له هو الله تعالى.
فإن قيل: فإذا لم يكن أحدنا خالقا لفعله، فكيف يكون ملوما عليه ومعذبا به ويستحق عليه المدح والثواب أو الذم والعقاب ؟ فالجواب: إننا لا نقول أن المدح والثواب، ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا؛ حتى يوجب ذلك كونه خلقا له واختراعا، بل نقول: إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى، ويجب ويستحق بحكمه لا بأن يوجب الواجب عليه خلق فعل أوجبه عليه. ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين: أن الدية تجب على العاقلة. بقتل غيرها خطأ. وإن لم تفعل العاقلة شيئا يستحق به إيجاب ذلك عليها، وإن ذلك الذي فعلته خلق لها، بل هو خلق لغيرها، وهو الله تعالى عند المسلمين، وخلق للقاتل على زعمكم، أفصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله وحكمه، لا بخلق العافلة وفعلها، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة، إنما تجب وتستحق بإيجاب الله تعالى وإرادته، لا بكونها خلقا للفاعل، فاعلم ذلك وتحققه.
وكذلك أيضا الأكل في الصيام ناسيا، فعل العبد، كما هو فعل له عند تعمده، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مبطل ومفطر، ويذم ويعاقب عليه، والآخر بالضد من ذلك، وإن كان الجميع فعلا للعبد، فصح أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى، لا بكونه خلقا للفاعل، فصح ما قلناه، وبطل ما توهموه.
فإن قيل: من فعل الطاعة كان طائعا، ومن فعل المعصية كان عاصيا، فالجواب: أن هذا غير صحيح، لأن كون الباري تعالى خالقا وفاعلا لا يوجب أن يتصف بالطاعة والمعصية، لأن الطاعة صفة الطائع، والمعصية صفة العاصي، ولا يوجب ذلك وصف خالق الطاعة والمعصية بكونه طائعا عاصيا، ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد، ولا يكون صفة لله تعالى، وإن كان تعالى هو خالق السواد، فكذلك التحرك صفة لمن له الحركة، لا صفة من خلق الحركة والولد لمن له الولد؛ لا لمن خلق الولد، والحلاوة صفة العسل، لا لمن خلق الحلاوة فيه. وكذلك الحموضة في الخل صفة للخل، لا لمن خلق الحموضة فيه، وكذلك الموت إذا خلقه الله في أحدنا صار ميتا، واتصف بذلك، ولا يوجب أن يتصف الخالق للموت بأنه ميت، لما خلق الموت وفعله بالحي. فكذلك المعصية صفة من حلت به المعصية، والطاعة صفة لمن حلت به الطاعة، ولا يوجب ذلك وصف خالقها بأنه طائع ولا عاص.
Halaman 60