وجواب آخر: وهو أن تقول لهم: خبرونا أليس قد قرأ سائر القراء غير نافع وابن عامر في سورة الحديد في قوله تعالى: " ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد " بإثبات الهاء والواو، وقرأ نافع وابن عامر بإسقاط الهاء والواو، فالذي أسقط من الهاء والواو كلام الله تعالى أو قراءة كلام الله تعالى، فلا يجوز لعاقل أن يقول الهاء والواو كلام الله؛ لأن من أسقط شيئا من كلام الله كفر ولا خلاف بين المسلمين أنهما على الحق، وربما رجحوا قراءتهما على غيرهما، فلم يبق إلا أن الحروف آلة للقراءة تسقط تارة وتثبت أخرى، والمقروء المتلو ثابت لا يحتمل النقصان ولا الزيادة، لأنه قديم لكن المخلوق يجوز ثبوته تارة وإسقاطه أخرى.
فصل
فإن احتجوا على إثبات قدم الحروف، وأن كلام الله القديم يتصف بالحروف، بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
فالجواب: أنه لا حجة في هذا الحديث من وجوه عدة، لأنكم تخالفون هذا الحديث. لأن الرسول قال على سبعة أحرف، وأنتم تقولون على ثمانية وعشرين حرفا، فقد أسقطتم متن هذا الحديث، ولم تقولوا به، فلا حجة لكم فيه.
جواب آخر: وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: أنزل على سبعة أحرف ولم يقل تكلم الله بحرف، وأنتم إنما تريدون إثبات الحرف لكلامه، لا نزول كلامه فلا حجة لكم فيه.
جواب آخر: وهو أن قوله عليه السلام على سبعة أحرف، لم يرد بها حروف التهجي، وإنما أراد بها غير ذلك، بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين، ولأنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه فسر ذلك بغير حروف التهجي، لأنه قال: على سبعة أحرف ثم فسرها فقال: أمر، ونهي، وترغيب، وترهيب، وجدل، ومثل، وقصص وقال بعض الصحابة والتابعين يعني على سبع لغات، مما لا يغير حكما من تحليل ولا تحريم مثل قوله تعالى: " يا موسى أقبل ولا تخف " فكانوا لا يفرقون بين قول التالي أقبل أو هلم، أو يقال: لأن معانيها متفقة وإن اختلفت اللغات فيها، وما جرى هذا المجرى، وكانوا في صدر الإسلام مخيرين فيها، فلما اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم عند جمع القرآن على أحدها، وهو قوله " أقبل ولا تخف " منع هذا الإجماع من غير أقبل إلى هلم وتعال. ونحو ذلك، وقيل عن بعض الصحابة والتابعين: إن قوله على سبعة أحرف أراد بذلك على سبع لغات للعرب، في صيغة الألفاظ في التلاوة وكيفية مخارجها ونقص حروفها وزيادتها ووجوه إعرابها، كالذي اختلف فيه القراءآت، فقرأ بعضهم: " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم " بغير الواو، وقرآ آخرون بواو، وقرأ بعضهم فيكون بالنصب في مواضع، وقرأ آخرون فيكون بالرفع فيما نصبه الأولون، وقرأ بعضهم: " فتلقى آدم من ربه كلمات " فنصب آدم ورفع كلمات وهو ابن كثير، وقرأ آخرون برفع آدم ونصب كلمات، إلى نحو هذا مما لا يحصى عددا، فبطل احتجاجهم بالإجماع مما نقل عن الرسول والصحابة والتابعين أن أحدا منهم قال إنه أريد بالسبع حروف التهجي، وإنما المراد به اختلاف القراءات دون غيرها ما روى أن عمر رضي الله عنه مر ببعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: فكدت أن أساوره، يعني أعجل عليه. فأبطش به، ثم قال لببته حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأتنيها فقال: خل عنه. ثم قال اقرأ فقرأ عليه القراءة التي سمعتها فقال. هكذا أنزل. ثم قال: اقرأ يا عمر: فقرأت عليه القراءة التي أقرأنيها فقال: هكذا أنزول. ثم قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، الكل شاف كاف فاقرؤا ما تيسر منه فأد هذا الحديث وجوها: أحدها: أن الحروف واختلافه صفة القراءة التي يجوز فيها الاختلاف، لا كلام الله القديم الذي لا يجوز فيه الاختلاف.
الثاني: أن عمر ما أنكر عليه أن القرآن المقروء بقراءته كلام الله، إنما أنكر عليه القراءة التي هي صفة القارىء وظن أن هذه القراءة فاسدة وقراءته أعلمه الرسول عليه السلام أن كل واحدة من القرائتين جائزة، وإن اختلفا، لأن المقروء بها لا يختلف لاختلافها.
Halaman 48