فتناول سعيد الورقة وقرأ فيها نحو هذا المعنى، وأمعن نظره في الإمضاء فإذا هو «صائب»، فعلم أنه جاسوس السلطان الذي ذكره الدكتور ن، وأنه وصل إلى تلك الجهات وأخذ في بث تلك الروح الشريرة التي حذرهم منها الدكتور، فقال سعيد: «يا سيدي، إن كاتب هذه الأسطر أحد جواسيس القصر، وهؤلاء خاصة يعملون على عرقلة مساعينا فلا ينبغي الإصغاء لهم.»
فأدار جرجيس وجهه وأظهر عدم المبالاة بما يقوله سعيد كأنه ندم على مسايرته وسماع حديثه، والتفت نحو الأميرالاي وقال: «أعطونا ما معكم وإلا قتلناكم.»
فشق على سعيد ما رآه من استخفاف جرجيس بقوله، ولم يصبر على ذلك الضيم فقال: «يا جرجيس، لا يحسن ببطل مثلك ملأت شهرته الخافقين أن يحتقر رسولا من جمعية حرة تطلب الاتفاق معه على مكافحة الظالمين، أمن أجل رسالة كاذبة من جاسوس منافق ترد أيدي الأحرار الممدودة لمصافحتك؟»
قال: «ومن يؤكد لي أن هؤلاء الأحرار القائمين بطلب العدل والحرية لا يصيرون عبيدا للظالمين غدا كما صار سواهم؟ دعني من ذلك وكفى.»
فأطرق سعيد وأعمل فكره في طريقة يقنع بها الرجل بخطئه، وإذا هو يسمع صوت إطلاق النار حول الخيام بكثرة وسرعة، وقد قامت الصيحة في الخيام. فخرج جرجيس للبحث عن السبب، فرأى تلك الخيام قد أحاط بها الجند العثماني من كل صوب، وفر الألبانيون إلا جرجيس فإنه أوشك أن يفر كعادته. ولولا اشتغاله بأمر سعيد ومباحثته واشتغال رجاله بحراسة أولئك الأسرى، لاشتموا رائحة الجند عن بعد وفروا إلى جبال أخرى اعتصموا بها، وامتنع على الجند الوصول إليهم.
فأطل سعيد من الخيمة فرأى ضعف جرجيس وفرار رجاله، فقال للأميرالاي: «امكث هنا مع القادين وسأعود إليكم .» وتقدم نحو الجند فإذا هم فصيلة في مقدمتها ضابط كالأسد الكاسر، واتفق وقوع نور المصباح على وجهه فتبينه، فإذا هو نيازي بك الرسنه لي الذي أوصاه صادق بك أن يستعين به في كشف أماكن العصابات، وكان قد شاهده في مناستير وتعارفا. وكان نيازي لكثرة مطاردته العصابات قد أصبح اسمه كافيا لبث الفزع في قلوبهم، فهو لم يلق عصابة إلا شتت شملها، فبلغه في تلك الليلة نزول جرجيس هناك بنفسه مع عصابته، فأحب أن يبغته ويلاقيه ويباحثه في معنى ما أتى به سعيد، فتسلق الجبل برجاله خلسة وقد عرف المكان من المصباح، فرآهم مشتغلين عن التلصص فلم يشعروا إلا وهم محاطون بالجند ولم تبق لهم حيلة. ولحظ نيازي عزم جرجيس على الفرار فصاح فيه: «جرجيس، جرجيس، لا تهرب ولا تخف إني لا أريد بك سوءا.» فوقف جرجيس.
وقد تعجب سعيد من هذه المصادفة، وتفاءل خيرا بنجاح مشروعهم الجديد، وتقدم نحو نيازي بك وقال: «نيازي بك؟» فلما سمع صوته عرفه فترامى عليه وقبله وقال: «سعيد بك؟ أنت هنا؟ ما الذي أتى بك؟ هل أصابك سوء؟»
قال: «كلا، إني في خير، وأنا مقيم في ضيافة جرجيس البطل الألباني.»
فلما سمعه جرجيس يقول ذلك خجل من نفسه واحترمه وتقدم إليه وقال: «لم تقل لي من أنت.»
فقال: «ليست العبرة بشخصي، بل العبرة بما جئت به. والآن ما رأيك إذا سمعت هذا القول من نيازي بك نفسه وهو الظافر الآن؟»
Halaman tidak diketahui