Inqilab Cuthmani
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
Genre-genre
ليس ما أجرته الحكومة من مد بعض الخطوط الحديدية، وإصلاح المرافئ التجارية، وتطهير المستنقعات؛ إلا إجابة لطلب الشركات الأوربية، وتوسط بعض المتنفذين للحصول على امتيازاتها، والاستفادة بما يعود عليهم من المنافع الشخصية. فمنح الامتياز كان من قبيل الإنعام والإحسان، لا يكاد يتم لصاحبه ويأخذ به الفرمان السلطاني، حتى يبيعه لشركة أجنبية ويربح منه الملايين، فيوزع نصفها على الذين كانوا عونا له في الحصول على الامتياز، ويبقي النصف الآخر ربحا صافيا له في مقابل أتعابه بالذهاب من المابين إلى نظارة النافعة «الأشغال» والصدراة، وملاحظة الخدم والكتاب والتقرب بهم إلى كبير القلم أو الدائرة، وكل زيارة تحتاج إلى إكرام و«شوفة خاطر»!
روى لي أحدهم عن بعض النظار أنه أوقف ختم مضبطة امتياز في مد سكة حديدية كبيرة على أخذ أربعين ألف ليرة عثمانية، وأنه لم يقبل أخذ حوالة على المصرف «البنك» أو قوائم نقدية خوفا من ظهور الارتكاب، واشترط أن يكون ذهبا عينا! قال الرواي: فجاءوا بالمال وصفوه على منضدة كبيرة مرخمة عمدا عمدا وكان كل عمود خمسين ليرة؛ فكان ذلك ثمانمائة عمود مصفوفة صفوفا متوازية ملزوزة، وللأصفر الرنان فوق الرخام منظر عجيب! فلما تم العد والحساب قال دولة الناظر - وكان مستلقيا على فراش الموت: «تماممي؟» يريد: هل العدد تام؟ فقيل له: نعم يا سيدي تام. فأخرج الختم من كيسه المعلق في عنقه وختم المضبطة، ثم توفي بعد ثلاثة أيام؛ فكانت آخر ملذاته من نعيم الدنيا! ولذلك كان فريق من الكبراء والموظفين يتمتع بالقناطير المقنطرة من الذهب ويقبض رواتبه سلفا، وويل لعمال الخزانة إن لم يدفعوها؛ وفريق يتضور جوعا وهو ينتظر رواتبه المتراكمة دينا عند الحكومة من سبعة إلى ثمانية شهور في السنة، وهي التي يعول عليها في الإنفاق على نفسه وعياله النفقة الضرورية، وكان ضباط العساكر مظلومين أكثر من سواهم؛ فكانت رواتبهم وتعيناتهم - على قلتها - لا تعطى لهم، وليس تحت أيديهم أموال ينهبونها أو رعية يرتشون منها، ولقد كان ذلك من أعظم أسباب الانقلاب، قال فكتور هوجو: «إن الجوع يثقب في قلب الإنسان ثقبا ويملؤه حقدا.»
سقوط هيبة الحكومة في بلادها وفي الخارج
إن اختلال الإدارة وتذبذبها لم يبق للحكومة قاعدة مطردة ولا أصولا مرعية، لا في سياستها الداخلية ولا الخارجية، وإنما أصبحت ذات قواعد مختلفة وسياسات شتى، بعضها يناقض بعضا، فكانت تمحو في الغد ما أثبتته في الأمس، وربما غيرت سياستها مرتين في اليوم بحسب الأشخاص والوقائع، ولهذا سقط اعتبارها عند الدول الأجنبية، فتجرأن على تهديدها حتى في المسائل الحقيرة، كمسألة توبني دولوراندو، التي أوجبت خروج الأسطول الفرنسي إلى جزيرة مدللي «متللين»، فصرح إذ ذاك مارسل سامبا زعيم الاشتراكيين في مجلس النواب الفرنسي قائلا: «ما هذه السياسة الخرقاء؟ إنكم لم تحركوا ساكنا في المذابح الأرمنية، ولم تتداخلوا فيما توجب معاهدة برلين المداخلة فيه من طلب الإصلاح وإجراء العدالة الإنسانية، والآن تتكبدون النفقات بإحراق فحم الأمة، وإرسال الأسطول لحماية نفرين من المرابين أقرضوا أموالهم على أن يكون ربحهم عشرين وثلاثين في المئة، حتى أصبح ما يطلب لهم عين السحت! وسقط اعتبارها أيضا في نظر رعاياها، وصار أكثر الموجودين منهم في الديار الأجنبية يأنفون أن يكونوا من رعيتها، فكانوا يبتعدون بقدر الإمكان عن سفارات الدولة وقنصلياتها، وبعضهم استبدل التابعية الأجنبية بالتابعية العثمانية.»
كان أرباب الحمية والغيرة الوطنية من العثمانيين ينظرون إلى هذه الأحوال بعيون الأسف والاستياء، ويعتقدون أن مصدرها الوحيد هو الاستبداد، ولا تخلص منه إلا بتعليم الأمة واستنارة ذهنها، والرجوع في الأحكام إلى الدستور المنسوب لمدحت باشا، وإن لم يكن كله من بنات أفكاره، فكان الاستبداد ضاغطا على جميع أفراد الأمة، لم يقتصر بضغطه على ضعفائها وأحرارها وحزب تركيا الفتاة فقط، بل شمل جميع أفراد خاندان آل عثمان وجميع المقربين من رجال الدولة، الذين أفنوا أعمارهم في دور الاستبداد وجمع الأموال، والوزراء والموظفين كافة وجميع الأهالي، ولا سيما في الأستانة، حيث بطلت الأفراح والجمعيات المشروعة لعقد النكاح أو للختان، وحرم على الناس الاجتماع للسمر والحديث؛ كل ذلك خوفا من الانقلاب، وصار لا يؤذن لأحد بالذهاب إلى أوروبا ولو كان مريضا، كما أنه لا يؤذن للضباط بالتوجه إلى الأستانة أو المرور بها، وصار كبار الموظفين لابد لهم من إذن مخصوص وإرادة سنية لحركاتهم الشخصية وأفعالهم البيتية، حتى زواج بناتهم وأولادهم!
دخلت يوما على السيد جمال الدين الأفغاني، وهو في قصر لطيف، على بابه الخدم، وكانت تأتيه مائدة من «المطبخ العامر» فقال: أية فائدة من هذا القصر والخدم والمائدة، وأنا إذا اشتهيت أكلة بفتك «شواء»، أو نشر فكر في جريدة، أو التنزه في ناحية من المدينة لا أستطيع؟! أيهنأ عيش الإنسان بغير الحرية؟! ولهذا فر إلى باريس الداماد محمود جلال الدين باشا وابناه الأمير صباح الدين بك والأمير لطف الله بك، وفر إلى مصر أحمد جلال الدين باشا رئيس الجواسيس وكثيرون غيرهم.
اتحاد الأرمن والأتراك في طلب الحرية
شكلت جمعية الانقلاب الأرمنية بعد مذابح ساسون المتقدم ذكرها فرقة من الثائرين، هجموا على البنك العثماني في الأستانة، وألقوا فيه القنابل سنة 1896؛ ليلفتوا بذلك نظر الحكومة العثمانية والدول الأوروبية إلى وجوب القيام بالإصلاحات، وإعطاء الحرية وتعميم المساواة بين جميع الأهالي بلا فرق في الدين والجنس، ثم ألفوا لجانا
comités
كثيرة، أهمها لجنة سيروب التي قاومت ست سنوات في جبال ساسون، ثم حولت الجمعية نظرها إلى جهة قافقاسيا «القوقاز» الروسية؛ بسبب اضطهاد أميرها البرنس جاليتزين للأرمن والتابعين لروسيا، وتسليط التتر المسلمين عليهم؛ مما أدى إلى حدوث مذابح باكو وفظائعها وعدة وقائع ومقاتلات، وتصدى الثوار لقتل الرؤساء والقواد والأمراء والضباط الذين سببوا المذابح، وكان قتل كل واحد منهم يكلف الجمعية الأموال والنفوس، فقتل بليف مثلا سبب هلاك أربعة من أعضاء الجمعية، وصرف مائتي ألف فرنك، وكذلك إلقاء القنبلة في موكب صلاة الجمعة أمام سراي يلديز؛ فإنه كلفهم خسائر جسيمة، فعدلت الجمعية الأرمنية بعد ذلك عن هذه الحركات، ومالت إلى الاتفاق مع تركيا الفتاة، فعقدت مؤتمرا في ويانة، حضره جماعة من الترك والأرمن والمقدونيين والروم والكرد والعرب واليهود والأرناؤوط، وكان الشارع في عقد هذا المؤتمر معلوميان أفندي الأرمني الشهير، وقد تم اتفاقهم فيه على المسائل الآتية: (1) قلب الحكومة الحاضرة والسعي في تحقيق ذلك بجميع الوسائل. (2) تأسيس حكومة مقيدة دستورية لجميع رعايا المملكة العثمانية. (3) استعمال جميع الوسائل الانقلابية لتحقيق هذا المقصد. وذلك لأن الحكومة المستبدة استعملت جميع الوسائل لخراب المملكة وإطفاء نور العلم والحرية، فأقفلت المدارس وحبست المعلمين ونفت التلاميذ، وإن الأماكن التي بقي فيها شيء من المدارس، أنقصت التعليم فيها بإيجاد مراقبة لم يسبق لها مثيل، وصارت الجرائد لا تنشر من الأخبار إلا ما يؤذن لها بنشره بعد التحريف والتغيير أو الاختراع من جانب المراقب، وصارت التكاليف المستوفاة بلا عدالة لا تصرف على التعليم أو التبسيط في الحضارة والعمران، بل على الجواسيس والجرائد المؤيدة للظلمة المحبذة لأعمالهم، ولا سيما في البلاد الأجنبية، وذلك لإيهام ومخادعة أوروبا عن أحوال الممالك العثمانية.
Halaman tidak diketahui