قالت كوكب عن رؤيتها للتظاهرات في نيويورك ولندن: أنا شاهدتهم بعيني يا أستاذ، وأعتقد أن الحركة الثورية في نيويورك معظمها من الشيوعيين، يريدون القضاء على السوق الحرة والديموقراطية، الثوار في لندن تابعون للشيوعيين في نيويورك، التظاهرات في لندن قامت بتغيير اسم ميدان سان بول إلى ميدان التحرير، مما يدل على أن التظاهرات في بلادنا تحركها الشيوعية العالمية لإضعاف مصر والعرب والقضاء على الإسلام، أنتم تعرفون أن الفكر الشيوعي يقوم على الإلحاد وقلب نظام الحكم بالعنف وليس بالانتخابات والوسائل الديموقراطية السلمية، لكن الحمد لله لقد نجح بوليس نيويورك في فض التظاهرات التي سموها «احتلوا وول ستريت»، بعد أن هددوا باحتلال الشركات الكبرى في وول ستريت. - برافو يا كوكب، عاوزين مقال في السياسة الدولية عن الموضوع ده. - حاضر يا أستاذ. - وإنت يا شاكر عاوزين مقال في السياسة المحلية ومشروع النهضة. - آسف يا أستاذ. - يعني إيه آسف يا شاكر؟ - معناها إني آسف ما قدرش أكتب عن مشروع وهمي.
قبل أن يغادر المبنى أرسل شاكر استقالته مكتوبة إلى رئيس مجلس الإدارة.
خرج من العمارة الضخمة للجريدة الكبرى، متجها نحو شارع النيل، توقف لحظة يلتقط أنفاسه، ثم جلس فوق دكة خشبية يرمق انسياب مياه النهر تحت الكوبري، شيء في حركة الموجات الهادئة الصغيرة يهدئ الغضب المتراكم داخله منذ الطفولة، منذ أن ترك أبوه أمه من أجل نزوة عابرة وأصبح طفلا وحيدا، منذ أن ضربه البوليس وأخذوه إلى السجن، منذ أن حرقوا جسده بأعقاب السجائر وصعقوه بالكهرباء، تراءى له وجه فؤادة وهنادي ونساء وفتيات ضاعت ملامحهن من ذاكرته، أراد أن ينفس عبرهن عن غضبه المتراكم، نهض متثاقلا لا يعرف إلى أين يذهب، فكر أن يسير إلى خيمة الأم في ميدان التحرير ثم طرد الفكرة، بعد قليل وجد نفسه في عيادة صديقه الطبيب النفسي. - تعبان جدا جدا. - إيه اللي حصل يا شاكر؟ - استقلت من الجورنال، مش قادر أستمر في البلد دي. - كل البلاد زي بعض يا شاكر. - يعني إيه؟ - أنظمة الحكم كلها فاسدة قائمة على القوة. - أيوه عارف. - المهم أنت يا شاكر. - أعمل إيه؟ - راجع نفسك. - غلطت كتير وعندي ندم كبير. - بلاش الندم يا شاكر، الندم يضعف الإرادة. - عاوزني أعمل إيه؟ - كلنا بنغلط، المهم عدم الاستمرار في الخطأ. - يعني أعمل إيه؟ - ماعرفش يا شاكر. - إنت دكتور ما تعرفشي؟ يعني إيه؟ - يعني إنت اللي تتحمل مسئولية أعمالك مش أنا.
صمت شاكر ثم همس لنفسه: فعلا أنا المسئول مش أنت.
كان الطفل محمد يحمل الصحف كل صباح إلى سكان الخيام في ميدان التحرير، بينما كانت فؤادة تمر بعينيها على صفحة أخبار العالم، قرأت هذا الخبر: سقط ثلاثة قتلى وأربعة عشر جريحا من بين المتظاهرين في حركة «احتلوا وول ستريت»، في أثناء هجوم بوليس نيويورك عليهم أمس، أحد القتلى أستاذ بجامعة نيويورك اسمه جورج نلسون، حمله المتظاهرون بسرعة إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة بسبب الدم الغزير الذي نزف منه، واشتعلت التظاهرات بعد وفاته يقودها الطلاب والطالبات في جامعات نيويورك.
قالت فؤادة تخاطب سكان الخيمة: جورج نلسون قتلوه في نيويورك كما قتلوا جلال أسعد هنا ، هذه هي الطريقة الحديثة في عصر الإنترنت لتصفية الثوار جسديا، خطف واغتيال أكثر الشباب نشاطا في الثورة وعلى رأسهم الأدمن، وهم المسئولون عن صفحات الاتصال الإلكتروني في الإنترنت، يتولى الشاب أو الشابة منهم تحرير صفحته للتواصل مع الشباب وتعبئتهم للوحدة والتظاهر والضغط من أجل تحقيق أهداف الثورة، الحرية والعدالة والكرامة، يكشف الأدمن في شبكة تواصله الاجتماعي عن خبايا الظلم والقهر للأغلبية الساحقة في المجتمع، من النساء والأطفال والفقراء والمهاجرين وجميع المقهورين بالقوانين الرأسمالية العسكرية الأبوية العنصرية الدينية البوليسية. كان جورج نلسون في نيويورك هو الأدمن لصفحة «احتلوا وول ستريت»، ينظم التظاهرات ضد جشع أقطاب وول ستريت كما فعل جلال أسعد هنا ضد فساد الحكم الطبقي الديني الأبوي، أصبح الشباب الأدمن المسئولون عن صفحات الفيس بوك والتويتر واليوتيوب، هم القوة المنظمة للتظاهرات والثورات الشعبية الجديدة في البلاد كافة، نحن نعيش في عالم واحد تحكمه أقلية جشعة رأسها في البيت الأبيض في واشنطن، تمارس الشعوب المقهورة ثورتها بطريقة جديدة تهدد النظم الحاكمة عالميا ومحليا، هذه النظم تستخدم الأديان والسلاح والمال والإعلام لإجهاض الثورات الشعبية الجديدة من نيويورك إلى القاهرة؛ لهذا يتجه سلاح القتل والخطف إلى الثوار من النساء والرجال مثل جورج نلسون وجلال أسعد، وسعدية المرأة التي لا نعرف أين هي، خطفت وهي تقود أكبر تظاهرة ضد النظام الفاسد، الذي جعلها تشقى طوال عمرها حتى انكسر ظهرها ثم اغتالها غدرا، لكنها أنجبت فتاة ثائرة هي هنادي، التي انتصرت على القهر ونهضت وأصبحت قوة جديدة للثورة، تكلمي يا هنادي.
نهضت هنادي، فتاة طويلة القامة ممشوقة في عينيها بريق التحدي والثقة بالنفس: أمي سعدية شقيت من أجلي لأكون إنسانة محترمة لها بيت فيه حمام، كانت أمي تقف بالساعات في الطابور عشان تملا صفيحة ماء، أمي عاشت وماتت من أجلي، كان نفسي إنها تعيش وتشوفني باحقق حلمها، أنا أصبحت إنسانة قوية باعتمد على نفسي لتحقيق أحلامي، أنا نضجت من خلال الألم والدم، الثورة نضجت من خلال دم شبابها وشاباتها، لازم ندفع ثمن الحرية بالدم، جلال أسعد وكل اللي نزفوا دمهم من أجل الثورة عايشين معانا، لا يمكن يموتوا، لازم ناخد حقهم، لازم نكشف التقارير المزورة اللي قالت إنهم ماتوا في حوادث عادية بالصدفة، لازم نثبت أنهم ماتوا بالرصاص وبالتعذيب في السجون والمعتقلات، لازم نحقق أهدافنا بأنفسنا، زي ما قالت الأستاذة بدرية: إحنا اللي نحقق أهداف الثورة بأيدينا، الحرية تؤخذ ولا تعطى، العدالة والكرامة تؤخذ ولا تعطى.
تأنيب ضمير
وجد شاكر نفسه في مكتب كوكب الكميلي، كانت تكتب مقالها الأسبوعي، اعترض مدير مكتبها طريقه لكنه أزاحه بيده، لازم أشوفها دلوقتي. - هي مشغولة يا أستاذ.
واتجه شاكر مباشرة إلى بابها المغلق، فتحه ودخل.
Halaman tidak diketahui