هو الذي فتح الباب حين دقت الجرس، كان مرتديا البذلة الكاملة استعدادا للخروج، بادرها قائلا: الأستاذة في مؤتمر في نيويورك، وأنا مسافر مع داليا إسكندرية، خدي إجازة خمس أيام يا سعدية وتعالي السبت الجاي.
أرادت أن تفتح فمها وتقول شيئا لكن صوتها لم يخرج، كان واقفا محصنا داخل البذلة المكوية ذات الخطوط الحادة القوية حشوة الكتفين تكسبهما سماكة وصلابة، كان واقفا في المدخل محصنا بالبيت وبالجدران التي فوقها اللوحات والمكتبة الملأى بالكتب، يبدو أطول مما كان وأصلب، كأنما هو مصنوع من حجر، أو جبل لا يمكنه الصعود إليه فكيف ترفع يدها وتصفعه؟ أو تجري إلى المطبخ لاختطاف السكين من الدرج وغرزه في قلبه؟ أو تفتح فمها وتبصق عليه؟
ظلت واقفة أمامه تنتفض داخل جلبابها القديم الباهت، تنظر إلى قدميها السوداوين المتشققتين داخل شبشبها المتهرئ من البلاستيك. - تحبي أوصلك بالعربية يا سعدية؟
هزت رأسها بالنفي من دون أن تنطق.
القاهرة أم نيويورك
كانت الشمس مشرقة في مدينة نيويورك، والنافذة الكبيرة تكشف مساحات الخضرة الممتدة إلى الأفق، تملأ الكاتبة فؤادة رئتيها بالهواء النقي، عيناها تمتصان الخضرة بشهوة الظمأ إلى اللون الكثيف الأخضر مبللا بقطرات مطر أو ندى خفيف، بلورية رقراقة، فصوص لؤلؤ تهبط في الليل فوق الأشجار، تمتصه الأغصان والأوراق الخضراء عند الفجر، قبل خروج القرص الأحمر الساخن من بطن الأرض.
جفونها ثقيلة تسقط فوق عينيها المرهقتين في إغفاءة قصيرة أو طويلة، تتلاشى اللحظة الحاضرة والعشرة آلاف ميل التي قطعتها الطائرة بالأمس عبر البحار والمحيط، من قارة أفريقيا إلى قارة أمريكا، تعود ذاكرتها إلى الوراء حين كانت طفلة في التاسعة من العمر، في المدرسة الابتدائية، تظن أن قريتها هي كل الدنيا، قرص الشمس تظنه يولد من بطن الأرض، وقطرات الندى تهبط من السماء بأمر الله، كان الطريق الزراعي يمتد طويلا من البيوت الطينية المتلاصقة السوداء، إلى الحقول الخضراء الواسعة الممتدة حتى النيل، كانت تمشي عند الفجر وفي جوارها عبد الجليل ابن عمتها، يجر الجاموسة بحبل طويل ومن خلفه العنزة الصغيرة، التي كانت تنطلق من دون قيد تسبقهم إلى الحقل، فروتها بيضاء مثل القطن، إلا رأسها وذيلها فلونهما أسود، تتقافز هنا وهناك، ذيلها يهتز فرحا بحريتها، ربما تحمد الله لأنه خلقها عنزة وليس جاموسة يجرونها بالحبل.
كانت فرحة بحريتها كالعنزة، لا يجرها عبد الجليل بحبل، تسبقه إلى الحقل برغم أنه أكبر منها وساقاه أطول من قائمتيها، لكنه مقيد بحبل يربطه بالجاموسة البطيئة، تشده إلى الوراء من حين إلى حين لترعى العشب على جانبي الطريق، يسخر عبد الجليل من نفسه كعادة الفلاحين في مصر منذ عصور السخرة ويقول: أنا مربوط مع الجاموسة بالحبل يا فؤادة. تشفق عليه في أعماقها، مسكين عبد الجليل، أبوه فلاح فقير لم يدخل مدرسة، وأمه تشتغل في الحقل وتعجن روث الجاموسة، يداها متشققتان وكعباها سوداوان كلون الأرض، تجري على الطريق الزراعي، تشكر الله في سرها، لا بد أن الله يحبها أكثر من عبد الجليل، ابن الفلاح الفقير، وهي تحب الله أكثر من الآلهة الآخرين، رأت صورهم في كتاب التاريخ بالمدرسة، رع وآمون وأوزوريس وإيزيس ومعات، كان أجدادها في مصر القديمة يؤمنون بهم.
تنطلق ساقاها الممشوقتان تسابقان الريح، جسمها خفيف تكاد تطير كالعصفورة لولا جاذبية الأرض، لا تطير إلا مسافة محدودة ثم يسقط جسدها مشدودا إلى أسفل بقوة خفية، يساورها غضب خفي من الله، يحب الطيور أكثر من الناس فمنحها أجنحة؟
لكن الغضب سرعان ما يتلاشى خوفا من عقابه وناره الحارقة بعد الموت.
Halaman tidak diketahui