تتنهد حميدة. - آه! كتاباتي أنا؟ كانت زمان لما كان عندي جهد ووقت. الكتابة بتفرض نفسها يا حميدة، أيوه لكن يا أستاذة فؤادة الكتابة عاوزة وقت وراحة وأنا هنا في المطبعة من سبعة الصبح لسبعة بالليل، وفي البيت يا دوب آكل وأنام، الساعة خمسة أصحى، ساعتين في المواصلات على الأقل، أكتب إيه وامتى يا فؤادة؟ - كلنا حياتنا صعبة يا حميدة، أنا متأكدة إنك كاتبة. - كاتبة حتة واحدة؟ - أيوه. - عرفتي منين؟ - من عينيكي.
ضحكت حميدة غير مصدقة مندهشة.
تحت ضلوعها انتفضت العضلة القديمة منذ كانت طفلة. - عندي كراسة تحت المرتبة باكتب فيها، تعرفي الأستاذة بدرية البحراوي؟ - طبعا قريت كل اللي كتبته. - إيه رأيك نتقابل عندها؟ - يا ريت.
حين عادت حميدة إلى بيتها، أخرجت من تحت المرتبة كراسة أوراقها مكتوبة بخط يدها، داخل كيس من الدمور، أضاءت اللمبة الخافتة في جوار سريرها، قرأت بضع صفحات ثم وضعتها في حقيبتها، وسقطت في النوم من شدة التعب. انتهت فؤادة من كتابة الرواية، وضعتها في مظروف كبير لونه أبيض، وضعت المظروف داخل دوسيه بلاستيك، تحملها بعناية داخل حقيبتها، تتحسسها مثل كنز ثمين، لم يشأ أحد أن ينشرها، تعود إليها مع هذه الكلمات؛ «نأسف ليست هذه هي الكتابة التي نريدها، القراء لا يقبلون على هذا النوع من الكتابة، روايتك بطيئة الحركة لا تتماشى مع سياسة الجورنال، نحن في عصر السرعة، البزينيس والربح السريع، اخطف واجر، نحن نقول الصدق ولا نخدعك، اكتبي رواية أخرى تجاري السوق، هذه الرواية لن تبيع، السوق عرض وطلب، هذا الأدب غير مطلوب، الناس يبحثون عن الأدب المكشوف، الجنس العاري أدب الفراش وليلة الزفاف، اسمك غير معروف في السوق، لا ننشر إلا للأسماء المشهورة.» بعضهم كان يبتسم في إشفاق، يعبر عن إعجابه بالأسلوب أو المعنى الجديد، يمدح إبداع الأجيال الجديدة من الشابات والشباب، بديع جدا لكن غريب جدا، مثل كل الخيالات في هذه المرحلة من العمر، طموح جميل لكن الكتابة المطلوبة شيء آخر، يرد إليها الرواية مزهوا بنفسه ونجاحه، فشلها يزيد من إحساسه بالنجاح، بعضهم يبدي اللامبالاة، ينظر إلى كلماتها على الورق من دون اكتراث، قد يطلب إليها الناشر رؤية الرواية، تمد يدها فوق مكتبه بروايتها، تخلع عنها غلافها أمام عينيه، تحس بأن عضلات يدها تتقلص كأنما تخلع ملابسها وتعرض جسدها، يدها مبللة بالعرق والعار، ليس لأنها تعري روايتها، بل لأنها تعريها أمام عيون لا تكترث. وراء نافذتها في بيتها تجلس فؤادة، تطل على المدينة عاجزة عن الكتابة، السيارات تمر من بعيد من دون صوت، المباني تتخفى وراء السحابة، الشقة غارقة في الظلمة، الصمت ثقيل ينم عن خطر غامض، الأيام خالية والعمر خاو، يرمقها الفراغ بعين سوداء كالموت، أصابعها حول القلم مرتخية، عرفت هذه الحالة من قبل، تبدو وكأنما لم تعرفها، كأنما أصابعها لم تمسك القلم قط، كأنما لم تكتب في حياتها حرفا، كأنما لن تكتب بعد هذه اللحظة أبدا، إحساس مرير بفقدان الثقة بنفسها بل بفقدان نفسها كلها، تطبق جدران الغرفة عليها، تكاد تختنق، تهرب إلى الشارع، تمشي في الظلام، تحاول استنشاق الهواء، المباني من حولها تتمايل نحوها تكاد تسقط عليها، الشارع مهجور لا أحد فيه، تسمع وقع حذائها فوق الأسفلت كشخص يتبعها، تستمر في المشي لا تعرف إلى أين لا تستطيع التوقف ولا النظر إلى الخلف، رفعت ياقة الجاكتة تخفي نصف وجهها، وضعت يديها في جيوبها، أسرعت الخطى، في ضوء سيارة سريعة رأت ظلها الطويل يخرج من بين قدميها، ومن بطن الأرض يخرج مارد طويل أسود، تصورت أنه الشيطان يتبعها، كادت تصرخ، ثم تذكرت أنها لا تؤمن بوجود الشياطين، تنفست الصعداء، شهيق عميق وزفير عميق، استعادت هدوءها واستدارت عائدة إلى بيتها.
سعدية
في السابعة صباحا تدق سعدية الجرس، تعرف طريقتها في دق الجرس، تختلف عن دقات الجرس الأخرى، وخصوصا الطريقة التي يدق بها شاكر الجرس أو ابنتها داليا، أو جارتها أم رءوف.
تشعر بالفرح حين تأتي سعدية، تترك لها مفاتيح البيت والدواليب وكل شيء. - صباح الخير يا أستاذة. - صباح الخير يا سعدية.
تأتي ابنتها هنادي معها في الإجازات أيام الدراسة، كبرت هنادي وأصبحت في الخامسة عشرة، تدرس في معهد الكومبيوتر، أصبحت فتاة ممشوقة الجسم، تساعد أمها في الطبخ، قد تعطيها فؤادة بعض صفحات من الرواية لتكتبها على الكومبيوتر، قد تجلس مع ابنتها داليا تتفرجان على التلفزيون، تجلس هنادي على السجادة فوق الأرض، وتجلس داليا على الكرسي أو تستلقي فوق الكنبة المبطنة بالقطن، تسند ظهرها إلى شلتة ذات كيس ملون، ترى وجه هنادي شاحبا ينم عن التعب، تعالي يا هنادي إلى الكنبة. - كتر خيرك يا ست داليا. - ست إيه ده أنا عندي خمستاشر سنة زيك. - العين ما تترفعش عن الحاجب. - إيه الكلام الفارغ ده؟ - كل الناس بتقول كده. - ناس إيه ده إحنا مولودين سوا في السجن. - في السجن؟
وتضحك داليا، وكذلك هنادي لكن تحت ضلوعها عضلة تنتفض.
تحت لمبة النور المجاورة لسريرها أخرجت فؤادة الكراسة من الكيس الدمور، وضعت نظارة القراءة وفتحت كراسة حميدة، ولدتها أمها فوق الأرض في المستشفى المجاني، وتركتها إلى جوارها غارقة في الدم، وسقطت في النوم العميق أو الموت، من حولها في عنبر الأمهات أجساد كثيرة ممدودة فوق الظهر أو البطن، أو متكورة حول نفسها كالجنين، أرداف وأثداء متهدلة تطل من جلابيب المستشفى الدمور، ملوثة بالطين والدم، وأطفال عراة أشبه بلون الدود، إناث وذكور يزحفون فوق الأرض صامتين أو يئنون أنينا مكتوما، تعرفت الأم وجه ابنتها، التقطت عيناها الوجه المألوف من بين المئات أو الألوف، يشبه وجهها في الصورة، مدت إليها يدها عبر أكوام اللحم والدم، فأطبقت الأصابع الخمس الدقيقة على إصبع الأم، بقوة أكبر من جاذبية الأرض، خرجت الطفلة مع أمها خارج المستشفى بعد أن همست في أذنها بالحلم، معها أمهات مع أطفالهن بعد أن قرر المستشفى إخراجهن في ليلة العيد، في المساء كانت الأمهات يتجمعن حول التلفزيون، تظهر على الشاشة صور الفنانين والفنانات، تتذكر كل منهن حلم طفولتها، تمسح بكفها المتشققة دموعها الجافة، كانت الطفلة حميدة تحدق إلى وجه الفنانة فانحفرت الملامح في عقلها من طول التحديق إليها، مرت السنون وهي تحدق إلى الوجه حتى أصبحت شابة طويلة القامة ممشوقة الجسم، ترمقها عيون الرجال بنظرات مشتعلة بالجوع، من المراهقين دون سن العشرين ومن العجز فوق الثمانين، كانت الشمس على وشك المغيب، رأت سيارته البيضاء تبرق تحت الشعاع الغارب، ممدودة كاللبؤة الناعسة أمام الباب الحديدي، طويلة رشيقة كالطائرة، رأسها مدبب مثلث، مؤخرتها مربعة مكتنزة، مدقوقة فيها اللوحة البرونزية بأربعة مسامير، حفظت أرقامها السبعة من طول التحديق إليها، السائق أدكن السمرة يزداد سوادا في جوار بياضها الناصع، يدعك ظهرها المقوس بفوطة صفراء، قطرات عرقه يجففها بمنديل منقط بالأحمر والأزرق والأصفر الباهت، المرة الأولى أزوره في بيته، بعد تردد طويل اتخذت قراري، أوقفني رجل الأمن من وراء مكتبه في مدخل العمارة، نظر إلى صورتي في البطاقة ثم رمقني بنظرة عرفتها، منذ الطفولة أشم رائحة الذكر في عين الرجل، نظرة الشبق في عيونهم، في البيوت والشوارع والحوانيت، جميع اللابسين السراويل البيضاء والبناطيل السوداء، يبرز من تحتها لمجرد اللمس شيء صلب مدبب، بدا في طفولتي ورما خبيثا مصنوعا من العظم، أو رأس ثعبان يتلوى من الألم، ركبت المصعد إلى شقته، أول مرة يصعد جسدي إلى هذا الارتفاع، المصعد الحديدي ينغلق وينفتح وحده أو بقوة الجان، ورد ذكرهم في القرآن كما سمعت من أمي، تحت ضلوعي عضلة ترتجف، يزيد السحر من جاذبية الجن، كنت أومن بالسحر مثل جميع الأطفال من حولي في الزقاق، أرهف السمع لما يدور بين النمل من همس، ورد ذكره في الكتاب، أتوضأ وأصلي لأطرد الشيطان قبل أن أنام، ارتديت الحجاب وعمري أحد عشر عاما ثم ارتديت النقاب في الثالثة عشرة والقفاز الأسود يخفي يدي الاثنتين، توقف المصعد فجأة، انفتح بابه الحديدي فانطلقت إلى الخارج أجري، ليست أول مرة أركب المصاعد الكهربائية، يلازمني الخوف في كل مرة، يراودني حلم مزعج متكرر، المصعد الكهربائي يتوقف بي بين الأدوار، تنقطع الكهرباء، الباب لا ينفتح، أدق الباب بقوة، أصرخ أنادي لعل أحدا ينقذني، لا أحد يسمعني، أموت وحدي داخل الظلمة، لم أعرف قدر أمي إلا بعد موتها، كنت أشخط فيها من دون سبب، أو بسبب مؤخرتي المكتنزة، تصورت أنني ورثتها منها، لم يكن لأمي أخت أو أخ، ولا أحد يزورها في الزقاق، سمعتها تقول: الفقير مكروه من أهله. كانت أمي تضعني في حضنها، تحميني من البنات الكبيرات، يقرصنني في صدري أو يضربنني بالشلاليت على مؤخرتي، يقلن لي: يا بنت الخدامة. تبصق أمي في وجوههن، الخدامة أشرف منكن. في الليل لا يغمض لي جفن، أحدق إلى عين الجن، أصفع بيدي القدر والمصير، وكل وجوه البنات في الزقاق، أصرخ في النوم: لن يكون مصيري مثل مصير أمي والشغالات المطحونات، سأكون فنانة مثلها نسيت اسمها لكن ملامحها محفورة في خيالي. باب الشقة من الخشب لونه بني أدكن، اسمه أحمد شاكر محفور فوق قطعة من النحاس المجلوة.
Halaman tidak diketahui