إن الكنيسة عملت عملا بإتقان وإحكام، ولكنها أخطأت خطأ لا يغتفر في اختيارها بعض الكتب ورفضها الأخرى، واجتهدت عند ذلك التقسيم بأن تؤيد أن ما اختارته من الكتب هو الصحيح المنزل الموحى به من الروح القدس، وكل حكمة واردة فيها هي من السماء لا تحول ولا تزول، ولكنها لو تبصرت قليلا بما فعلت لأدركت بداهة بأنها بعملها هذا أفسدت وأضرت الكتب التي اختارتها؛ فقد أضافت إليها التقاليد المتباينة المعنى المتضاربة المغزى بين بيضاء وصفراء وزرقاء، أعني: أن بعض تلك التقاليد في اعتقادها مفيد وبعضه «ذو تعليم سام»، وقد وضعت عليها كلها ختم العصمة من الخطأ، وبذلك حرمت الكنيسة نفسها الحق في تدقيق النظر بتلك الكتب والتعاليم، وإيضاح غامضها وشرحها وحذف غير الموافق منها؛ الأمر المنوط بها، بل الفرض الملقى على عاتقها، ولكنها ما فعلت شيئا من ذلك، ولن تفعل ما دامت على حالها، بل كل شيء في نظرها مقدس سماوي؛ كالعجائب وأعمال الرسل آراء بولص الرسول بشأن الخطيئة والعقاب والثواب، وهذيان الرسل في رسائلهم، وخرافات يوحنا اللاهوتي في رؤياه.
ولقد مرت 1800 سنة وتلك الكتب لم تزل مطروحة بين أيدينا كما كانت عليه عند وضعها، بما فيها من الخطأ والخشونة والمخالفة لبعضها، وعدم وجود المعنى في كثير من فصولها.
ولو فرضنا أن كل حكمة من كلمات تلك الكتب حقيقة مقدسة، وقد أوضحتها الكنيسة وفسرتها تفسيرا واضحا، وأزالت عن الأذهان تخالف المعاني التي تتبادر لأول وهلة لذهن القارئ، ووجدت بتآويلها معنى لما ليس له معنى؛ غير أن غلطتها الأولى أحرجت مركزها، وأوقعتها في ارتباك واضطراب عظيمين؛ لأنه كان يجب عليها حين اختيارها لتلك الكتب أن تدرسها درسا مدققا، وتحذف منها ما يقود القارئ إلى الانتقاد والشك والارتياب، ثم بعد ذلك تسلمها للمؤمنين بعد أن تقيم الحجة الدامغة على صحة أقوالها وسمو مبانيها، ولكن رجال الكنيسة لم يوجهوا مزيد التفاتهم لهذا الأمر، ولم يجهدوا أنفسهم بالدرس والتنقيب، بل عولوا في كل إجراءاتهم وأعمالهم على الكلام؛ ولذلك اضطروا أن يرفضوا كثيرا من الأسفار وبعض فصول من أعمال الرسل ورسائلهم التي لو طالعها الإنسان بإمعان لما وجد فيها شيئا من روح التعاليم الإلهية، بل هي أقرب إلى الرياء والغش منه إلى التعليم، وعلى ما أظن أن لوقا الإنجيلي أورد ذكر العجائب ليعزز بها الإيمان ويجذب الناس إليه. وكثيرون من الناس حتى عصرنا الحالي يعتقدون بتلك العجائب اعتقادا صحيحا، وتؤثر مطالعتها على أذهانهم وقلوبهم، وتوطد إيمانهم وتعزز معتقدهم. ومن الحماقة وسخف الرأي الاعتقاد بأن العجائب تعزز الإيمان؛ لأنه من الحقائق الثابتة أن الناس يوقدون المصباح في الظلام لينير لهم، ولكن إذا كان النور موجودا فهل من لزوم للمصباح؟! فعجائب المسيح هي بمثابة المصابيح التي توقد في النور لكي تنيره، فما دام النور موجودا فهو يضيء من نفسه وتراه العيون، ولكن إذا أسدل الظلام جلبابه فحينئذ يأتون ليبدد غياهب الظلام وينير للحاضرين.
وإذا طالعنا السبعة والعشرين كتابا الكنائسية، واعترفنا بأنها كلها منزلة مقدسة، فإننا نقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه الكنيسة؛ أعني أنها أنكرت نفسها إنكارا شنيعا؛ ولذلك لا أنصح الناس بالاعتراف بتلك الكتب. وإذا أردنا أن نقرأ الكتب التي تبحث في الدين المسيحي، يجب علينا أولا أن نعرف أيا من السبعة وعشرين كتابا هو المهم المفيد، وإذ ذاك نشرع بدرسه والنظر فيه نظر الناقد الخبير، وبالطبع كل يقول معي إن أهم تلك الكتب هي الأناجيل الأربعة: متى ومرقص ولوقا ويوحنا، وما تقدمها من الكتب لا ننظر إليه إلا كمادة تاريخية لأجل فهم الإنجيل، وما تأخرها ما هو إلا شرح لتعاليمها ومفسرا له؛ ولذلك ينبغي علينا أن نفتش في هذه الكتب الأربعة عن الحقيقة؛ لأنها حسب قول الكنيسة حاوية أهم التعاليم التي قالها المسيح نفسه، وفيها متمثل الوحي الإلهي، ثم يجب علينا أن نبحث عن أصول التعليم الأساسية بدون تطبيقها على ما جاء في بقية الكتب من التعاليم والأقوال، أقول ذلك ليس لأني لا أريد مطالعة تلك الكتب، كلا بل لكيلا أسقط في هذا الضلال والخطأ.
وإني سأبحث في تلك الكتب عما يأتي؛ أولا: أبحث في كل شيء أفهمه وأدركه من تعاليمها؛ لأنه لا يعتقد أحد في الوجود بشيء لا يدركه ولا يفهمه، ومعرفة غير المفهوم لا تفرق في شيء عن عدم المعرفة. ثانيا: عما أجد به جوابا على سؤالي الآتي: من أنا؟ ومن هو الله؟ ثالثا: عن أساس الوحي وماهيته؛ ولذلك فقد عزمت أيضا على مطالعة الأشياء التي أستطيع فهمها وإدراك كنهها مرارا عديدة علني أتوصل بواسطتها إلى بعض الحقيقة. وأنا أقول: إني قد طالعت جميع كتب الكنيسة ودرستها درسا مدققا، وطالعت كتب تفاسيرها وشروحها، وتيقنت بعد ذلك أن تعاليم الكنيسة محصورة في الحقيقة، ونفس الأمر بالأربعة أناجيل فقط، وأن كتب العهد القديم لا تفيد مطالعتها المسيحيين شيئا، بل تزيد الظلام ظلاما، وتوقع القارئ في الشك والريبة؛ لأنها تخالف العهد الجديد على خط مستقيم مخالفة لا تخفى على كل ذي بصيرة وقادة، وأما رسائل يعقوب ويوحنا، فهي تحتوي على تفسير وإيضاح تعاليم المسيح الموجودة في الأربعة أناجيل، ولا يجد فيها القارئ شيئا جديدا مطلقا، ولكن بمزيد الأسف أقول: إن رسائل بولص مشحونة بأقوال فارغة وأباطيل كثيرة تقود القراء إلى لجة عميقة لا يستطيعون الصعود منها، وأما كتاب أعمال الرسل وبقية رسائل بولص، فليس لها أدنى ارتباط بتعليم الإنجيل، بل في كثير من المواضع تخالف نصوصه، وتخالف أقوال رسائل يعقوب ويوحنا.
ولقد طالعت الأربعة أناجيل مطالعة دقيقة باللغة الروسية وسائر اللغات المستعملة، ثم طالعتها باللغة اليونانية التي ترجمت عنها إلى سائر اللغات ترجمة بعيدة عن الحقيقة بعد السماء عن الماء، ثم أجهدت القريحة وعربتها تعريبا دقيقا يطابق المعنى، واستعنت في ذلك بالقواميس المطولة ذات الشروح الضافية، وقد اعتنيت في خلال التعريب بأن أوحد الأربعة أناجيل؛ لأن تعاليمها جميعا متقاربة متفقة، لا تختلف إلا اختلافا طفيفا، وإذا اعترض معترض وقال بلزوم مطالعة وتعريب إنجيل يوحنا على حدة لأنه يتضمن تعاليم لاهوتية سامية المبنى لم ترد في بقية الأناجيل، فأرد ذلك الاعتراض بأني لا أقصد في الترجمة قصر البحث على الحوادث التاريخية واللاهوتية والفلسفية، كلا؛ فإني أوجه التفاتي إلى معنى التعاليم والبحث فيها بحثا مفصلا، وهذا التعليم وارد في الأربعة أناجيل على السواء دون تمييز الواحد عن الآخر، فإذا جميعها مستقاة من الوحي الإلهي كما تقول الكنيسة، ثم إن فكرة توحيد الأناجيل ليست جديدة وليست من مخترعات بنات أفكاري، بل قد سبقني إليها كثيرون وعزموا على ذلك، ولكنهم لم يظهروا عزمهم من حيز القول إلى حيز الفعل، وبعضهم بدأ في العمل ولم يتمه، ومن بين هؤلاء أرنوليدي فيرس وفاوارديس وغريتشوليف وغيرهم.
ولكن جميع أولئك الشارعين كانوا موجهين التفاتهم، وقصدوا في تآليفهم توحيد وقائع الإنجيل التاريخية وتعليمه معا، ولكني أنا أخالفهم في هذا المبدأ، وأضرب صفحا عن الحوادث التاريخية، ولا أبحث بغير التعاليم.
معنى كلمة الإنجيل
أولا:
اصطلح مترجمو الأناجيل على عدم ترجمة لفظة الإنجيل؛ بل استعملوها كما هي بلفظها اليوناني، ولا يقدرون لها معنى آخر سوى أنه يقصد بها أربعة كتب تحتوي على تعاليم المسيح، مع أن لهذه اللفظة معنى خاصا مرتبطا ارتباطا متينا بفحوى تلك الكتب ومحتوياتها.
Halaman tidak diketahui