Dua Wanita dalam Satu Wanita
امرأتان في امرأة
Genre-genre
رغبة كامنة في جسدها، قديمة منذ الطفولة، منذ أن أصبح لها جسد خاص منفصل عن الكون. رغبة ملحة في أن يعود جسدها إلى الكون، أن يذوب إلى آخر ذرة، أن تتحرر وتصبح بلا جسد، وبلا ثقل له وزن، كالروح الخفيفة الحرة المحلقة في أي مكان وأي زمان بغير قيود تشدها إلى الأرض.
رغبة في حرية طاغية لا محدودة، لا يحصل عليها الإنسان إلا في اللحظة التي يقرر فيها الخلاص، ويمزق تلك الشعرة التي تفصل الحياة عن الموت، لا يرهب الموت، وحين يكسر الإنسان رهبة الموت يصبح قادرا على أي شيء في الحياة، وإن كان الموت ذاته.
وأحست في تلك اللحظة أنها قادرة على اختراق الحديد بجسدها، وتلقى الرصاص في صدرها، والخناجر المسمومة وغير المسمومة، وأن أي قوة في العالم لا تستطيع أن تجعل جسدها يسقط، أو ساقيها تتوقفان عن الحركة إلى الأمام، أو صوتها يكف عن الانطلاق مناديا بالحرية. من ينظر إلى وجهها في تلك اللحظة ير في سواد عينيها القرار الرهيب أن لا عودة إلى الخلف، أن لا قوة في العالم تحول بينها وبين حريتها.
وكأنما أصبحت بعد هذا القرار أقل توترا، وأكثر ارتخاء، ولم تعد عضلاتها مشدودة، وتركت جسدها ذائبا في الكون، متحركا معه، منسجما كنغم في لحن، وخطواتها كإيقاع راقص في رقصة جماعية، وصوتها ليس هتافا وإنما غناء، والكون كله يغني معها: «بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.»
الصوت يخرج من صدرها كالأنفاس الساخنة، وقلبها تحت ضلوعها يدق، وأحشاؤها تنبض، وأحزان قديمة وهموم ثقيلة تفارق جسدها مع كل نفس، وكل دقة، وعيناها من شدة الفرح تدمعان، ودموعها تسيل فوق خديها، وتدخل أنفها وفمها، فتلعقها بلسانها وهي تضحك وتغني، وغناؤها يتمزق بالبكاء والنشيج ولكنه لا ينقطع ولا يتوقف: «بلادي بلادي بلادي لك حبي و...»
وكلمة حبي تنسلخ عن صدرها كقطعة حية من لحمها، كحفنة ساخنة من دمها، تضغط على الكلمة بكل قوتها، بكل عنفوان حياتها، بكل رغبتها المكبوتة في الحب، والانطلاق كالطائر الحر في السماء.
أهو الحب الذي جعلها قادرة على إدراك كل هذه الأحاسيس؟ وأدركت عن يقين أنه الحب. الحب الحقيقي الذي يجعل الإنسان قادرا على أن يحب كل شيء، وكل الناس، ويستطيع أن يفتح ذراعيه ويحتضن الأرض والسماء والشجر، وحين يفتح الإنسان عينيه وينظر بين ذراعيه يرى أنه يحتضن جسدا واحدا محددا، يعرف ملامحه وحدوده الخارجية عن ظهر قلب، ويستطيع أن يلتقطه من بين ملايين الأجساد السابحة في الكون، ويميزه، يميزه بكيانه الخاص وعينيه الخاصتين القادرتين على رؤيته والتقاطه من بين البشر.
إن مثل هذه اللحظات تبدو كالحلم، كل اللحظات السعيدة تبدو كالحلم، فقد أفاقت على صوت طلقات الرصاص، وأدركت أن هذا الصوت هو الصوت الحقيقي الذي بدأت تسمعه، وبدأت تعود معه إلى واقع حياتها، وإلى القيود التي تربطها بالأرض، وكلما دوت طلقات الرصاص أفاقت على الحقيقة، ورأت بعض الطلبة يسقطون على الأرض، وبعضهم يتقدم إلى الأمام مواجها الرصاص بصدره، وبعضهم يحتمي بجدران البيوت والدكاكين.
ظلت واقفة كالتمثال في مكانها، شامخة بقامتها الطويلة وعينيها السوداوين المرفوعتين إلى أعلى. لو انطلقت رصاصة في المساحة المحددة التي يشغلها جسدها لسقطت على الفور ميتة، لكنها كانت تدرك أنها لن تموت بغير إرادتها، وهي لا تريد الموت بعد، ولكنها تريد أن تبكي، وأن الحزن هو الحقيقة الوحيدة في حياتها، وأنها حين كانت تضحك لم تكن تضحك، وحين كانت سعيدة كانت تدرك في أعماقها البعيدة أن هذه السعادة ليست حقيقية، وأن شيئا ما يتهددها، يتهدد حياتها، إرادة أخرى تتربص بها، في كل لحظة، وفي كل ركن، تنتهز الفرص لتنقض عليها، ولا أحد ينقذها، لا أبوها ولا أمها ولا إخوتها ولا أحد على الإطلاق.
وفجأة، وكأنما انشقت الأرض عنه، رأت وجه سليم، كان ينثني فوق الأرض ويحمل جسدا تنزف منه الدماء، وتلاشت الصور أمام عينيها، ولم يبق إلا ذلك الوجه بخطوط ملامحه المميزة وهو يجتاز الميدان ببطء، ومن فوقه جسد آخر، رأسه مائل، والدم الأحمر يغرق القميص الأبيض، ويسيل خلفهما راسما فوق الأسفلت شريطا طويلا أحمر. •••
Halaman tidak diketahui