وتملكني إحساس غريب أشبه باليقين أنها أفضل من كل الرجال وكل النساء الذين نسمع عنهم أو نراهم أو نعرفهم.
وخطر لي هذا السؤال وأنا أحاول أن أتغلب على الأرق: هل رفضتني وهي تعرفني؟ أم رفضتني دون أن تعرفني؟ •••
في الصباح التالي وجدت نفسي في السجن، لم أكن أسعى إلى محاولات جديدة للقاء فردوس؛ فقد يئست تماما من لقائها، لكني كنت أبحث عن السجانة أو طبيب السجن.
لم يكن الطبيب قد ظهر بعد، ووجدت السجانة فسألتها: هل قالت لك فردوس إنها تعرفني؟
وردت السجانة: لا، لم تقل لي شيئا. ولكنها تعرفك.
سألتها: وكيف عرفت أنها تعرفني؟
قالت: أنا أحس بها.
وظللت واقفة في مكاني جامدة، وتركتني السجانة إلى عملها، حاولت الاتجاه إلى سيارتي لأغادر السجن، لكني لم أتحرك من مكاني، إحساس ثقيل يجعل قلبي ثقيلا وجسدي ثقيلا وساقي ثقيلتين عاجزتين عن الحركة، إحساس أثقل من الأرض، كأنما الأرض هي التي تقف علي، ولست أنا التي أقف على الأرض، بل إن السماء أيضا أصبحت سوداء كالأرض، وتضغط هي الأخرى فوقي، إحساس لم أجربه في حياتي من قبل إلا مرة واحدة، ومنذ سنوات بعيدة حين أحببت رجلا لم يحبني، وأصبح رفضه لي ليس رفض إنسان واحد في عالم ضخم مليء بملايين البشر، ولكنه رفض العالم كله لي، بكل ما فيه وبكل من فيه.
وشددت ظهري لأرفع قامتي وأتنفس شيئا من الهواء، وخف الثقل عن رأسي بعض الشيء، وبدأت أتلفت حولي وأندهش لوجودي في السجن في هذا الوقت المبكر، ورأيت السجانة منكفئة على بلاط أحد الممرات تمسح الأرض، وتملكني إحساس غريب بالاستخفاف بها؛ فهي امرأة تمسح بلاط السجن، ولا تقرأ ولا تكتب ولا تعرف شيئا في علم النفس، فكيف صدقت إحساسها على الفور! إن فردوس لم تقل لها إنها تعرفني، وإذا كانت لا تعرفني وترفضني، فإن هذا الرفض يجب ألا يؤلمني؛ لأنها لا ترفضني أنا بالذات، وإنما ترفض العالم كله بمن فيه.
تحركت ناحية سيارتي لأغادر السجن، وأنا أدرك أن مثل هذه الأحاسيس الذاتية يجب ألا تراود باحثة علمية أثناء إجرائها لأي بحث. وكنت أبتسم وأنا أفتح باب سيارتي، وقد أعاد ملمس سيارتي تحت يدي إحساسي بذاتي وكرامتي كطبيبة، مهما كانت فهي أفضل من امرأة محكوم عليها بالإعدام بسبب جريمة قتل، وعاد إلي إحساسي العادي بنفسي (الذي يلازمني معظم الوقت) حين أدرت محرك العربة وضغطت بقدمي على دواسة البنزين، وبكل قوتي أيضا دست على إحساسي الطارئ (الذي يراودني أحيانا في لحظات الفشل) بأنني لست إلا نملة صغيرة تمشي على الأرض وسط ملايين الحشرات. وسمعت صوتا من خلفي غلب على صوت محرك العربة ينادي: يا دكتورة! يا دكتورة!
Halaman tidak diketahui