ملمس الورقة المالية فوق أصابعي كملمس أول قرش لامس أصابعي، وحركة يدي وهي تمزق الورقة مزقت الستار الأخير عن لغز حياتي، واكتشفت حقيقة عرفتها وأنا طفلة حين أعطاني أبي لأول مرة قرشا، وضغطت بكل قوتي على الورقة أمزقها، كأنما أمزق قرش زوجي، وأمزق زوجي، وأمزق أبي، وأمزق مرزوق، وأمزق بيومي وضياء وإبراهيم، أمزق فوق أصبعي، وأمزق أصبعي أيضا.
واتسعت عيناه بدهشة وهو ينظر إلي وأنا أمزق الأوراق المالية عن آخرها، وقال: أنت أميرة. قال: كنت أظنك مومسا. قلت: لست مومسا، لكن أبي وعمي وزوجي دربوني منذ البداية لأكون مومسا، وضحك الأمير وقال: أنت تكذبين؛ فوجهك ينم عن أنك ابنة ملك، قلت: لم يكن أبي مختلفا عن أي ملك إلا في شيء واحد. قال: ما هو؟ قلت: لم يدربني على القتل، وتركني لأتدرب عليه في الحياة وحدي. وقال: وهل دربتك الحياة على القتل؟ قلت: نعم. قال: هل قتلت أحدا؟
قلت: نعم.
ثبت عينيه في عيني لحظة، ثم ضحك وقال: لا يمكن أن أصدق أن مثلك يمكن أن يقتل. قلت: لماذا؟ قال: لأنك رقيقة. قلت: ومن قال: إن القتل لا يحتاج إلى الرقة؟ ونظر في عيني مرة أخرى، ثم ضحك وقال: لا يمكن أن أصدق أبدا أنك يمكن أن تقتلي بعوضة، قلت: قد لا أقتل بعوضة، ولكني قد أقتل رجلا. نظر في عيني لحظة أخرى ثم قال: لا أصدق. قلت: وكيف أجعلك تصدق؟ قال: لا أدري كيف تجعلينني أصدق، ورفعت يدي عاليا وأهويتها على وجهه في صفعة قوية وقلت: أتصدق أنني أصفعك؟ إن إغماد السكين في عنقك لا يزيد عن هذه الحركة السهلة.
واتسعت عيناه في ذعر حين نظر في عيني، وقلت له: أتصدق الآن أنني يمكن أن أقتلك؟ فأنت لست إلا بعوضة تنفق الآلاف من أموال شعبك الجائع على المومسات، وقبل أن أرفع يدي لأصفعه مرة أخرى؛ صرخ مستنجدا كما تصرخ النساء مستنجدات، لم يكف عن الصراخ حتى أقبل لنجدته رجال البوليس، وقال لهم: أمسكوها، إنها قاتلة مجرمة، وسألوني: هل أنت قاتلة مجرمة؟ قلت: أنا قاتلة، ولكني لست مجرمة؛ فأنا مثلكم أقتل المجرمين فقط، قالوا: إنه أمير بطل، وليس مجرما. قلت: بطولات الأمراء والملوك عندي جرائم؛ فأنا لست مثلكم. قالوا: أنت مجرمة بنت مجرمة. قلت: أمي لم تكن مجرمة، لا يمكن لأي امرأة أن تكون مجرمة؛ فالإجرام يحتاج إلى ذكورة. قالوا: ماذا تقولين؟ قلت : أنتم المجرمون، بما فيكم الآباء والأعمام والأخوال والأزواج والقوادون والمحامون والأطباء والصحفيون وجميع الرجال من جميع المهن. قالوا: أنت امرأة خطرة متوحشة. قلت: لأني قلت الحقيقة، والحقيقة متوحشة وخطرة.
وكبلوني بالحديد وساقوني إلى السجن، وأغلقوا علي الأبواب والنوافذ، كنت أعرف لماذا يخافون مني إلى هذا الحد، فأنا المرأة الوحيدة التي كشفت النقاب عن حقيقتهم البشعة. وقد حكموا علي بالإعدام، ليس لأني قتلت، فكم من الآلاف يقتلون كل يوم! ولكنهم يحكمون علي بالموت؛ لأنهم يخافون من حياتي، ويعلمون أنني لو عشت فسوف أقتلهم، إن حياتي تعني موتهم، وموتي يعني حياتهم، وهم يرغبون في الحياة؛ فالحياة لديهم مزيد من الجرائم، ومزيد من الغنائم. أما أنا فقد انتصرت على الحياة وعلى الموت؛ لأني لم أعد أرغب في الحياة، ولم أعد أخاف الموت، لا أرغب شيئا، ولا آمل في شيء، ولا أخاف من شيء، فأنا أملك حريتي. لا شيء يستعبدنا في الحياة إلا رغباتنا وآمالنا ومخاوفنا، إن حريتي تملؤهم بالغضب؛ فهم يريدون أن يستعبدوني من خلال رغبة أرغبها، أو شيء أخافه، أو أمل يلوح لي في الأفق. جاء أحدهم وقال لي: هناك أمل في الإفراج عنك لو كتبت التماس عفو عن جريمتك لرئيس الدولة. قلت: لا أرغب في إفراج أو عفو عن جريمتي؛ لأن جريمتي لم تكن جريمة. قال: قتلت رجلا. قلت: وإذا خرجت إلى حياتكم مرة أخرى فلن أكف عن القتل، فهل يمكن إذن أن يكون هناك جدوى لو أنني كتبت التماس عفو؟! قال: تستحقين الموت يا مجرمة! قلت: كل الناس تموت، والأفضل أن أموت بجريمتي عن أن أموت بجريمتكم.
وأنا الآن أنتظرهم، وسوف يأتون بعد قليل ويأخذونني، وفي صباح الغد لن أكون هنا، ولن أكون في أي مكان يعرفه أحد، إن هذه الرحلة إلى مكان يجهله كل الناس فوق الأرض، بما فيهم الملوك والأمراء والحكام، تملؤني بالزهو، كنت أبحث عن شيء يملؤني بالزهو، شيء يجعلني أرفع رأسي فوق رءوس جميع الناس وعلى الأخص الملوك والأمراء والحكام، لم أكن أمسك أي جريدة وأرى فيها صورة رجل منهم حتى أبصق على وجهه، يظن أنني أعرفه بالذات، لكني لم أكن أعرفه بالذات، فلست إلا امرأة واحدة، ولا يمكن لامرأة واحدة مهما كانت أن تعرف كل الرجال الذين تنشر الصحف صورهم. مهما كنت فلم أكن إلا مومسا ناجحة، ومهما نجحت المومس فلا يمكن لها أن تعرف كل الرجال، إلا أن كل رجل عرفته أردت أن أرفع يدي عاليا في الهواء، ثم أهوي بها على وجهه؛ ولأنني كنت أخاف فلم أكن أستطيع أن أرفع يدي؛ كان الخوف يصور لي هذه الحركة على أنها ثقيلة صعبة، ولم أكن أعرف كيف أتخلص من خوفي حتى رفعت يدي أول مرة. حركة يدي في ارتفاعها ثم انخفاضها مزقت الخوف، وأدركت أن الحركة سهلة، أسهل مما كنت أتصور، ولم تعد يدي عاجزة عن الارتفاع عاليا في الهواء؛ لتهوي على أي وجه منهم، وحركة يدي أصبحت سهلة، وكل شيء في يدي أصبح يتحرك بسهولة وطبيعية، ولو كان سكينا يدخل الصدر ويخرج بسهولة وطبيعية، أقول هذه الحقيقة، فالحقيقة دائما سهلة بسيطة، وفي بساطتها دائما وحشيتها وجبروتها، لم أصل إلى الحقيقة المتوحشة إلا بعد سنين طويلة من الكفاح، نادرا ما يصل الإنسان إلى حقيقة رهيبة وجبارة في سنوات قليلة. الوصول إلى الحقيقة يعني أن الإنسان لم يعد يخاف الموت. فالصدق كالموت يحتاج إلى شجاعة هائلة، والصدق كالموت يقتل. وقد قتلت بالصدق وليس بالسكين، وهذا هو السبب وراء ذعرهم، وإسراعهم في إعدامي. إنهم لا يخافون السكين، ولكن الصدق يرعبهم. هذا الصدق المرعب يمنحني قوة عظمى، ويجعلني لا أخاف الحياة، ولا أخاف الجوع أو العري أو الانسحاق، لا أخاف وحشية الحكام ورجال البوليس، وأبصق بسهولة على الوجوه الكاذبة والصحف المزيفة!
3
وانقطع صوت فردوس فجأة، كما تنقطع الأصوات في الحلم، وحركت جسمي كمن يتحرك وهو نائم، لكن الذي تحتي ليس هو السرير، وإنما شيء صلب صلابة الأرض وبرودة الأرض، ولكنها برودة لا تصل إلى جسدي، كبرودة البحر في الحلم، أسبح فيه وأنا عارية، فلا أبرد ولا أغرق، مع أنني لا أعرف السباحة. وصوتها انقطع لكن صداه الخافت المتصل لا زال في أذني، كتلك الأصوات التي نسمعها في الأحلام، يخيل إلينا أنها تأتي من قريب وهي بعيدة، ولا نعرف بالضبط من أين تأتي: من فوق أم من تحت، من يمين أو من يسار، وقد تأتي إلينا من كل الجهات، كهواء يملأ الأذن، لكنه ليس هواء، وإنما صوت حقيقي كنت أسمعه، وامرأة حقيقية من لحم ودم لا تزال تجلس على الأرض أمامي، ونافذة الزنزانة مغلقة والباب مغلق، ولا يمكن إلا أن أكون يقظة؛ لأن الباب انفتح فجأة، ورأيت عددا من رجال البوليس المسلحين أحاطوا على شكل دائرة، وسمعت أحدهم يقول لها: هيا، حان موعدك!
وذهبت معهم، واختفت من أمام عيني إلى الأبد، لكن صوتها كان لا يزال يتردد في أذني، يرج أذني، ويرج رأسي، ويرج الزنزانة، ويرج السجن، ويرج الشوارع، ويرج العالم كله. يسبب الرعب في العالم كله، رعب الصدق القاتل، هول الحقيقة المتوحشة البسيطة بساطة الموت، بساطة طفل لا يعرف الكذب، ولأن العالم كله يكذب فقد كان على فردوس أن تدفع ثمن الصدق باهظا.
Halaman tidak diketahui