كان على المعاش وبغير عمل وبغير أصدقاء، لا يخرج من البيت، ولا يجلس على مقهى خشية أن يدفع ثمن فنجان القهوة، وطوال النهار يلازمني في البيت أو في المطبخ، يراقبني وأنا أطبخ أو أغسل، فإذا ما أفلتت من يدي علبة مسحوق الصابون وسقط منها شيء على الأرض؛ انتفض وهو جالس وأنبني على إهمالي، وإذا ما ضغطت بيدي قليلا على الملعقة وأنا آخذ قطعة سمن للطبخ؛ صاح ونبهني إلى أن علبة السمن تتناقص بسرعة أكثر من اللازم، وإذا ما جاء الزبال؛ فتش صحيفة القمامة قبل أن يخرجها له، وفي مرة وجد في صفيحة القمامة بقايا طعام، فأخذ يصيح بصوت عال سمعه الجيران، ثم بدأ يضربني بسبب وبغير سبب.
ضربني مرة بكعب الحذاء حتى تورم وجهي وجسدي، فتركت بيته وذهبت إلى عمي، لكن قال لي: إن كل الأزواج يضربون زوجاتهم، وزوجة عمي قالت لي: إن عمي يضربها. وقلت لها: إن عمي شيخ محترم ورجل يعرف الدين معرفة كاملة، ولا يمكن أن يضرب زوجته. وقالت زوجة عمي: لأنه يعرف أن الدين يبيح ضرب الزوجة ، وليس للزوجة الفاضلة أن تشكو زوجها، وواجبها الطاعة الكاملة، ولم أعرف ماذا أقول لزوجة عمي، وقبل أن تضع الخادمة الغداء فوق المائدة أخذني عمي إلى بيت زوجي، وكان زوجي قد تناول غداءه وحده، ولم يسألني حتى المساء إذا ما كنت تغديت، وتعشى وحده دون أن يكلمني، وفي الصباح أعددت الفطور، وجلس في مقعده ليأكل دون أن ينظر إلي، وجلست بدوري في مقعدي لآكل، فإذا به يرفع عينيه ويثبتهما في صحني، كنت جائعة، وكنت أريد أن آكل بأي شكل، بأي ثمن، فوضعت يدي في الصحن، ثم رفعتها إلى فمي، ولم تكد يدي تصل إلى فمي حتى انتفض واقفا وهو يصيح: لماذا عدت من بيت عمك؟ ألا يحتمل عمك أن يطعمك بضعة أيام؟ هل عرفت الآن أنني أنا الوحيد الذي أحتملك، وأنا الوحيد الذي أطعمك، لماذا تنفرين مني إذن؟ لماذا تبعدين وجهك عن وجهي؟ هل شكلي قبيح؟ هل رائحتي كريهة؟ لماذا تبعدين أنفك كلما قربت منك؟
وانقض علي ككلب مسعور، وكان الثقب في الورم تتساقط منه قطرات صديدية عفنة الرائحة، ولم أبعد وجهي، ولم أبعد أنفي، وتركت وجهي تحت وجهه، وتركت جسدي تحت جسده، تركته بغير إرادة وبغير مقاومة وبغير أي حركة وبغير أي حياة، كأنما هو جسد ميت، أو قطعة أثات أتركها حيث تكون، أو فردة حذاء أخلعها وأتركها تحت أي مقعد.
وفي مرة أخرى ضربني بعصاه الغليظة حتى نزف الدم من أنفي وأذني؛ فتركت بيته ولم أذهب إلى بيت عمي، سرت في الشارع بعيني المتورمتين والكدمات فوق وجهي، لكن أحدا من الناس لم يرني، كانوا يهرولون مسرعين، إما راكبين أو سائرين على الأقدام، وجميعهم كالعميان لا يرون، والشارع واسع مزدحم ممتد أمام بصري بلا نهاية كالبحر، وأنا قطعة حجر قذفت فيه، تتلاطم أمواجه من كل جانب وتدفعني هنا وهناك، وحيث تدفعني أتدحرج كقطعة حجر، وتعبت من السير، فجلست على مقعد خال رأيته فوق الرصيف، وتصاعدت إلى أنفي رائحة نفاذة كالقهوة، فأدركت أن لساني جاف وأنني جائعة، وحين جاء صبي المقهى وسألني: ماذا تشربين؟ قلت له: كوب ماء أرجوك، فرمقني بنظرة غاضبة، وقال: إن المقهى ليس لعابري السبيل، وأن ضريح السيدة زينب على بعد خطوات، وهناك ماء كثير لمن يريد، ورفعت عيني إليه، فحملق في وجهي، وحاولت أن أقول له لكني لم أستطع، وأخفيت وجهي بيدي وبكيت، وتركني الصبي ثم عاد ومعه كوب ماء، وحاولت أن أبتلع الماء، لكن شيئا كالغصة كان يسد حلقي، وسقط الماء من بين شفتي، وجاء صاحب المقهى بعد قليل وسألني: ما اسمك؟ قلت: فردوس. قال: ما هذه الكدمات في وجهك؟ هل ضربك أحد؟ حاولت أن أقول له، لكن صوتي اختنق وتنفست بصعوبة وابتلعت الدموع. قال: استريحي يا فردوس، سأحضر لك فنجان شاي ساخن، هل أنت جائعة؟
لم أكن رفعت عيني إلى وجهه بعد، لكن صوته كانت له نبرة منخفضة فيها بحة خفيفة، ذكرتني بصوت أبي حين كان يسألني: هل أنت جائعة؟ بعد أن يأكل، وبعد أن يضرب أمي ويهدأ، ولأول مرة أحس أن أبي كان رجلا طيبا، وأنني كنت أحبه دون أن أدري، وسمعته يقول: أبوك موجود؟ قلت: لا. قال: كل الناس تموت يا فردوس، وأمك هل هي موجودة؟ قلت: لا. قال: أليس لك أحد: أخ أو عم أو خال؟ وقلت: لا، وفتحت حقيبتي الصغيرة بسرعة، وأخرجت شهادتي الثانوية، وقلت: أنا حاصلة على الشهادة الثانوية، ويمكنني أن أشتغل بالثانوية أو الابتدائية أو أشتغل أي شيء.
اسمه كان بيومي، وحين رفعت عيني إلى وجهه لم أشعر بخوف، أنفه كان مكورا كبيرا يشبه أنف أبي، وبشرته سمراء كبشرته، وعيناه مستكينتان هادئتان، لا توحيان بأنها يمكن أن تضرب أو تقسو، وقال لي: إنه يسكن في بيت من حجرتين، وأنني أستطيع أن أسكن في حجرة منهما حتى أحصل على عمل، وفي الطريق إلى بيته توقف أمام محل فاكهة وقال: أتحبين البرتقال أم اليوسفي؟ وحاولت أن أرد لكن صوتي لم يخرج، لم يسألني أحد من قبل أتحبين البرتقال أم اليوسفي؟ أبي لم يكن يشتري لنا فاكهة، وعمي أو زوجي كان يشتري دون أن يسألني، ولم أكن فكرت من قبل فيما إذا كنت أحب البرتقال أكثر من اليوسفي؟ وقلت: اليوسفي، وأدركت بعد أن اشترى اليوسفي أنني كنت أحب البرتقال؛ لأن اليوسفي كان أرخص ثمنا.
وكان لبيومي شقة من حجرتين صغيرتين في حارة تطل على سوق السمك، أكنسهما وأمسحهما وأشتري من السوق السمك، أو أشتري أرنبا أو لحما، وأطبخ له طعامه، وكان يشتغل طول النهار في المقهى دون أن يأكل شيئا، وحين يعود بالليل يتناول عشاء دسما، ثم ينام على سرير في حجرته، وأنام أنا على مرتبة على الأرض في حجرتي.
أول ليلة ذهبت معه كانت الدنيا شتاء وبردا، فقال: خذي أنت السرير، وسأنام أنا على الأرض، لكني رفضت وذهبت ونمت على الأرض، فجاء إلي وأمسكني من ذراعي، وسار معي إلى السرير، كنت مطرقة إلى الأرض وأنا أسير إلى جواره، تتعثر خطواتي في حرج شديد، لم يحدث في حياتي من قبل أن فضلني أحد على نفسه، أبي كان يأخذ لنفسه قاعة الفرن في الشتاء ويتركني في القاعة الباردة، وعمي كان يأخذ السرير ويتركني فوق الكنبة الخشبية، وزوجي كان يأكل ضعف ما آكل ومع ذلك لا يكف عن النظر في صحني.
حين وصلنا إلى السرير قلت: لا يمكن أن أنام على السرير. فقال: ولا يمكن أن تنامي على الأرض. كنت لا أزال مطرقة، ويده لا تزال ممسكة بذراعي، ورأيت يده كبيرة، وأصابعه طويلة كأصابع عمي، وفيها أيضا تلك الرعشة الخفيفة وأغمضت عيني.
كالحلم القديم أو الذكرى القديمة قدم عمري، أحسست بالتلامس المفاجئ، وبانتفاضة جسدي بلذة غامضة تشبه الألم، أو ألم ليس في حقيقته ألما، وإنما هي لذة لم أعرفها أبدا في حياتي، أو عرفتها في حياة أخرى غير حياتي، أو هي حدثت في جسد آخر غير جسدي.
Halaman tidak diketahui