267

فعاد الرسول «أرجايفونتيس» يتحدث إليه قائلا: «صواب جميع ما قلت، ولكن أخبرني - وصارحني القول - أتحمل هذه الكنوز العديدة والنفائس الفريدة إلى شعب غريب، لتحفظها وديعة هناك، أم آن لكما الأوان أن تهجرا طروادة المقدسة في هلع، بعد أن هلك بطل بالغ العظمة، هو أشرف الجميع، ابنك الذي لم ينثن عن محاربة الآخيين؟» فأجابه بريام الشيخ - الشبيه بالإله - قائلا: «من أنت أيها الشاب النبيل، ومن أي أبوين تنحدر؟ فإني أراك تتحدث هكذا بمنتهى الكياسة عن مصير ابني التعيس.» وإذ ذاك، قال له الرسول أرجايفونتيس: «إنك لا تختبرني - أيها السيد الشيخ - بسؤالك إياي عن هكتور العظيم، فكثيرا ما رأته عيناي في القتال، حيث يفوز الرجال بالمجد. وكان يسوق الأرجوسيين إلى السفن، حيث يقتلهم بالبرونز الحاد، فكنا نقف هناك ونعجب من أخيل إذ لا يأمرنا بالقتال، قد امتلأ سخطا على ابن أتريوس. إنني تابعه، وقد حملتنا إلى هنا نفس السفينة المتينة الصنع. إنني أحد المورميدون، ابن بولوكتور الغني بالمادة، والمسن مثلك، وله ستة أبناء أنا سابعهم. فلما تقاسمنا بالأزلام، وقع علي الاختيار أن أدلج إلى هنا. فها أنا ذا أجيء الآن إلى السهل من السفن؛ لأن الآخيين سيدبرون - في الفجر - معركة حول المدينة، وقد سئموا الجلوس هناك خاملين. ولا يستطيع ملوك الآخيين أن يكبحوا جماح تلهفهم إلى الحرب!»

وهنا قال الشيخ بريام، الشبيه بالإله: «إذا كنت تابع أخيل بن بيليوس حقا، فتعال وخبرني بالحق. هل ما زال ولدي حتى الآن بجانب السفن، أم أنه مزقه إربا، ورمى به إلى الكلاب؟» فأجابه الرسول أرجايفونتيس، قائلا: «كلا يا سيدي الشيخ، لم تنهشه الكلاب أو الطيور بعد، فهو ما زال موجودا هناك بجانب سفن الآخيين - وسط الأكواخ - كما كان أولا. وهذا هو اليوم الثاني عشر لوجوده هناك، ولكن لحمه - مع ذلك - لم يفسد قط، ولم تأكله الديدان، كما تأكل من يتردون في ميدان القتال. حقا أن أخيل يجره بلا رحمة حول رابية صديقه الحميم. كلما بزغ الفجر المقدس، ولكن جسمه لم يشوه رغم ذلك. وإنك لتعجب إذا ذهبت ورأيت كيف يرقد ناضرا مبللا بالندى، ونظيفا من الدم، لم يتسخ جسمه في أي موضع، وجميع جراحه - التي أصيب بها - ملتئمة، رغم كثرة من غيبوا البرونز في جسده، فلا بد أن الآلهة المباركين يهتمون بابنك، رغم كونه جثة هامدة، إذ كان عزيزا على قلوبهم!»

وإذ علم الشيخ بهذا، اغتبط وقال: «أي بني، ما أجمل أن تقدم للخالدين ما يستحقون من قرابين وهدايا! فما حدث قط أن نسي ابني في ساحاتنا - طوال حياته - الآلهة المقيمين في أوليمبوس؛ ولذلك حفظوا له هذا الصنيع بالرغم من موته! هلم، يا بني، خذ مني هذه الكأس البديعة، واحرسني حتى تصل بي - بسرعة الآلهة - إلى كوخ ابن بيليوس.» فخاطبه الرسول أرجايفونتيس قائلا: «إنك تمتحنني أيها السيد الشيخ، لأنني أصغر منك سنا، ولكنك لن تغلبني. كأني بك تحرضني على أن آخذ منك هدايا لا يعلم أخيل عنها شيئا! إنني أخاف وأستحي في قلبي أن أغشه، حتى لا يصيبني شر فيما بعد. ومع كل، فسأصحبك كمرشد حتى تبلغ أرجوس المجيدة، وأخدمك بإخلاص، سواء في سفينة سريعة أو سيرا على الأقدام، ولن يستخف أحد بقيادتي ويهجم عليك.»

قال المساعد هذا، ثم وثب يعتلي العربة خلف الجياد، وأمسك السوط والأعنة، ونفث في الجياد والبغال قوة عظيمة. فلما وصلت إلى الأسوار والخندق الذي يحرس السفن، كان المراقبون منهمكين في إعداد عشائهم، فسكب الرسول أرجايفونتيس النوم فوق كل هؤلاء، وفتح الأبواب في الحال، ودفع المزاليج إلى الخلف، وأدخل بريام والهدايا الرائعة الموجودة بالعربة. وسارا حتى بلغا كوخ ابن بيليوس، ذلك الكوخ الشاهق الذي بناه المورميدون لمليكهم، وقطعوا له أخشابا من شجر الصفصاف، وجمعوا الأعشاب من المروج فصنعوا له منها سقفا، وجعلوا لمليكهم حوله ساحة كبرى ذات أعمدة عظيمة، يغلق بابها بمزلاج واحد من خشب الصفصاف. وكان الباب يتطلب عادة ثلاثة من الآخيين، حتى يدفعوه إلى الوراء، وثلاثة آخرين لجذب المزلاج الضخم. أما أخيل فكان يدفعه إلى الداخل وحده. كذلك فتح هيرميس المعين الباب للشيخ، وأدخل الهدايا المجيدة لابن بيليوس السريع القدمين، وهبط إلى الأرض، وقال: «سيدي العجوز، إنني - أنا الذي جئت إليك - إله خالد، إنني هيرميس، وقد أوفدني إليك الأب لأرشدك في طريقك. والآن. سأعود أدراجي، حتى لا يراني أخيل. فمن دواعي النقمة أن يبدي إله خالد إكراما للبشر الفانين. ادخل وأمسك ركبتي ابن بيليوس وتوسل إليه بأبيه وأمه الجميلة الشعور وولده، كي تحرك في نفسه عاطفة الشفقة.»

بين بريام وأخيل!

وإذ قال هيرميس هذا، رحل إلى أوليمبوس الشامخ. وقفز بريام من عربته إلى الأرض، فترك أيدايوس ممسكا بالجياد والبغال، وانطلق فورا صوب المنزل الذي اعتاد أخيل - حبيب زوس - أن يجلس فيه. ووجده جالسا هناك، ولم يكن معه سوى المحاربين أوتوميدون والكيموس - نسل أريس - منهمكين في خدمته. وكان قد انتهى منذ فترة وجيزة من الطعام والشراب، ولكن المائدة كانت لا تزال قائمة إلى جانبه. فدخل بريام دون أن يراه هؤلاء. وما إن اقترب من أخيل، حتى أمسك ركبتيه بيديه، وقبل يديه البشعتين - قاتلتي البشر - اللتين قتلتا أبناءه العديدين. وكما يحدث عندما يحل عمى القلب على من يقتل إنسانا في وطنه، ثم يهرب إلى أرض الغرباء، ويلجأ إلى بيت أحد الأثرياء، فيتملك العجب من يبصرونه، هكذا تملك العجب أخيل عند رؤيته بريام - الشبيه بالإله - كما تملك الآخرين أيضا، فراح كل منهم ينظر إلى الآخر! ولكن بريام استمر في توسله قائلا: «تذكر أباك يا أخيل الشبيه بالآلهة، أباك الذي في عمري، على عتبة الشيخوخة المفجعة. إنه مثلي تماما، يقصر من حوله من الناس في معاملته، وليس هناك من يدفع عنه الخراب والهلاك، ولكنه مع ذلك يسر عندما يبلغه أنك لا تزال حيا، ويأمل - يوما بعد يوم - أن يرى ابنه العزيز عائدا من أرض طروادة. أما أنا، فإنني غير مبارك قط؛ إذ إنني أنجبت أبناء كانوا خير من في أرض طروادة الفسيحة، ولكن أحدا منهم لم يبق لي، كان لي خمسون ابنا عندما قدم أبناء الآخيين: تسعة عشر ولدوا لي من رحم واحد، والآخرون أنجبتهم نساء القصر الأخريات. فأرخى أريس سيقان كثير من هؤلاء. والذي بقي لي ليحرس وحده المدينة والبشر بنفسه، قتلته أنت أخيرا وهو يدافع عن وطنه، وأعني هكتور! لهذا جئت إلى سفن الآخيين لأسترده منك، وقد حملت لك معي فدية تفوق الحصر. اتق الآلهة يا أخيل وارحمني، وتذكر أباك. إنني منكوب أكثر مما هو بمراحل، كما أني تحملت ما لم يتحمله إنسان آخر على وجه الأرض. فإنني أمد يدي إلى قاتل أبنائي!»

هكذا قال، فأثار في أخيل الرغبة في البكاء من أجل أبيه، وأمسك بيد الشيخ فأبعده عنه برفق. ثم أخذا يتذكران في موتاهما، وبكيا، بكى هذا بكاء حارا - من أجل هكتور قاتل البشر - وهو يحبو عند قدمي أخيل، بينما بكى أخيل أباه مرة، بكى باتروكلوس مرة أخرى. وارتفع نحيبهما في جميع أرجاء المنزل. وبعد أن بكى أخيل كفايته، وسرى الحنين عن قلبه وأطرافه، انتصب واقفا من مقعده، وأقام الرجل المسن من يده، مشفقا على رأسه الأشيب ولحيته البيضاء، وتحدث إليه بكلمات مجنحة قائلا: «آه، أيها الرجل التعيس، الحق أنك تحملت نكبات كثيرة. كيف واتتك الشجاعة لتحضر بمفردك إلى سفن الآخيين، وتلتقي بي، أنا الذي قتلت أبناءك العديدين؟ حقا، إن قلبك لمن حديد! هيا، استرح واجلس على مقعد، ولنهدئ من أحزان قلبينا، رغم ما بنا من آلام، فلا فائدة من البكاء الحاد. فهكذا نسج الآلهة الخيط للبشر المنكودين، الذين يتحتم عليهم أن يقاسوا الآلام، بينما لا يعرف الآلهة الحزن! ذلك أن على أرض زوس قارورتين مملوءتين بالهدايا التي يمنحها، إحداهما للسيئات والأخرى للحسنات. فمن أعطاه زوس - الذي يقذف الصاعقة - حظا مختلطا، لقي الشر حينا، والخير حينا آخر. أما الذي لا يمنحه إلا من قارورة السيئات، فإنه يغدو محتقرا من البشر، ويتولاه الجنون الفظيع فوق سطح الأرض المقدسة، فيهيم على وجهه غير مبجل من الآلهة أو البشر! هكذا منحت الآلهة بيليوس الهدايا المجيدة منذ ميلاده؛ إذ كان يفوق جميع الناس ملكا وثروة، وكان ملكا على المورميدون. وبالرغم من كونه بشرا، فقد زوجته الآلهة ربة، ومع ذلك فإن الآلهة جلبت عليه الشر؛ إذ لم تدع أحدا من نسله الأمراء ينشأ في قصره. وإنما أنجب ابنا واحدا، كتب له الموت في غير أوان؛ إذ إنني لا أرعاه في شيخوخته، بل أقيم بعيدا عن وطني - في أرض طروادة - جالبا الكدر عليك وعلى أولادك وقد سمعنا عنك، أيها السيد الشيخ. إنك مبارك منذ القدم. وكنت سيدا - بسبب ثروتك وأبنائك - على جميع البلاد الممتدة إلى البحر، وتضم لسبوس - حيث عرش ماكار - وفروجيا، في المرتفعات، والهيليسبونت الفسيح، ولكن آلهة السماء جلبت عليك هذا البلاء، وجعلت المعارك وسفك دماء البشر حول مدينتك بغير انقطاع. تحمل يا سيدي، ولا تستسلم للبكاء، فلن يجديك الحزن على ولدك شيئا، ولن يعيده إلى الحياة، وإلا مسك - قبل ذلك - شر آخر!»

فأجابه العجوز، بريام الشبيه بالإله، بقوله: «لا تجلسني على كرسي يا سليل زوس، طالما أن هكتور ملقى وسط الأكواخ. كلا، رده إلي بسرعة، كي تراه عيناي. وتفضل بقبول الفدية الكبيرة - التي أحضرتها - عسى أن تسر بها، وتعود إلى وطنك، ما دمت قد أبقيت علي من البداية.» فقطب أخيل حاجبيه غاضبا وقال: «لا تستفزني بعد ذلك، أيها السيد الشيخ، فإني عازم - من تلقاء نفسي - على أن أرد إليك هكتور، إذ جاءني رسول من عند زوس والأم التي أنجبتني، ابنة عجوز البحر. أما أنت يا بريام، فإنني أحس في قلبي - ولا يخف علي قط - أن إلها ما قد رافقك إلى سفن الآخيين السريعة. فما من إنسان يجرؤ على المجيء وسط الجيش، ما لم يكن فتيا وقويا، وإلا لما نجا من الرقابة، ولما سهل عليه أن يجذب إلى الخلف مزلاج أبوابنا؛ ومن ثم فلا تثر شجون قلبي بعد ذلك - أيها الشيخ - خشية ألا أفلتك أنت أيضا داخل أكواخي، رغم قدومك إلي متضرعا، وبذلك أقترف إثما في حق زوس.»

هكذا تكلم، فاستولى الخوف على الشيخ، ورضخ لقوله. وقفز ابن بيليوس كالأسد بعيدا عن المنزل، ولم يكن وحده، بل ذهب معه تابعان، هما المحاربان أوثوميدون والكيموس، اللذان كان أخيل يبجلهما أكثر من جميع أصدقائه، بعد موت باتروكلوس. فخلى هؤلاء الجياد والبغال من تحت النير، وقادا تابع الملك الشيخ إلى الداخل، وأجلساه على مقعد، وحملاه الفدية التي لا حصر لها من العربة ذات العجلات العظيمة، مقابل رأس هكتور، تاركين فيها رداءين وعباءة بديعة النسج، كي يلف فيها أخيل الميت لينقل إلى وطنه. ثم استدعى أخيل الإماء وأمرهن بغسل جسد الميت وتعطيره. فحملنه إلى مكان منعزل كي لا يراه بريام، خشية ألا يستطيع السيطرة على حقده إبان حزن قلبه - عندما يرى ابنه - فيهيج غضب أخيل ويقتله، وبذلك يأثم في حق زوس. فلما فرغت الإماء من غسل الجثة ودهنها بالزيت، ألبستها معطفا جميلا وعباءة. ثم رفعها أخيل ووضعها فوق المنصة، وساعده أصدقاؤه في وضعها على العربة المصقولة. ثم أطلق أخيل أنينا، ونطق باسم صديقه العزيز قائلا: «لا تغضب مني يا باتروكلوس، فقد سمعتك في بيت هاديس تلومني على تسليمي هكتور العظيم إلى أبيه العزيز، إن الفدية التي أعطانيها جديرة بك، وسأجعل لك منها ما يليق بك!»

وإذ قال أخيل العظيم ذلك، عاد ثانية إلى داخل الكوخ، وجلس على المقعد الفاخر الصنع، الذي كان قد نهض عنه، وتحدث إلى بريام قائلا: «ها قد رددت إليك ابنك، أيها السيد الشيخ، حسب رغبتك. إنه فوق محفة، وعند الفجر ستراه بنفسك، وتحمله من هنا. أما الآن فلننصرف إلى العشاء. فإن نيوبي الجميلة الشعر لم تنصرف عن الطعام، رغم موت اثني عشر طفلا في قصرها؛ ست بنات وستة بنين أشداء. أما البنون، فإن أبولو كان قد قتلهم بسهام من قوسه الفضية، إذ كان غاضبا من نيوبي، وأما البنات، فقد قتلتهن القواسة أرتيميس؛ لأن نيوبي كانت تحدث ليتو الجميلة الخدين بقولها إن الربة لم تنجب سوى اثنين، بينما هي أم منجبة، وهكذا فتك الربان بأبناء نيوبي جميعا، فظلوا راقدين في دمائهم تسعة أيام، ولم يكن هناك من يدفنهم، لأن ابن كرونوس أحال القوم أحجارا. حتى إذا كان اليوم العاشر، تولت الآلهة دفنهم، وفكرت نيوبي في الطعام؛ لأنها كانت متعبة من كثرة البكاء والدموع التي ذرفتها بغزارة. ورغم أنها الآن في مكان ما وسط الصخور، فوق الجبال المنعزلة، في سيبولوس - التي يقول الناس إن فيها مخادع الربات، الحوريات اللائي يرقصن بسرعة حول أخيلوس - ورغم أنها حجر، إلا أنها لا تزال تفكر في المحن التي جاءتها من لدن الآلهة. فلننصرف نحن أيضا إلى الطعام، أيها الشيخ النبيل، وفيما بعد تنتحب على ولدك العزيز عندما تحمله إلى طروادة . فلسوف تبكيه بدموع سخينة!»

Halaman tidak diketahui