2
فوجدت ثيتيس في الكهف الأجوف، ومن حولها ربات البحر الأخريات، جالسات في حشد، وكانت تبكي - وسطهن - مصير ابنها المنقطع النظير، الذي سيموت في طروادة العميقة التربة، بعيدا عن وطنه. فاقتربت منها أيريس السريعة القدمين، وتحدثت إليها بقولها: «انهضي، يا ثيتيس، فإن زوس - ذا المشورات الخالدة - يستدعيك إليه!» فردت عليها الربة ثيتيس - الفضية القدمين - قائلة: «ولماذا يستدعيني ذلك الرب العتيد؟ إنني أحجم عن مخالطة حشد الخالدين؛ إذ إن قلبي مثقل بهموم لا حصر لها. ومع ذلك فسأذهب، ولن تكون كلمته بغير طائل، مهما يكن حديثه!»
قالت الربة الفاتنة هذا، وأخذت خمارا أسود اللون، لم يكن هناك أشد منه سوادا، وانطلقت في طريقها، تتقدمها أيريس السريعة، بقدمين كالريح. وأخذت أمواج البحر تنشق حولهما، حتى إذا خرجتا إلى الشاطئ، ودخلتا إلى السماء، وجدتا ابن كرونوس - الذي يدوي صوته بعيدا - جالسا وحوله حشد جميع الآلهة المباركين الخالدين. فجلست إلى جانب الأب زوس، وأفسحت لها أثينا مكانها، وقدمت إليها هيرا كأسا ذهبية بديعة، وحيتها بعبارات الترحيب. فشربت ثيتيس، وأعادت الكأس ثانية. ثم تكلم - أولا - أبو الآلهة والبشر أولا، فقال: «أيتها الربة ثيتيس، لقد جئت إلى أوليمبوس رغم كل همومك، ورغم أن قلبك مثقل بأحزان لا عزاء لها، فإنني أعلم ذلك من تلقاء نفسي. على أنني سأخبرك بالسبب الذي استدعيتك من أجله إلى هنا. لقد نشب صراع بين الآلهة الخالدين، لتسعة أيام، من جراء جثة هكتور، وأفعال أخيل سلاب المدن. إنهم يريدون الإيعاز إلى أرجايفونتيس الحاد البصر، بأن يسرق الجثة، ولكن اسمعي أي مجد أهب أخيل؛ لأنني أود - في الوقت ذاته - أن أصون كرامتك وودك، انطلقي بأقصى سرعتك إلى الجيش، وأعلني أمري لابنك. أنبئيه بأن الآلهة غاضبة عليه؛ لأنه في ثورة غضبه يستبقي هكتور عند السفن المدببة ولا يرده إلى قومه، عله يخافني ويعيد هكتور. وسأرسل في الحال أيريس إلى بريام العظيم القلب، لتأمره بالذهاب إلى سفن الآخيين، ليفدي ابنه العزيز، ويحمل إلى أخيل هدايا تدخل السرور إلى نفسه!»
هكذا قال، ولم تتردد الربة، ثيتيس اللجينية القدمين، في إطاعة أمره، فانطلقت هابطة من ذؤابات أوليمبوس، وبلغت كوخ ابنها. فوجدته هناك يبكي ويئن، ومن حوله أصدقاؤه الأعزاء، يعدون في عجلة طعام الصباح وفي الكوخ كبش، ضخم أشعث، قد ذبح لهم. فجلست أمه الجليلة بقربه، وربتت كتفه بيدها، ونادته باسمه قائلة: «أي بني، إلى متى تمزق قلبك بالبكاء والحزن، دون أن تفكر في الطعام أو الفراش؟ كان خليقا بك أن تضطجع في حضن امرأة؛ لأنني أخبرك أنك لن تبقى طويلا على قيد الحياة، وإنما يقف الموت قريبا منك، وكذا القدر العتيد، والآن أصغ إلي، فإنني موفدة إليك من لدن زوس. إنه يخبرك بأن الآلهة غاضبون عليه، وأنه نفسه - فوق جميع الخالدين - مليء بالسخط؛ لأنك في ثورة غضبك، تحتفظ بهكتور عند السفن المدببة، ولا ترده ثانية، هيا، سلمه وخذ فدية في مقابله!» فرد عليها أخيل - السريع القدمين - بقوله: «ليكن كذلك، إن كان الأوليمبي نفسه يأمر به، ويصمم قلبه على تحقيقه. فمن يحضر الفدية، يحمل الميت!»
هكذا تكلمت الأم وابنها وسط حشد السفن بكلمات كثيرة مجنحة. وأرسل ابن كرونوس أيريس - في الحال - إلى طروادة المقدسة، قائلا لها: «هيا يا أيريس، اتركي موطن أوليمبوس، واحملي النبأ إلى داخل طروادة، إلى بريام العظيم الشجاعة، أن يذهب إلى سفن الآخيين ويفدي ابنه العزيز، حاملا إلى أخيل الهدايا التي تدخل السرور إلى قلبه. وليذهب وحده، دون أن يرافقه أي رجل آخر من الطرواديين. ويجوز أن يكون برفقته شيخ مسن، ليقود البغال والعربة السريعة الجري، ويعود ثانية إلى المدينة بجثة الميت الذي قتله أخيل. لا تجعليه يفكر في الموت أو في أي خوف، فسنعطيه مرشدا كهلا - هو أرجايفونتيس - ليصحبه إلى مقربة من أخيل. فإذا ما دخل الكوخ، فلن يقتله أخيل، ولن يكلف أحدا آخر بقتله، لأنه ليس مجردا من الحكمة، وليس قصير النظر أو شريرا. بل إنه سيعامل الرجل المتضرع بكل ضروب الرأفة.»
هكذا قال، وأسرعت أيريس العاصفة القدمين تحمل رسالته.
بريام يستعد لافتداء الجثة!
وإذ بلغت منزل بريام، وجدت فيه صراخا وعويلا. وكان أولاده يجلسون حوله - داخل القاعة - يبللون ثيابهم بالدموع، والملك المسن وسطهم ملتفا بعباءته، وقد جللت رأسه وعنقه أوساخ كثيرة مما جمعه في يديه وهو يتمرغ في الثرى. وكانت بناته وزوجات أبنائه يبكين في جميع أنحاء البيت، من أجل المحاربين العديدين الشجعان الذين قتلهم الأرجوسيون. فاقتربت رسولة زوس من بريام، وتحدثت إليه بصوت رقيق، ولكن الرعشة تملكت من أطرافه، فقالت: «تشجع، يا بريام، يا ابن داردانوس، ولا تخف قط. إنني لم آت إلى هنا لأصيبك بأذى، ولكني موفدة إليك من لدن زوس. الذي يوليك عناية وشفقة بالغتين رغم بعده عنك. إن الأوليمبي يأمرك بأن تفتدي هكتور العظيم، فتحمل إلى أخيل الهدايا التي تدخل السرور إلى قلبه، ولتذهبن وحدك ولا يصحبنك أي رجل آخر من الطرواديين، اللهم إلا تابع مسن، ليقود البغال والعربة الخفيفة الجري، ثم يعود إلى المدينة بالميت، الذي قتله أخيل. ولا تفكر في الموت ولا تهابن شيئا، فسيصحبك مرشد - هو أرجايفونتيس - الذي سيقودك، حتى يصل بك قريبا من أخيل. وعندما تبلغ داخل الكوخ، فلن يقتلك أخيل نفسه، ولن يكلف أحدا آخر بقتلك، فما هو بعديم الحكمة، ولا قصير النظر، ولا شرير، بل إنه بكل شهامة يبقي على من يلوذ به!»
وما إن أتمت أيريس السريعة القدمين كلامها، حتى انصرفت. فأمر الملك أولاده بإعداد العربة والبغال السريعة الجري، وأن يثبتوا عليها الصندوق المصنوع من خشب الصفصاف. ثم هبط إلى خزانة كنوزه ذات السقف المقبب، والمعطرة بخشب الصندل، وكان بها ما لا يحصى من النفائس. واستدعى إليه زوجته هيكابي، وقال لها: «يا سيدتي، لقد بعث إلي زوس برسول أوليمبي، يأمرني بالذهاب إلى سفن الآخيين لأفتدي ابني العزيز، وأحمل إلى أخيل الهدايا التي تسر قلبه. هلمي، وخبريني بما ترينه في هذا. أما أنا، فإن رغبة قلبي تلح في الذهاب إلى هناك، إلى السفن، وإلى داخل معسكر الآخيين الفسيح.» هكذا قال، ولكن زوجته أطلقت صيحة حادة، وأجابته قائلة: «وا حسرتاه! أين ذهبت حكمتك التي اشتهرت بها منذ القدم، بين الأغراب وبين من هم تحت حكمك؟ كيف تود الذهاب بمفردك إلى سفن الآخيين لتقابل الرجل الذي قتل أبناءك العديدين الشجعان؟ إن قلبك لمن حديد حقا، فلو أنك وقعت في منطقة نفوذه، وأبصرتك عيناه - وهو المفترس العديم الوفاء - لما رحمك، ولما احترمك بحال ما. كلا، لنبك الآن بعيدا عمن نبكيه، ماكثين هنا في قصرنا. فهذا ما نسجته ربة القدر العتيدة بخيطها عند مولده، عندما أنجبته أنا نفسي! لقد كتب عليه أن يشبع نهم الكلاب السريعة الأقدام بعيدا عن والديه، في موطن رجل طاغية، أتمنى أن أنشب أسناني في أعماق قلبه وأنهشه، عندما آخذ بثأر ابني، فإن ابني لم يمت جبانا قط، وإنما قتل وهو يواجهه مدافعا عن رجال ونساء طروادة العريضات الصدور، دون أن يفكر في الاختفاء أو الفرار.»
فرد عليها العجوز بريام الشبيه بالإله قائلا: «لا تحاولي إبقائي هنا طالما أنا تواق إلى الذهاب، ولا تحاولي التأثير علي. فلو أن من يأمرني بهذا من البشر القاطنين على وجه الأرض - سواء أكان من العرافين الذين يتنبئون عن طريق الذبيحة أو من الكهنة - لجاز لنا أن نرى الأمر باطلا، ولرغبنا عنه، ولكنني سمعت الربة بأذني رأسي، ونظرت إلى وجهها، سأنطلق فورا، ولن يضيع كلامها سدى، ولو كان مقدرا لي أن أموت بجوار سفن الآخيين المدرعين بالبرونز، فليكن هذا! فليقتلني أخيل في الحال، بعد أن أمسك ولدي بساعدي، وأشبع رغبتي في البكاء!» وإذ قال هذا، رفع أغطية الصناديق الضخمة، وأخرج منها اثني عشر ثوبا جميلا، واثنتي عشرة عباءة ذات ثنية واحدة، وعددا لا يحصى من الأغطية، وأكبر عدد ممكن من العباءات البيضاء ومثلها من المعاطف. ووزن عشرة تالنتات من الذهب، وركيزتين لامعتين، وأربع قدور، وكأسا في غاية الإبداع، قدمها إليه رجال تراقيا عندما كان مبعوثا إلى هناك، فكانت تحفة بالغة القيمة، ومع ذلك فلم يتركها الشيخ في قصره؛ لأنه كان شديد الرغبة في افتداء ابنه العزيز. ثم طرد جميع الطرواديين من الرواق، وعيرهم بعبارات السباب قائلا: «اخرجوا من هنا، أيها التعساء، يا من جلبتم العار علي! أما لديكم أحزان في بيوتكم، حتى تجيئوا لي هنا فتغيظوني؟ ألا يكفي أن زوس بن كرونوس جلب علي هذا الحزن، ففقدت ابني خير الرجال؟ أنتم أنفسكم ستعانون بسبب موته، فلسوف يسهل على الآخيين أن يقتلوكم. أما أنا فليتني أذهب إلى بيت هاديس قبل أن ترى عيناي المدينة منهوبة ومخربة!»
Halaman tidak diketahui