247

قال هذا، ونفث قوة عظيمة في راعي الجيش، فشق طريقه وسط محاربي المقدمة، متدثرا بالبرونز البراق. ولم يكن ابن أنخيسيس بعيدا عن عيني هيرا البيضاء الساعدين، وهو ينطلق مسرعا لمواجهة ابن بيليوس وسط حشد الرجال. فجمعت الآلهة معا، وخاطبتهم بقولها: «أي بوسايدون وأثينا، فكرا - في قلبيكما - ما قد يتأتى عن هذه الأمور التي تجري، ها هو ذا أينياس قد ذهب - متدثرا بالبرونز الوهاج - ليواجه ابن بيليوس، وقد حرضه أبولو. هيا، إذن، وليكن واجبنا أن نرده في الحال. وفيما بعد، فليقف أحدنا إلى جوار أخيل، ويمده بالقوة العظيمة، حتى لا تثبط عزيمته بأية حال، ليعرف أن من يحبونه هم خير الخالدين، وأن أولئك الذين دفعوا الحرب والقتال عن الطرواديين، هباء كالريح. لقد هبطنا من أوليمبوس جميعا لنشترك في هذه المعركة، حتى لا يلحق أخيل ضرر ما وسط الطرواديين طوال هذا اليوم، ولكنه فيما بعد سيعاني ما نسجته ربة القدر بخيطها المتين منذ البداية، حين أنجبته أمه. وإذا لم يعلم هذا أخيل من فم أحد الآلهة، فإنه سيفزع فيما بعد عندما يواجهه إله في القتال، إذ من الصعب النظر إلى الآلهة عندما يظهرون عيانا!»

عندئذ أجابها بوسايدون - مزلزل الأرض - قائلا: «أي هيرا، لا يتجاوزن بك الغضب حدود الحكمة، فليس هذا مما يليق بك. إنني لم أكن تواقا إلى أن تنازل الآلهة بعضها بعضا في الصراع. وخير لنا أن نتنحى جانبا، ونجلس في مكان نراقب منه ما يدور، ونترك الحرب للبشر، اللهم إلا إذا نزل أريس وأبولو إلى القتال، أو منعا أخيل من النضال، فإذ ذاك يحق لنا أن نخوض الحرب كذلك. وأعتقد أنهما سيبادران - في الحال - إلى الابتعاد عن المعركة أو يعودان إلى أوليمبوس بين حشد الآلهة الآخرين، مدحورين بقوة أيدينا.»

هكذا قال الرب القاتم الشعر، وتقدم نحو جدار هرقل الشبيه بالإله، ذلك الحائط العالي الذي شيده له الطرواديون وأثينا، ليلوذ به وينجو من تنين البحر، إذا طارده التنين من شاطئ البحر إلى السهل.

2

هناك جلس بوسايدون والآلهة الآخرون، وغطوا أكتافهم من جانب بسحابة كثيفة، بينما جلس الآلهة - المنحازون للجانب الآخر - قبالتهم على مرتفعات كاليكولوني، من حولك أيها القواس أبولو، ويا مخرب المدن أريس.

وهكذا جلسوا - في الجانبين - يشاورون، ولكنهم عافوا خوض الحرب المفجعة، وأشرف عليهم زوس من عليائه.

وفي تلك الأثناء، كان السهل قد امتلأ عن آخره بالرجال والجياد، وقد تلألأ بالبرونز، وارتجت الأرض تحت أقدامهم وهم يتدفقون سويا. وأقبل محاربان يفوقان الجميع بمراحل، فتقدم كل منهما صوب الآخر، في الشقة الفاصلة بين الجيشين، متلهفين إلى القتال، ذانك هما أينياس بن أنخيسيس، وأخيل العظيم. فتقدم أينياس - أولا - متوعدا، وهو يهز خوذته الثقيلة فوق رأسه، ويحمل ترسه القوي أمام صدره، ويلوح برمح من البرونز في يده. فانقض عليه ابن بيليوس - من الجانب الآخر - كأسد هصور، أسد ضار، يتوق الناس إلى قتله، فتجتمع قبيلة بأسرها لمواجهته. ويمضي في طريقه - في البداية - غير حافل، حتى إذا قذفه أحد الشبان برمية سريعة من رمحه، تأهب متحفزا، فاغرا فاه، والزبد ينبعث خارجا حول أسنانه، وروحه القوية تزمجر في قلبه، وذيله يضرب جنبيه وضلوعه وردفيه، ثم يحفز نفسه على القتال، وبعينين متأججتين، يهجم من فوره مندفعا في حميته، محاولا أن يقتل شخصا أو أن يهلك في مقدمة الحشد، هكذا انقض أخيل بحميته، تتوثب روحه المسيطرة لتواجه أينياس العظيم الشجاعة. فلما اقترب كل منهما من الآخر، بدأ أخيل العظيم السريع القدمين يقول لأينياس: «أي أينياس، لماذا انفصلت هكذا بعيدا عن الحشد لتقف في مواجهتي؟ أيأمرك قلبك بمقاتلتي، أملا في أن تستحوذ على مكانة بريام وسيادته بين الطرواديين مستأنسي الخيول؟ كلا، لن يضع بريام مملكته بين يديك، ولو قتلتني. لأن له أبناء، كما أنه عاقل، وليس سقيم التفكير. أم هل أقطعك الطرواديون ضيعة تمتاز على ما عداها؛ أرضا خصبة من حقول وبساتين، تستطيع أن تقيم فيها، إذا ما قتلتني؟ ولكني أحسبك ستجد قتلي عسيرا، إذ أذكر أنني قد طاردتك من قبل - يوما - برمحي. أنسيت يوم كنت وحدك مع الأبقار. فجعلتك تجري بخطى واسعة من تلال أيدا بسرعة فائقة؟ في ذلك اليوم لم تجسر على أن تلتفت إلى الوراء مرة واحدة إبان فرارك. ومن هناك هربت إلى لورنيسوس، ولكني خربتها، إذ هاجمتها بمعونة أثينا والأب زوس، وسبيت النساء وسلبتهن حريتهن. غير أن زوس والآلهة الآخرين أنقذوك، ولكني لا أحسبهم سيحمونك في هذه المرة، كما تتصور في قرارة نفسك، كلا، ولذلك آمرك بأن تعود أدراجك إلى رفاقك، وألا تتقدم ضدي، وإلا حل بك الشر، فإن الأحمق خليق بأن يكتسب من الأحداث حكمة.»

عندئذ أجابه أينياس بقوله: «يا ابن بيليوس، هيهات أن تخيفني بالكلام، وكأنني طفل، فإنني أعرف مثلك كيف أذم وكيف أهدد. إن كلا منا يعرف نسب الآخر، فيما سمعناه من قصص ذائعة رواها البشر. ولكنك لم تر والدي قط بعيني رأسك، ولا أنا رأيت والديك. إن الناس يقولون إنك ابن بيليوس المنقطع النظير، وإن أمك هي ثيتيس الجميلة الجدائل، إحدى بنات البحر. أما أنا فأعلن أنني ابن أنخيسيس الفائق الشجاعة، وأمي أفروديت، ولسوف يبكي أحد الفريقين اليوم ابنا عزيزا فما أعتقد أننا سنشبع حميتنا بالكلمات الفارغة، دون النزال. ومع كل، فإذا أردت معرفة نسبي، فاسمع هذا وما أكثر من يعرفونه: لقد بدأ زوس - جامع السحب - بأن أنجب داردانوس وأسس داردانيا، إذ لم تكن طروادة المقدسة قد شيدت بعد في السهل، لتكون مدينة للبشر الذين كانوا لا يزالون يقطنون فوق منحدرات أيدا الكثيرة النافورات. ثم أنجب داردانوس ابنا، هو الملك أريخثونيوس الذي أصبح أغنى رجل بين البشر؛ فقد كان لديه ثلاثة آلاف جواد ترعى في أرض المستنقعات، وكان قرير العين بأولادها الرقيقة. فافتتنت الريح الشمالية بهذه الجياد وهي ترعى، واعتلتها في صورة جواد أسود العرف، فحملت وأنجبت اثنتي عشرة مهرة. إذا قفزت فوق الأرض - واهبة الحبوب - جرت فوق أعلى أطراف سنابل القمح الناضجة دون أن تكسرها، وإذا وثبت فوق سطح البحر الفسيح، جرت فوق أعلى قمم أمواج البحر الأشيب. وما لبث أريخثونيوس أن أنجب طروس ليكون ملكا على الطرواديين، وأنجب طروس ثلاثة أبناء لا نظير لهم: أيلوس وأساراكوس وجانوميديس الشبيه بالإله، الذي يفوق سائر البشر في الجمال؛ ولذا أخذته الآلهة إلى فوق ليكون حامل كأس زوس لجماله، وليعيش مع الخالدين. أما أيلوس فقد أنجب لاوميدون المنقطع النظير. وأنجب لاوميدون بدوره ثيثونوس وبريام وكلوثيوس وهيكيثايون، سليل أريس، وأما أساراكوس فأنجب كابوس وكاينيس أنخيسيس. ثم أنجبني أنخيسيس، في حين أن بريام أنجب هكتور العظيم، إذن فهذا نسبي، والدم الذي أعلن أنني انحدرت منه. أما الشجاعة، فإن زوس هو الذي يزيدها أو يقلل منها في البشر كيفما يشاء، إذ إنه أقوى الجميع. فهيا، ودعنا من الكلام هكذا كالأطفال، بينما يقف كلانا وسط مجال المعركة. فما أكثر ما هناك من سباب نستطيع أن نقوله، سباب لا تستطيع السفينة ذات المائة مقعد أن تتسع له. إذ ما أعظم سفاهة لسان البشر، وكم من كلمات متباينة الأنواع لديه، وما أوسع مجال حديثه هنا وهناك! وما من كلمة تقولها إلا وتسمع ردها، ولكن أي حاجة لكلينا بتبادل المشاحنات والمنازعات، كما تفعل النساء، اللاتي يخرجن إلى الطريق - عندما يتميزن غضبا في النزاع المهلك للنفوس - وتتشاحن الواحدة منهن مع الأخرى بألفاظ حقيقية وأخرى كاذبة، فحتى أولئك يدفعهن الغضب إلى الكلام. أما القتال، فبما أنني متلهف إليه ، فلن تزحزحني عنه بالألفاظ إلا بعد أن نتنازل بالبرونز وجها لوجه. هيا، وليعجم كل منا عود زميله بالرماح البرونزية الأطراف!»

قال هذا وقذف رمحه القوي صوب ترس أخيل المروع العجيب. فصلصل الترس بصوت عال حول طرف الرمح. وأمسك ابن بيليوس الترس منه بيده القوية، وقد تملكه الهلع؛ لأنه ظن أنه رمح أينياس - البعيد الظل - سرعان ما سيخترق الترس في سهولة ويسر. فما أحمقه! إذ لم يخطر بباله وقلبه أن الهدايا المجيدة التي تهبها الآلهة لا تتداعى بسهولة لقوة البشر. فلم يخترق رمح أينياس - الحكيم القلب - الترس؛ لأن الذهب أوقفه عند سطحه، ذلك الذهب هدية الرب. ومع أنه نفذ خلال طبقتين، إلا أن ثلاث طبقات ظلت باقية؛ لأن الرب الأعرج القدم كان قد لحم خمس طبقات؛ اثنتين من البرونز، واثنين تحتهما من القصدير، وطبقة من العسجد. ومن ثم توقف الرمح الدرداري.

عندئذ قذف أخيل رمحه العتيد بدوره، فأصاب ترس أينياس المتزن من كل جانب - تحت الحافة الخارجية - حيث كان البرونز رقيقا للغاية كما كان جلد الثور في أرق سمك له. وفي الحال مرق الرمح الدرداري البيلي، وجلجل الترس من شدة الضربة. فترنح أينياس وأبعد عنه الترس، وقد تملكه الخوف، فمرق الرمح فوق ظهره وانغرس في الأرض بكل قوته، رغم أنه شطر طبقتين واقيتين في الترس. وإذ نجا من الرمح الطويل، نهض وقد ران على عينيه أسى بالغ، وارتجف ذعرا من أن يكون الرمح قد انغرس قريبا جدا، ولكن أخيل استل حسامه البتار وانقض عليه في حمية، مطلقا صيحة رهيبة، وأمسك أينياس حجرا في يده، فيا له من عمل جبار! حجر لا يستطيع رجلان، من أمثال رجال اليوم، أن يحملاه. ومع ذلك فإنه لوح به وحده في يسر. وكاد أينياس في أثناء هجومه أن يهوي على أخيل بالحجر، فوق خوذته أو ترسه الذي دفع عنه الهلاك المفجع. وكاد ابن بيليوس أن يزهق روح أينياس بسيفه في عراك متشابك، لولا أن بوسايدون مزلزل الأرض، السريع الرؤية، قام في الحال، وتكلم وسط الآلهة الخالدين قائلا: «أيها الآلهة، أصغوا إلي، إنني جد حزين على أينياس العظيم الشجاعة، الذي سيذهب وحده إلى بيت هاديس، مقتولا بيد ابن بيليوس؛ لأنه أطاع كلام أبولو الذي يضرب من بعيد، فما أحمقه! إذ إن الرب لن يصد عنه الهلاك بأية حال، ولكن لماذا يجب عليه، وهو رجل بريء، أن يقاسي آلاما بسبب أخطاء ليست من صنع يده، وهو الذي يقدم دائما هدايا مقبولة للآلهة الساكنين السماء الفسيحة. هلموا بنا نقده بعيدا عن الموت، لئلا يغضب ابن كرونوس بطريقة ما، إذا ما قتله أخيل؛ لأنه مكتوب له أن ينجو، حتى لا يفنى نسل داردانوس، وتنقرض سلالته، داردانوس الذي أحبه ابن كرونوس أكثر من جميع أولاده الذين أنجبتهم له نساء البشر. فقد مقت ابن كرونوس أخيرا نسل بريام، وسيصبح أينياس القوي ملكا على الطرواديين، وكذا أحفاده الذين سيولدون في الأيام المقبلة.»

Halaman tidak diketahui