229

2

أثار عليه هكتور - نظير أريس السريع - فخاطبه ابن أتريوس بكلمات مجنحة، قائلا: «أي هكتور، إنك تسرع الآن عبثا وراء شيء قد لا تحققه، وراء جياد ابن أياكوس الحكيم. إنها عسيرة، فليس لبشر أن يسوسها أو يسوقها اللهم إلا أخيل الذي أنجبته أم خالدة. وفي الوقت نفسه يدافع مينيلاوس الباسل - ابن أتريوس - عند باتروكلوس. وقد قتل يوفوربوس بن بانثوس، خير الطرواديين وجعله يكف عن الشجاعة المتهورة.»

هكذا تكلم، وعاد ثانية كإله وسط كدح الرجال. ولكن روح هكتور كانت تخيم عليها سحب قاتمة من الحزن المؤلم، فراح يفتش بين الصفوف. وفي الحال أبصر الرجل الذي كان يسلب الأسلحة المجيدة، والآخر الراقد فوق الأرض والدم يتدفق من الجرح المفتوح. عندئذ خطا مسرعا وسط محاربي المقدمة، متدثرا بالبرونز الوهاج، مرسلا صرخة حادة، في صورة أشبه بنار هيفايستوس التي لا يستطيع أحد إخمادها. وسمع ابن أتريوس صيحته الحادة، فاضطرب اضطرابا شديدا، وقال لنفسه العالية الهمة: «ويحي! لو أنني تركت ورائي هذه الأسلحة العظيمة، وباتروكلوس الذي يرقد هنا ميتا من جراء الدفاع عن كرامتي، لخشيت أن ينقم علي الكثير من الدانيين ذلك. أما إذا رأيت - في سبيل الكرامة - أن أقاتل - وحدي - هكتور والطرواديين، فإني أخاف أن يحاصروني من كل صوب، وهم كثيرون ضد واحد؛ لأن هكتور - ذا الخوذة البراقة - يقود جميع الطرواديين إلى هنا. ومع كل، فلماذا يعارضني قلبي؟ إن المحارب إذا انتوى أن يتحدى إرادة السماء، بأن يقاتل محاربا آخر ممن يكرمه أحد الآلهة، فإن كربا عظيما يحيق به. ومن ثم فلن يغضب مني أحد الطرواديين، إذا ما أبصرني أتقهقر أمام هكتور، إذ إنه يقاتل بمساعدة السماء. أما إذا استطعت أن أجد أياس - الرائع في صيحة الحرب - في أي مكان، فسيكون بوسعنا أن نعود ثانية، وننصرف إلى القتال - ولو كان هذا ضد إرادة السماء - أملا في إنقاذ الميت من أجل أخيل بن بيليوس. فهذا أهون الشرور!»

وبينما هو يفكر هكذا - في باله وقلبه - أقبلت صفوف الطرواديين، يقودها هكتور. فتراجع مينيلاوس إلى الوراء، وترك الجثة، وهو يتلفت حوله كأسد ذي لبدة تطارده الكلاب والرجال - من حظيرة - بالصراخ والرماح، فيتراخى قلبه الجسور في صدره، ويترك المزرعة مرغما، هكذا أيضا، ابتعد مينيلاوس الجميل الشعر عن باتروكلوس. فاستدار ووصل إلى حشد زملائه، وهو يتلفت هنا وهناك بحثا عن أياس العظيم، ابن تيلامون. وسرعان ما أبصر به في الناحية اليسرى من المعركة، يشجع رفاقه، ويحثهم على القتال، إذ حط عليهم «أبولو» خوفا عجيبا. وفي الحال جرى نحوه، وخاطبه بقوله: «تعال يا أياس، أيها الصديق الحميم، لنسرع للدفاع عن باتروكلوس الميت، عسى أن نتمكن من حمل جثته إلى أخيل - ولو جسده العاري، على الأقل - أما حلته الحربية فقد أخذها هكتور، ذو الخوذة البراقة.»

هكذا تكلم، مثيرا روح أياس الحكيم القلب، فخطا هذا وسط محاربي المقدمة، بصحبة مينيلاوس الجميل الشعر. وكان هكتور - وقد سلب الجثة حلتها الحربية المجيدة - يحاول أن يسحب الجثة بعيدا، كي يستطيع أن يفصل الرأس عن الكتفين بالبرونز الحاد، ويجر بقية الجسد بعيدا فيلقيه لكلاب طروادة. غير أن أياس اقترب حاملا ترسه - الذي كان أشبه بسور المدينة - فتراجع هكتور عائدا إلى حشد رفاقه، وقفز فوق عربته، وأعطى الحلة الحربية العظيمة للطرواديين كي يحملوها إلى المدينة عنوان مجد عظيم له، ولكن أياس غطى ابن مينويتيوس من كل جهة بترسه العريض، ووقف وقفة الليث أمام أشباله، وقد التقى به الصيادون في الغابة يقود صغاره، فيزهو بقوته، ويقطب حاجبيه حتى يغطيا عينيه. هكذا أيضا دافع أياس عن المحارب باتروكلوس، ووقف مينيلاوس بن أتريوس بالقرب منه، وقد تضاعف حزنه العظيم في صدره.

وما لبث جلاوكوس هيبولوخوس - قائد اللوكيين - أن رمق هكتور عابسا، وعير هكتور بكلمات قاسية، قائلا: «أي هكتور، ما أروع مظهرك، وإن كانت الروعة تعوزك في المعركة، عبثا تنال ذلك الصيت الحسن، وأنت جبان رعديد! ألا فكر في طريقة تنقذ بها مدينتك - وكذلك وطنك - بنفسك، دون أن يساعدك في ذلك غير من ولدوا في طروادة، فلن يذهب من اللوكيين - على الأقل - شخص ما يقاتل الدانيين من أجل المدينة، فليس ثمة جدوى - فيما يبدو - من النضال المستمر ضد أهل الحرب. كيف تعتزم إنقاذ من هو أقل من ساربيدون مكانة - من معمعان القتال - يا عديم الرحمة، وأنت الذي تركت ساربيدون، ضيفك ورفيقك، فريسة وغنيمة للأرجوسيين! تركت ذلك الذي كثيرا ما برهن في حياته على أنه نعمة عليك وعلى مدينتك، ولم تجد شجاعة لتقصي عنه الكلاب! ومن ثم فلو أن أحدا من رجال لوكيا أصغى إلي، لذهبنا الآن إلى الوطن، ولن يحيق بطروادة سوى الهلاك الشامل الجلي. ذلك لأنه لو كانت لدى الطرواديين روح باسلة حقا، روح لا تعرف الخوف - كتلك التي تتملك الذين يجاهدون من أجل وطنهم ويصارعون الأعداء، لوجب علينا في الحال أن نجر باتروكلوس إلى طروادة. ولو قدر لهذا الرجل - الذي أصبح مجرد جثة - أن يأتي إلى مدينة الملك بريام العظيمة، واستطعنا أن نبعده عن المعركة، فإن الأرجوسيين سيعيدون في الحال عدة ساربيدون الحربية العظيمة. وخليق بنا أن نحضر جسده إلى طروادة. فإن الرجل الذي اغتيل خادمه عظيم حقا، بل هو خير الأرجوسيين القائمين بجانب السفن، هو وأتباعه الذين يجيدون في عراك متشابك . في حين أنك لم تؤت الشجاعة الكافية لتقف أمام أياس العظيم الهمة، وتواجهه عينا بعين، وسط صراخ المحاربين، ولا أن تقاتله؛ لأنه يفوقك بمراحل!»

فقطب هكتور حاجبيه غاضبا، وقال: «أي جلاوكوس: لماذا - وأنت ذلك الشخص العظيم - تتكلم بهذا الصلف؟ دع الغرور، فلقد كنت أظن بحق أنك تفوق - في الحكمة - غيرك من ساكني لوكيا العميقة التربة، أما الآن فكم أزدري حصافتك، إذ تتكلم هكذا، وتقول إنني لم أجسر على نزال أياس العتيد، ما من خوف يساورني من المعركة، ولا من طنين العربات. بل إن نية زوس - حامل الترس - هي الأقوى دائما، فهو يدفع الرجل الجسور إلى الغرور ليسلبه النصر بمنتهى السهولة، ومن جديد يثير هو نفسه الرجال إلى القتال. فتعال أيها الصديق، وقف إلى جانبي، وشاهد عمل يدي، لترى ما إذا كنت طوال هذا اليوم قد جبنت - كما تقول - أم أنني سأوقف الكثير من الدانيين - مهما يكن بأسهم وضراوة جرأتهم - عن الكفاح دفاعا عن باتروكلوس المقتول.»

وما إن قال هذا حتى صاح عاليا، مستدعيا الطرواديين قائلا: «أيها الطرواديون واللوكيون والدردانيون، يا من تقاتلون في عراك متشابك، كونوا رجالا يا أصدقائي، وفكروا مليا في الشجاعة الثائرة، حتى أرتدي عدة أخيل المنقطع النظير، هذه الحلة الحربية العظيمة التي نزعتها عن باتروكلوس العتيد، عندما قتلته.»

وما إن قال هكتور - ذو الخوذة البراقة - هذا، حتى انطلق بعيدا عن معمعة القتال، وجرى حتى وصل إلى رفاقه - ولم يكونوا على بعد منه - وأسرع بخطوات واسعة، وراء من كانوا يحملون حلة ابن بيليوس المجيد الحربية إلى المدينة. فوقف بعيدا عن المعركة الزاخرة بالدموع، فخلع حلته الحربية وأسلمها إلى الطرواديين - المحبي القتال - ليحملوها إلى «طروادة» المقدسة، وارتدى حلة أخيل بن بيليوس، الحلة الحربية التي كانت الآلهة السماوية قد وهبتها لأبيه، ثم منحها هذا - بدوره - لابنه، عندما بلغ الشيخوخة، يبد أن الابن، رغم ارتدائه تلك الحلة الحربية نفسها، لم يصل إلى سن الشيخوخة!

فعندما أبصره زوس- جامع السحب - من بعيد، وهو يرتدي عدة ابن بيليوس، الشبيه بالإله، هز رأسه، وقال في نفسه: «واها لك أيها الرجل المسكين! إنك لا تفكر حقا في الموت الذي ما برح يقترب منك، فترتدي هذه الحلة الحربية الخالدة، التي كانت لأمير كان يرهبه الآخرون. لقد قتلت زميله الشهم، الشجاع، وبطريقة غير لائقة نزعت الحلة المدرعة عن رأسه وكتفيه. ومع كل فسأمنحك قوة عظيمة لفترة من الوقت، في مقابل أن لن تعود أبدا من المعركة إلى «أندروماخي» لتتلقى منك عدة ابن بيليوس الحربية المجيدة.»

Halaman tidak diketahui