كان العرب من أحرص الملل على علوم الأدب، وأحفظهم للشعر، وأشغفهم بالنظم، ومع هذا فلقد يأخذك العجب لبقاء الإلياذة محجوبة عنهم وهي منتشرة هذا الانتشار بين قبائل الأرض، ومنظومة بلغة سامية كلغتهم يتناشدها الأدباء المقيمون بين ظهرانيهم في مقر الخلافة العباسية.
وإن لذلك أسبابا إذا تبيناها زال العجب لإغفالها في ما سلف مع وضوح الحاجة الماسة إلى تعريبها في هذا العصر، وإن مرجع تلك الأسباب إلى ثلاثة: الدين، وإغلاق فهم اليونانية على العرب، وعجز النقلة عن نظم الشعر العربي.
الإلياذة والنصرانية
اشرنا فيما مر إلى إقبال أمم أوروبا على الشعر الهوميري، وقلنا: «لم يتخلل إقبالهن فتور إلا عقود أعوام معدودات في بدء النصرانية». فإذا خذل المسيحيون هوميروس وهو معروف عندهم، ونبذوا شعره وهو متلو في مجالسهم، فما أحرى المسلمين في أوائل الإسلام أن يطرحوه ولا أثر له في أذهانهم، ويعرضوا عن أقواله وهم لا يعرفون منها شيئا.
كان هوميروس في ذروة مجده في الممالك الرومانية عند انتشار الدين المسيحي، فكان لا بد من تقويض أركان الوثنية، وهي ممثلة أصدق تمثيل في الشعر الهوميري، فبات إغفال ذلك الشعر ضربة لازب لحداثة عهد المسيحيين بدينهم ولزوم أخذهم به موردا صافيا لا تشوبه أساطير السلف من عبدة الأوثان، ولكن بعض الدعاة غالوا في اتخاذ الطرق المؤدية إلى تلك الغاية؛ فاتهموا هوميروس بابتداع البدع وتحريف آي التوراة؛ ليصوغ منها ما وافق مذاهب قومه من القصص المستنبطة منها كعصيان الطيطان وطردهم من الجنة، وتلبس فرسيس بصورة موسى أول أمره، ومماثلة بليروفون ليوسف الصديق، وأمثال ذلك مما أشرنا إليه في الشرح، ولهذا كانوا ينادون بتحريمها خشية من أن تفسد عقيدة الناشئة المتنصرة، وكان من لوازم قولهم أن هوميروس لم يكن الناقل لخرافات الأولين بل الواضع لها المنادي بها.
تلك كانت الحال بين عامة المسيحيين، وأما علماؤهم كالقديس إيرونيمس
55
فما زالوا مكبين على تلاوة أشعار هوميروس معجبين ببلاغتها وسمو معانيها.
وما رسخت قدم النصرانية في البلاد حتى أفرجوا عن هوميروس وإلياذته وسائر منظوماته، فانطلقت تلك الخرائد من عقالها، وبرزت بحلل قشيبة فعادت إلى اختلاب الألباب في مجالس الآداب.
الإلياذة والإسلام
Halaman tidak diketahui