وكان في تلك البلدة معلم كتاب ذميم الخلق يسمى ثستوريذس، فلما رأى ما كان من رواج بضاعة الشعر دعاه إلى منزله يقيم فيه ضيفا كريما على أن يلقنه كل ما نظم وما سينظم من الشعر فما وسع هوميروس إلا القبول فرارا من الفقر، فأكب ثستوريذس على النسخ حتى استتم كل منظومات هوميروس، فأقفل أبواب مدرسته وسار إلى جزيرة ساقس، وأقام فيها ينشد شعر نزيله ويدعيه. فبلغ هوميروس أمره فعزم على تعقبه ولم يبال بما اعترضه من مشاق فوصل الجزيرة بعد معاناة الأهوال، ونزل في بلدة من ثغورها تدعى بوليسوس فاتخذه بعض وجهائها معلما لأولاده، فأقام عنده وعكف على نظم الشعر ثم أذاع منظومات خلابة «كحرب الزرازير» و«حرب الضفادع والفيران» و«الكركوفة» فتناشدها الناس وتناقلها الركبان، وكان ثستوريذس كلما علم بحلول هوميروس في مكان فر منه إلى مكان آخر.
ولما رسخت شهرة هوميروس في ثغور الجزيرة سأل صاحب منزله أن يذهب به إلى عاصمتها، فشخص إليها وفتح مدرسة يعلم فيها النظم وطرائقه فعظم أمره وعلت منزلته، وأكبر الناس قدره فطاب عيشه واتسعت حاله بينهم، فأزوجوه بنتا فولدت له ابنتين، وجادت قريحته فنظم وأبدع، وكان وفيا ذكارا للجميل، فأودع شعره كل خلة محمودة خلد بها ذكر المحسنين إليه ولا سيما منطور الذي عني به أثناء رمده في إيثاكة، قال هيرودوتس: «جعل هوميروس منطور في منظومته الأوذيسية رفيقا لأوذيس، وأبرزه بمظهر من الصدق والوفاء عظيم حتى أن ملك إيثاكة استخلفه على بيته وعياله عند ما شخص في من شخص إلى طروادة».
فلهج الناس في كل قطر بذكر هوميروس حتى ملأت شهرته بلاد يونيا، وبلغت هيلاذة، فأوعز إليه أن يقصد إغريقيا، فطرب لذلك الإيعاز فأقلع إلى ساموس، وقضى فيها فصل الشتاء يتكسب بالإنشاد في منازل الأغنياء.
مرضه ووفاته
ولما انقضى الشتاء عول على السفر إلى أثينا فركب سفينة مع جماعة من أهل ساموس، فبلغوا جزيرة يوس وأرسوا في مضيق على مقربة من الثغر ففاجأ هوميروس الداء، فنزل إلى البر وانطرح على الجرف، ولم تقو السفينة على مواصلة السير لشدة الأنواء، فأقاموا أياما في مكانهم وأهل الجزيرة يتهافتون أفواجا لمحادثة هوميروس، وقد بلغ بهم الإعجاب منتهاه لما كان ينثر عليهم من غرر الأقوال ودرر الأمثال، ولكنه ما لبث أن توفي لاشتداد الداء، فاجتمع رفاقه وأهل الجزيرة ودفنوه قرب الشاطئ.
ولما مرت السنون وذوت نضارة الشعر، وانحطت منزلته اجتمع أهل الجزيرة إلى قبر هوميروس، فنقشوا عليه بيتين من الشعر معناهما: إن من هذا النبات الأخضر غطاء للرأس المقدس رأس الشاعر هوميروس شبيه الآلهة الذي كان يتغنى بمدح الملوك والأبطال.
فذلكة ما تقدم
تلك خلاصة ترجمة هوميروس بنص هيرودوتس، وهي وإن كانت لجلائها وصراحتها وتقدم عهدها أحرى بالثقة مما سواها فإنها لم تخل من مظان اعتراض رماها بها المتقدمون فضلا عن المتأخرين، ولكن جل ما يعترض به مقصور على العرض لا يكاد يتناول الجوهر بشيء، قال هيرودوتس: «إن تسثوريذس عكف على نسخ منظوم هوميروس مع أنه لم يثبت قط أن اليونان كتبوا لعهد هوميروس؛ لأن الحروف الفينيقية لم تشع عندهم إلا بعد حين». على أن هذا القول لا يعبث بأساس الرواية إذ المراد إثبات أن تسثوريذس كان سارقا فسيان إذن أن يكون ناسخا أو مستظهرا، وزعم بعضهم أن تلك السيرة كتبت بعد زمن هيرودوتس وعزيت إليه، فعلى فرض ثبوت هذا الزعم فلا ريب أنها كتبت بيد خبير فنسبتها إلى هيرودوتس لا تنقض حقائقها، وأما إغفال هيرودوتس أمورا مما أثر عن هوميروس كرحلته إلى مصر، وما أشبه فليس مما يفسد الحوادث التي أثبتها إذ قلما تجد مترجما أو مؤرخا يلم بأحوال مترجمه وأعماله بكلياتها وجزئياتها؛ بل ربما حصل التفاوت في نصوص كتبة الوحي والمحدثين، فإن في كل من الأناجيل شيئا مما أغفل في غيره، وما كان ذلك لينقض شيئا من الحقائق المسطرة فيه، ويقال مثل ذلك في السير النبوية والأحاديث.
وحاصل القول أنه كان للقدماء مزاعم كثيرة في هوميروس مما أسند إلى السلف، وتنوقل بالتواتر أو استنبط من فقرات من أناشيده، ولقد أوغل بعضهم في البحث أو الاستنباط حتى وضع سلسلة نسبة رواها سويداس وغيره تتصل من أفلون إلى كريثيس والدة هوميروس، قالوا: «كانت كريثيس ابنة ميون بن فرسيس وفوكميذا ابنة أفلون، وكان فرسيس أخا هسيودس الشاعر وكلاهما من ولد ذيوس بن مينالفس بن أبيفراذس بن أوفيمس بن فيلو تربس بن هرمونيذس بن أرفيوس بن واغروس من القينة قليوبة، وكان واغروس ابنا لفيروس من الحوراء ميثونة، وفيروس ابنا للينوس الشاعر، ولينوس هذا من ولد أفلون، وثووسة ابنة فوسيذ». تلك نسبة لا يثبت منها مع ما هو متواتر من أقوال المتقدمين إلا أن اسم والدة هوميروس كان كريثيس ولا علم لهم بأبيه، ولعل هوميروس نفسه لم يكن يعرف أباه وهو شأن كثيرين من نوابغ الأعصر الخالية، ومن جملتهم فرجيليوس نابغة شعراء اللاتين، أما سائر حلقات السلسلة، فإذا استجلي كنهها اتضح منه أنه يرمى به إلى إعظام قدر الشاعر، وإلصاقه بأعلى نسبة يفتخر به، ووصفه بأجل وصف يزين عظام الرجال، فما في تلك السلسة إلا الشاعر والحكيم والملك والعظيم فضلا عن الآلهة كأفلون صاحب القيثار وفوسيذ رب البحار والمطربات القيان والحور الحسان، وإذا أضفنا إلى ذلك معاني سائر الأسماء كهرمونيذس من رقة النغم وحسن الإيقاع، وفيلوتربس من حب السرور، وإبيفراذس من الذكاء، وفوكميذا من الحكمة علمنا أن واضع تلك السلسلة رمى بها مرمى الأقدمين من التعبير عن الحقيقة بالرمز واللغز وتجسيم الصفات، فكأنه قال: تلك هي أوصاف هوميروس الشاعر الحكيم المطرب العظيم الرحالة الفهامة والمؤرخ العلامة إلى آخر ما هنالك من صفات الإجلال والتبجيل.
وأما سائر الروايات المخالفة لترجمة هيرودوتس فأكثره موضوع لأسباب قد يمكن استجلاء بعضها بالتحري والمقابلة. ولنتخذ مثالا على ذلك زعم بعضهم أنه ولد في مصر. فإذا علمنا أن مصر كانت لذلك العهد مورد العلم ومنهل الحكمة، ومحط ركاب الطلبة من كل فج سحيق، وعرفنا أن رجلا كهوميروس لا بد من أن يحثه الشوق إليها فيقيم فيها زمنا طويلا ويخالط عامتها وسوقتها فيختبر الخلق والعادة، ويتصل بالكهان والأحبار فيدخر ويستفيد، وثبتت لدينا صحة ذلك من كثرة مآخذه عن المصريين مما نبهنا عليه في مواضعه، ورأينا تهافت القدماء على انتحال نسبة هوميروس إليهم، إذا تبينا كل هذا ذهبت عنا غرابة هذا الزعم، ثم إذا تطرقنا إلى النظر في قولهم: «إنه ربي في حجر بيت عظيم الكهنة» على ما تقدم فلا يصعب علينا أن نرى في تلك الرواية تحريفا لنص التوراة في نشأة موسى الكليم، وكم من رواية على هذه الشاكلة وضعت لنبي أو عظيم، فنقلت فنسبت إلى غيره في كل بلاد الله، وتغيرت الأسماء وتحولت المجريات إلى ما يلائم المكان والزمان والأصل واحد.
Halaman tidak diketahui