قلنا: هذا لواذ لايغني من الحق شيئا، بل هو حجة على أهل الكسب؛ لأن قيامه به بمعني حلول فيه، إذ القيام بمعنى الحلول عند المتكلمين، فمجرد كون العبد محلا لما يخلقه الله تعالى فيه إن كان كافيا في الحكم فإنه فاعل للفعل المخلوق فيه، وأنه محدث له فهو مستقل، إذ لا مشارك له في كونه محلا له، بل هو منفرد بذلك، وقد قال في المواقف وشرحه: أن الفعل الواحد يمتنع أن يكون في محلين كما سيأتي في الكلام على مقدور بين قادرين، فظهر أن قيد الاستقلال على هذا التقدير لغو لا فائدة فيه ولا حاصل له، كيف والكسب مجرد اسم لا مسمى له كما صرح به إمام الحرمين في مصنفه المسمى ب(النظامية)، وحكاه بعض أصحابنا عن البرهان له -أي إمام الحرمين-، وقد اعترف المعترض في مؤلفه سماه: (الأمم لإيقاظ الهمم)، بأن النظامية آخر مصنفات إمام الحرمين، وعليه المعتمد في المعتقد لإمام الحرمين، وكذا الإمام الرازي أشار في مصنفه المحصل وهو متأخر عن غيره من كتبه في هذا الفن، إلا أن الكسب اسم بغير مسمى ولذا عدل عن القول به، وسيأتي إن شاء الله ذكر ذلك كله في محله، وأيضا فلو أريد بعدم الاستقلال نفس الكسب والاستقلال نفس التأثير، وكان المعنى فأنى لمقهور أن يؤثر ...إلخ، لزم أن هؤلاء -أعني الاستاذ والإمامين- قائلون بالاستقلال، لكن عبارات المعترض قد أشعرت في مواضع من كتابه هذا وغيره بأن القائل بالاستقلال قائل بضرب من الشرك المنافي للتوحيد، بناء منه على أن التوحيد بحصر الخالقية لله تعالى كحصر وجوب الوجود، وميلا منه إلى عدم الفرق بين صفة الفعل وصفة الذات، وهي من خرافاته، وقد صرح بهذا في أول كتاب التوحيد وغيره من المواضع الآتية إن شاء الله تعالى، وقد دلت عبارته أيضا في مواضع على أن معنى الخالقية هو معنى التأثير بعينه، فقد رمى هؤلاء الجهابذة بما لا يسوغ له أصلا، وكذا قد تناول رميه للقاضي أبا بكر الباقلاني فإنه قائل بنوع من التأثيركتأثير العبد في صفة الفعل بزعمه، وكذلك قد تناول هذا الرمي منه الإمام الغزالي ، فإنه قد نقل عنه بعض أصحابنا أنه يقول بمثل مذهب الإمامين، وممن نقل عنه ذلك صاحب الغايات قدس الله روحه في الجنة خلافا لما حكاه عنه سعد الدين في شرح المقاصد، وأيضا فلا يصح تفسير عدم الاستقلال المذكور بالكسب نظرا إلى أن المعنى نفي الاستقلال بالفعل الذي هو الكسب؛ لأنه -أي الكسب- عبارة عن حلول الفعل في العبد بخلق الله تعالى مع قدرة وإرادة للعبد مقارنتين غير مؤثرتين، وعلى هذا فالكسب عبارة عن المجموع الاعتباري، وقد صرحوا بمثل ذلك فيها، وأن المعنى هكذا: فأنى لمقهور إحداث ما يشاء من أفعاله بدون أن يكون سببا لها أي أن الكسب قيد الإحداث كعدم الاستقلال، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الإحداث معناه الكسب أو معناه التأثير والإيجاد، وإن كان الأول لزم أن يكون الشيء قيدا لنفسه، ويلزم إيجاد القيد والمقيد وهو محال باعتراف المعترض في مطلع جوده، وإن كان الثاني لزم ما مر، ويلزم أن العبد موثر وكاسب وموجد لأفعاله وكاسب لها، وهذا مع أنهم لا يقولون...محال عند الحقيقة، فتأمل، فلو قالوا: أن معنى كونه محدثا غير مستقل هو كونه فاعلا غير مستقل لا كونه موجد للفعل غير مستقل، وهم مصرحون بأن معنى كونه فاعلا هو معنى كونه كاسبا، فيقولون أن الفاعل اسم للكاسب ولا يتعرضون في معنى الفعل لنفي الاستقلال بل العبد عندهم فاعل مستقل بهذا الاعتبار قيلزم التناقض لكلامهم أذ يجعلون العبد تارة فاعلا غير مستقل ، وتارة مستقلا، وأيضا فإن كان المعنى هو كونه فاعلا وقد عرفت أن معنى كونه فاعلا عندهم هو كونه كاسبا لزم أن يكون معناه كونه محلا للفعل حال كونه قادر عليه قدرة غير مؤثرة، وهذا مع فساده لا يصلح لتفسيره بالاستقلال؛ لأنه يستلزم أن العبد لا يكون كاسبا مستقلا لما عرفت من إيجاد معنى الفاعل والكاسب عندهم، وحينئذ فذلك الكسب الذي لا دخل له فيه أعني الجزء الذي خرج عن فعله وكسبه، وكان سببا لعدم استقلاله إن كان له فيه كسب آخر لزم التسلسل في الكسب، وإن لم يكن بكسبه كما هو الذي ينبغي لتصحيح عدم الاستقلال، فالجبر المحض لازم ويلزم أيضا أن يكون الله تعالى كاسبا لجزء وهو محال قطعا وإجماعا، وإنما قلنا: أن هذا التقدير فاسد من أصله حيث قلنا: وهذا مع فساده... إلخ؛ لأنه يستلزم أن مطالبة العبد بأن يكون فاعلا مطالبة له بأن يكون كاسبا مطالبة له بذلك المعنى الذي هو المجموع الاعتباري -أي أنه بكون العبد مطالبا- بأن يتحقق منه ذلك المجموع الاعتباري الذي ذكرناه والمطالبة له لذلك يستلزم المطالبة بأن يكون قادرا قدرة غير مؤثرة وهذا من الفساد على جانب لا يخفى على مميز.
ومن المناقضات الذي وقع فيها المعترض أنه قال فيما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام على الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل وغيره وفيه: ((لو أنفقت مثل أحد ذهبا...)) الحديث، إن العبد المتوهم أن له قدرة واختيار مستقلا في الاتفاق لا يقبل منه إنفاقه؛ لأنه توهم مالا وجود له في نفس الأمر إلى آخر كلامه الفاسد المفيد أن توهم القدرة والاختيار يقتضي عدم قبول العمل من العبد المتوهم لذلك لكنه قد كرر في مواضع متعدة أن العبد إنما كلف وأمر ونهي لهذا التوهم أعني توهمه أن له قدرة واختيارا مستقلا، فصار محصل كلامه في الموضعين متناقضا؛ لأن أحدهما ناطق بأنه لا يكلف إلا من كان متوهما توهما فاسدا أن له قدرة واختيارا في أفعاله التي كلف بها.
Halaman 95