مقدمة ابن هبيرة لكتابه "الإفصاح"
بسم الله الرحمن الرحيم (صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه):
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آل محمد الطاهرين؛ ورضي الله عنه الصحابة والتابعين.
أما بعد:
فإني كنت شديد العزم إلى رواية كتاب يشتمل على أحاديث رسول الله ﷺ المشهود لها بالصحة من علماء الأحاديث، وأن نذكر فقه الحديث أيضا في ذلك الكتاب ولاسيما [ما عدا] ما قد فرغ العلماء منه: كالطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والبيوع، والرهن، والإجازة؛ وغير ذلك من أبواب الفقه التي يشير الناس إليها، مما استقرت فيه المذاهب، وانتهت إليه الأمور؛ بل فيما عدا ذلك؛ لأنه قد تشتمل الأحاديث على الأمور المهمة والشؤون اللازمة في الدين، وفيما يرجع إلى العبادات والإخلاص فيها والآداب لها، وغير ذلك من أعمال الآخرة وتزكية النفوس؛ فجعلت أتتبع الكتاب المسطورة في هذا، وأرى كلا من العلماء قد أتى بغرض قصده وأوفض إليه، إلا أنه لم أجد في ذلك كتابا حاويا لما كانت تتطلع إليه نفسي حتى أتيت بكتاب
1 / 39
(التمهيد) لابن عبد البر الأندلسي ﵀؛ فرأيت كتابا نفيسا، إلا أنه اقتصر فيه على الأحاديث المروية في الموطأ عن مالك ﵁، على أنه في بعض الأماكن لم يستقص كل ما في نفسي، وفي بعض الأماكن أفرط شيئا وأكثر على شرح خلاف الفقهاء المفروغ منه.
ثم إني رأيت إجماع المسلمين على الكتابين الصحيحين اللذين انتدب لتخريجهما الإمامان الكبيران: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري، وأن الأمة تلقت ذلك بالقبول، وأنه لا كتاب في الحديث على الإطلاق يفضل عليهما، فرأيت أن أجعلهما مستندا لما أقصده مما ذكرته. وكان قد انتدب (٢/ ب) أبو عبد الله محمد بن أبي نصر
1 / 40
الحميدي ﵀، للجمع بين هذين الكتابين في كتاب سماه (الجمع بين الصحيحين) أحسن في تألفه، وربته على أسماء الرجال. وكنت قد سمعته على الشيخ أبي الحسن علي بن محمد الهروي في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بالدور عن الحميدي المصنف ﵀، سماعا له منه في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وقد ذكر الحميدي إسناده في هذين الصحيحين في آخر الكتاب، فقال: (فأما إسنادنا في هذين الكتابين، فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري بالمغرب عن غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن البخاري، ثم قرأته بمكة- أعزها الله تعالى- على المرأة الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير
1 / 41
مرة لعلو إسنادها فيه؛ كما قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم محمد بن المكي بن محمد بن زراع الكشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر بن إبراهيم الفربري عن البخاري رحمة الله عليه.
وأما كتاب مسلم فسمعناه بالفسطاط قراءة على الشيخ الصالح أبي عبد الله بن الفرج بن عبد الولي الأنصاري، وهو روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي، سمعه منه بمكة سنة ست وأربعمائة، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي، قال: حدثنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، قال:
1 / 42
سمعته من الإمام مسلم بن الحجاج. على أننا لم نغفل النظر في كتاب كريمة لروايتنا ذلك عنها، ولا في كتاب أبي ذر الهروي لسماعنا ذلك عنه من أبي مروان عبد الملك بن سليمان الخولاني، وأبي الفتح أصبغ بن راشد بن أصبغ اللخمي عنه، وفيما أخبرونا به عن البرقاني، وفي (٣/ أ) نسخة مسلم المقروءة على شيخنا أبي عبد الله بن الفرج الأنصاري، وأمعنا النظر في ذلك في كل نسخة وجدناها من النسخ في ذلك كله، وأثبتنا منها ما رأينا أنه ينتفع الناظر فيه، ولا توفيق إلا بالله ﷿!! هذا آخر ما ذكره الحميدي من الإسناد. قال يحيى بن محمد: وقد حدثنا الصالح أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي الهروي ﵀ بجميع كتاب الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله البخاري ﵁ من أوله إلى خاتمته؛ قراءة عليه. ونحن نسمع ببغداد في مجالس آخرها يوم السبت التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
1 / 43
قيل له: أخبركم الشيخ أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهيل بن الحكم الداودي قراءة عليه، وأنت تسمع في شوال وذي القعدة من سنة خمس وستين وأربعمائة؟ فأقر به. وقال: نعم، مرارا.
قال حدثنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه بن أحمد بن يوسف بن أعين السرخسي قراءة عليه، وأنا أسمع في صفر، سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري قراءة عليه وأنا أسمع بفربر سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي البخاري ﵁، فذكر الكتاب.
وسماع الفربري لهذا الكتاب من البخاري مرتين: مرة بفربر في سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرة ببخاري في سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
وهذا الكتاب رزقناه بحمد الله سبحانه من هذا الطريق عاليا، وهو من أحسن الطرق مع علوه؛ فإن الحميدي قد قرأه على كريمة مغتنما لعلوها فيه، وكأننا سمعنا من الحميدي وممن قبله من الأشياخ: كأبي بكر الخطيب،
1 / 44
والشريف أبي الحسين (٣/ ب) بن المهتدي وتشافهنا به، وقد توفيا، أعني الخطيب وابن المهتدي، بعد الستين والأربعمائة جميعا، الخطيب سنة ثلاث وستين، وابن المهتدي سنة خمس وستين، إذ شيخنا مساوٍ لهما في الرواية.
وأما كتاب مسلم فأنبأ الشريف الزاهد: أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباسي المكي قراءة عليه، ونحن نسمع في مجالس آخرها في شعبان من سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة من أوله إلى أثناء كتاب الصلاة إلى الحديث الذي هو عن سهل بن سعد الساعدي أنه كان بين مصلى رسول الله ﷺ وبين الجدار ممر الشاة: إلى هنا انتهى السماع منه. وأخبرنا بباقي الكتاب إجازة، قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن علي الطبري قراءة عليه، وأنا أسمع بمكة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة قال حدثنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي قراءة عليه وأنا أسمع قال حدثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قراءة عليه وأنا أسمع قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان قال: سمعت مسلم بن الحجاج أبا الحسين الإمام، فذكر الكتاب.
1 / 45
وأخبرنا بكتاب مسلم الصحيح أيضا، الشيخ الفقيه أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سهل الأنصاري ﵀ مناولة لي من يده إلى يدي سنة خمس وعشرين وخمسمائة مجيزا لي بإسناده، قال:؛ حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد صباغ الأصبهاني ثم النيسابوري بقراءاتي عليه بأصبهان في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وتسعين وأربعمائة من أول الكتاب إلى آخر الجزء الخامس والعشرين من أجزاء الأصل إلى حديث النبي ﷺ أنه كان يقول: (اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض) آخر باب ما كان النبي ﷺ يقول يوم أحد: (كذا في الأصل يوم أحد).
قال شيخنا سعد الخير الأنصاري ومن هنا إلى آخر الكتاب حدثنا به (٤/ أ) أبو الحسن المذكورة إجازة، قال: حدثنا أبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي بقراءة حسين بن أحمد السمرقندي في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة.
قال: حدثنا أبو أحمد الجلودي، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، قال: سمعت الإمام أبا الحسين مسلم بن الحجاج يقول، فذكر الكتاب.
وقد أخبرتنا الشيخة فاطمة أم الخير بنت علي بن الحسين العجلانية في كتابها من نيسابور قالت: إن أبا الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر
1 / 46
الفارسي أخبرها قراءة عليه وهي تسمع في سنة كذا فرأيت أن استقرئ الأحاديث من كتاب الحميدي إذ أراحني ﵀ بتعبه وفرغني بدأبه، وبالله التوفيق.
1 / 47
صفحة فارغة
1 / 48
١
مسند أبي بكر الصديق ﵁
واسمه عبد الله بن عثمان.
أخرج له في الصحيحين ثمانية عشر حديثا.
المتفق عليه منها ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بواحد.
- ١ -
الحديث الأول: (مما اتفق البخاري ومسلم عليه):
[عن عبد الله بن عمر بن العاص أن أبا بكر قال لرسول الله ﷺ علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)].
1 / 49
في هذا الحديث من الفقه:
* أن الدعاء في الصلاة جائز؛ لقول أبي بكر ﵁: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ ولم ينكر عليه.
* وفيه أيضا أنه لا يدعى في الصلاة إلا بما ورد في الأخبار، لأن أبا بكر ﵁ لم يستجز أن يدعو في الصلاة إلا بما يتلقنه من رسول الله ﷺ، فأما غير الصلاة فيدعو فيها بما يشاء.
* وفيه من الفقه أيضا أن الدعاء على الإطلاق ينبغي أن (٤/ ب) يتوخى به النطق المأثور عن رسول الله ﷺ، وأن لا تواجه عظمة الرب سبحانه إلا بالآداب النبوية المؤيدة بالعصمة.
* وفيه أيضا من الفقه أنه قال: (قل اللهم) وهذا الاسم، هو الاسم الأعظم من حيث إنه الأشهر والأظهر، ولذلك يقال: السواد الأعظم، أي الأشهر والأظهر، ولهذا الاسم خصائص منها لحوق هذه الميم في النداء به، وليس في الأسماء كلها ما تلحقه هذه الميم في النداء غيره.
* وفي العربية أنه عوض من حرف النداء، إلا أنه قد جاء في الشعر الجمع بينها وبين حرف النداء للضرورة. ومن خصائصه أيضا لحوق ياء القسم به، وأنه المراد بقوله ﴿الله نور السموات والأرض﴾ أي هذا الاسم هو قولنا (الله نور السموات والأرض)، فله يتراحم المتراحمون، وبخوفه يكف الظالمون، ويهدد المسرفون، ويأمل الخلف المتصدقون.
وقوله: (إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فيه من الفقه:
* أن رسول الله ﷺ أصل له هذا الحديث تأصيلا عاما شاملا لكل دعاء، وبيان
1 / 50
ذلك أن الطلب من الله ﷾ يناسبه ويلائمة الافتقار إليه، والحاجة والمسكنة، كما يباينه وينافيه الإدلال والتغاني في الركون إلى نوع عبادة أو طاعة؛ فإذا اعترف الطالب لله ﷿ بأنه قد أتى ما مقتضاه الفقر والحاجة إلى فضله وعفوه، استهدف لعطائه ونزول شابيب رحمته.
وقال له: قل (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم).
يعني ﷺ: أنك إذا تطهرت من ظلم نفسك، وغفر لك ورحمك، كانت هذه مقدمات بين يدي طلبك، فحسن حينئذ منك الطلب، ولم يصادف العطاء حاجزا من ظلم يمنع نيل العهد الذي ذكره سبحانه في قوله (٥/ أ): ﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾ ولا ذنب لم يمح بعد فيكون الاشتغال بمحوه عند المؤمن أهم من الطلب لغيره، فكأنه ﷺ يقول له: فإذا دعوت بهذا الدعاء انتحت الحواجز بينك وبين العطاء، فاطلب حينئذ ما شئت، وادع بما أردت.
* ثم فيه أيضا أنه قال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا) فجاء بذكر الظلم على نطق النكرة، ولم يعرفه بالألف واللام، فكان ينصرف إلى الظلم الذي هو الشرك، فلما أسند المغفرة إلى الله ﷿ قال: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فجمعها بالألف واللام فقال: (الذنوب) والمراد بها الذنوب المعروفة المشهورة. ثم قوله: (فاغفر لي مغفرة من عندك) المعنى أنها لا تكون بسبب من عندي فتفنى وتنقضي؛ لأنه كل ما يكون مطلعه من فان فإنه يفنى ويضمحل، إنما المراد أن تكون المغفرة من الله الباقي فتبقى. ثم قال بعد ذلك (وارحمني) إذ الغفر في وضع اللغة: الستر والتغطية، فقد يغطى الشيء ولا تعقبه الرحمة، وقد يستر الأمر ولا يمحوه الصفح. فلما قال: فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، كان طلبا لمحو السيئة وتطييب أثرها.
1 / 51
* ثم قال: (إنك أنت الغفور الرحيم) فقوله (إنك) الكاف في خطاب الله تعالى والتاء أيضا في أماكن إسناد النعم إليه: ﴿صراط الذين أنعمت عليهم﴾، فلما جاء إلى ذكر الغضب قال: (غير المغضوب عليهم) وإلى الضلالة قال: (ولا الضالين). وقال: (إنك) بالكاف ثم ألحقها بقوله: (أنت)، وهو عماد عند الكوفيين.
* وفيه فائدة فوق قولنا: (إنك أنت الغفور الرحيم) لأن المعنى بقوله: إنك أنت الغفور الرحيم، أنه تعيين لهذا المعنى، أنه ليس لغيرك، فكأنه قال: لا غفور ولا رحيم على الحقيقة غيرك.
- ٢ -
الحديث الثاني: من المتفق على إخراجه:
[رواه أنس بن مالك، عن أبي بكر الصديق ﵁ قال: (٥/ ب- الصحيفة اليسرى من المخطوطة) نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟].
في هذا الحديث من الفقه:
* إثبات الصحبة لأبي بكر ﵁ في حال شهد رسول الله ﷺ بأنه ليس لهما ثالث إلا الله.
* وفيه أيضا أن أبا بكر ﵁ لما أقلقه الحذر على رسول الله ﷺ قال: (لو
1 / 52
أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا) فلم يكن جواب النبي ﷺ راجعا إلى الاعتضاد بمخلوق ولا الاستغناء ببشر؛ ولكن قال له: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فرده من التعلق بالأسباب المخلوقة إلى خالق الأسباب.#
* وفي هذا الحديث من الفقه أيضا ما يدل على فضيلة أبي بكر ﵁، فإنه لم يقل له إن الله تعالى ثالثنا في هذه الحالة خاصة ولا في الغار خاصة؛ ولكن قال له: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أبدا.
* وفيه أيضا أن الهرب من المخوف مشروع، ولا يكون ذلك نقصا في إيمان المؤمن، وعلى هذا يحمل هرب موسى ﵇ من العصا حين انقلبت حية، وتوليه منها هاربا، وليس كما يقول بعض الناس إن ذلك من البشرية، ولكن موسى ﵇ لم ير أن يترك الشرع في ذلك المقام بين يدي الله ﷿ فهرب من المخوف شرعا.
والدليل على ذلك أنه لما قال له سبحانه: ﴿خذها ولا تخف﴾ انقلب الشرع في حقه حينئذ إلى أن لا تخاف منها. ولذلك جاء في الحديث أنه أدخل يده في فيها، فتواري رسول الله ﷺ وأبي بكر ﵁ في الغار دليل على أن الهرب من المخوف مشروع، وأن فعله ﷺ سنة وشريعة.
* وفيه أيضا (٦/ أ) تذكير بنعمة الله ﷿ لأنه بقي بما يشاء إذ جعل في ذلك الوقت السد بين نبيه ﷺ وصاحبه نعال المشركين بتشبيث أقدامهم فقال له: (لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا) فجعل السد الحائل منع أحدهم أن ينظر إلى قدمه.
وذكر ابن جرير في هذا الحديث أن قوله: (لوأن أحدهم نظر إلى قدميه
1 / 53
أبصرنا) قال: فيه إباحة قول الرجل: (لو كان كذا لكن كذا) إن لم يرد به أن يكون قطعا شاء الله ذلك أو لم يشأ.
كقولهم: لو أمطرت السماء لأعشبت الأرض.
ويؤكد قول ابن جرير: قوله تعالى: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا﴾، وقوله: ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾.
- ٣ -
الحديث الثالث: (حديث الرحل):
(عن البراء بن عازب قال: جاء أبو بكر ﵁ إلى أبي في منزلة فاشترى منه رحلا، فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي، فقال أبي: احمله، فحملته.
وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال له أبي: يا أبا بكر! كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله ﷺ؟
قال: نعم؛ أسرينا ليلتنا كلها، حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق
1 / 54
فلا يمر فيه أحد، حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا، ينام فيه رسول الله ﷺ في ظلها. ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله! وأنا أنفضلك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فلقيته، فقلت: لمن أنت يا غلام؟
قال: لرجل من أهل المدينة.
فقلت: أفي غنمك لبن؟
قال: نعم.
قلت: أفتحلب لي؟
قال: نعم، فأخذ شاة، فقلت له: انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى.
قال: (فرأيت البراء يضرب بيده على الأخرى ينفض)، فحلب لي في فعب معه (٦/ ب) كثبة من لبن.
قال: ومعي إداوة أرتوي فيها للنبي ﷺ ليشرب منها ويتوضأ.
قال: فأتيت النبي ﷺ فكرهت أن أوقظه من نومه؛ فوقفت حتى استيقظ. (وفي رواية: فوافقته حين استيقظ). فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله.
فقلت: يا رسول الله: اشرب اللبن. فشرب حتى رضيت.
ثم قال لي: (ألم يأن للرحيل؟).
قلت: بلى.
قال: فارتحلنا بعدما زالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، ونحن في جلد من الأرض.
فقلت: يا رسول الله، أتينا .. فقال ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾، فدعا عليه رسول الله ﷺ، فارتطمت فرسه إلى بطنها- أرى-.
1 / 55
فقال: إني علمت أنكما دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أراد عنكما الطلب.
فدعا رسول الله ﷺ الله فنجا.
فرجع لا يلقى أحدا إلا أن يقول: قد كفيتم ما ههنا .. ولا يلقى أحدا إلى رده، ووفى لنا.
وفي رواية: أن سراقة قال: وهذه كنانتي، فخذ سهما منها، فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا، فخذ منها حاجتك.
فقال: (لا حاجة لي في إبلك).
فقدمنا المدينة ليلا، فتنازعوا؛ أيهم ينزل عليه؟!
فقال: (أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك).
فصعد الرجال والنساء فوق البيوت، وتفرق الغلمان والخدم في الطرق. ينادون: يا محمد، يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله.
وفي رواية: جاء محمد، جاء رسول الله.
وفي رواية قال البراء: فدخلت مع أبي بكر على أهله، فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمى، فرأيت أباها يقبل خدها .. وقال: كيف أنت يا بنية؟
وفي رواية البراء: قال أبو بكر لما خرج مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة: (مررنا براع، وقد عطش رسول الله ﷺ (٧/ ب)، قال أبو بكر الصديق: فأخذت قدحا فحلبت فيه لرسول الله ﷺ كثبة من لبن فأتيته بها فشرب حتى رضيت].
رواية البراء بن عازب- والبراء: آخر ليلة في الشهر، ويسمى البراء من ذلك، وعازب: هو المسافر عن وطنه، وأكثر ما يستعمل في الدعاء.
1 / 56
وقوله: (ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منزلي) فيه من الفقه:
* أنه قد يكلف الإنسان صديقه وصاحبه أن يحمل رحله ومتاعه.
* وفيه جواز استخدام الأطفال. وقد روي عن عائشة ﵂ أنها كانت تبعث إلى المكاتب، فتؤتى منها بالصبيان فترسلهم في حوائجها.
وقوله: (وخرج أبي معه ينتقد ثمنه) فيه من الفقه:
* أن المؤمن يحمله إيمانه أن لا يأخذ في ثمن مبيع إلا ما يعرفه ويتحققه من النقود، لأنه لو أخذ في النقد ما لا يعرفه أو يتسامح هو بأخذه لكان بالضرورة يحتاج إلى أن يصرفه على مسلم آخر، وإذا لم يأخذ إلا الطيب لم يكن مضطرا أن يصرف على مسلم إلا الطيب.
ويجوز أن يكون معنى ينتقده يتعجله.
وأيضا فقد يخلط الرديء من المال في ماله فربما قال له الشيطان: (إن ذلك من مال أبي بكر فانتقده) ليزيل مثل هذا الشك.
وقوله: (فقال: كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله ﷺ؟ فقال: نعم، أسرينا ليلتنا).
* ففي هذا الكلام من الفائدة: أن سريت وأسريت لغتان، فلما نطق عازب بإحداهما أجابه أبو بكر ﵁ باللغة الأخرى ليكون هذا الحديث مفيدا لتعليم هاتين اللغتين ما بلغ. وفي هذا من التنبيه للعالم من كل نوع من العلم إذا عرض له مثله أن يتوخى ما توخى أبو بكر الصديق ﵁.
* والسرى: هو السير ليلا. وقول الله ﷿: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا﴾ مع أن (٧/ ب) السرى لا يكون إلا بالليل؛ فيه تنبيه على أنه
1 / 57
أسري به في بعض ليلة، لأنه لو قال: أسرى بعبده، ولم يقل ليلا، انصرف إلى الليل كله ويوضح هذا قوله: أسرينا ليلتنا يعني كلها.
ثم قال: (حتى إذا قام قائم الظهيرة)؛ وقائم الظهيرة: شدة الحر- (وخلا الطريق)؛ والطريق يذكر ويؤنث- ومثلها السبيل.
وقوله: (رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد):
* فقوله: رفعت لنا، أي نظرناها من بعيد، وكذا كل سائر في الأرض يرفع له الأشخاص كلما دنا منها.
وقوله: لم تأت عليه الشمس بعد، فهذا احتراز في النطق؛ لأنه صديق فلا يقول إلا ما يخرج عن الاحتمال، إذ لو قال لم تأت عليه الشمس وأمسك، لكان يفترض أن تقول: قد أتت الشمس أمس. وفي هذا من الفقه:
* أن الجلوس في الظل خير من الجلوس في الشمس إلا لمن يريد الدفء فيكون ذلك كقوله: ﴿فسقى لهما ثم تولى إلى الظل﴾؛ وذلك أن الظل يستدعي الراحة والنوم، والنوم قد يكون في وقت عبادة لله ﷿ إذا أراد به العبد أن ترد قواه التي يعبد بها ربه ﷾، وليتعرض للرؤيا الصالحة التي هي بشرى من الله تعالى في النوم، ولقاء إخوانه المؤمنين.
وقوله: (فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا)، فيه من الفقه:
* أن المؤمن قد يسوي تحته ليعدل ما يماس جلده؛ لئلا يزعجه الحصى ويمنعه من النوم.
* وقوله (ثم بسطت عليه فروة)، وهذا يدل على أن تليين المضجع وتوثيره غير
1 / 58