المقالة الأولى
الفصل الأول في
خواص مصر العامة
إنَّ أرض مصر من البلاد العجيبة الآثار، الغريبة الأخبار، وهي وادٍ يكتنفه جبلان شرقيّ وغربيّ، والشرقيّ أعظمهما يبتديان من أسوان ويتقاربان بأسنا حتى يكادا يتماسان، ثم ينفرجان قليلا قليلا، وكلّما امتدّا طولا انفرجا عَرضًا، حتى إذا حاذيا الفسطاط كان بينهما مسافة يوم فما دونه، ثم يتباعدان أكثر من ذلك والنيلُ ينسابُ بينهما ويتشعَّب بأسافل الأرض وجميعُ شُعَبه تصبُّ في البحر المالح،
وهذا النيل له خاصتان: الأولى، بُعد مرماه، فإنّا لا نعلم في المعمورة نهرًا أبعد مسافةً منه، لأنّ مباديه عيونٌ تأتي من جبل القمر وزعموا أن هذا الجبل وراء خط الاستواء بإحدى عشرة درجة، وعرض أسوان وهي مبدأ أرض مصر اثنتان وعشرون درجة ونصف درجة، وعرض دمياط وهي أقصى أرض مصر إحدى وثلاثون درجة وثلث درجة، فتكون مسافة النيل على خط مستقيمٍ ثلاثًا وأربعين درجة تنقص سُدسا ومساحة ذلك تقريبا تسعمائة فرسخ، هذا سِوى ما يأخذ من التعريج والتوريب فإن اعتُبر ذلك تضاعفت المساحة جدًا.
والخاصة الثانية، أنه يزيد عند نضوب سائر الأنهار ونشيش المياه، لأنه يبتدئ بالزيادة عند انتهاء طول النهار وتتناهى زيادته عند الاعتدال الخريفي، وحينئذ تُفتح التُّرع وتفيضُ على الأراضي، وعلَّة ذلك أنَّ موادَّ زيادته أمطار غزيرةٌ دائمةٌ وسيولٌ متواصلةٌ تمدُّه في هذا الأوان، فأنَّ أمطار الإقليم الأول والثاني إنّما تغزُر في الصيف والقيظ.
وأما أرض مصر فلها أيضا خواصٌّ منها، أنه لا يقع بها مطر إلّا ما لا احتفال به وخصوصا صعيدها، فأمّا أسافلها فقد يقع بها مطرٌ جود لكنه لا يفي بحاجة
الزراعة، وأمّا دمياط والاسكندرية وما داناهما فهي غزيرةُ المطر ومنه يشربون وليس بأرض مصر عينٌ ولا نهرٌ سوى نيلها.
1 / 5
ومنها أن أرضها رمليةٌ لا تصلُح للزراعة، لكنه يأتيها طين أسود عَلك فيه دسومةٌ كثيرةٌ يسمّى الإبليز، يأتيها من بلاد السودان مختلطًا بماء النيل عند مدّه فيستقر الطين وينضب الماء فيُحرث ويزرع، وكلّ سنةٍ يأتيها طينٌ جديد، ولهذا يزرع جميع أراضيها ولا يُراح شيءٌ منها كما يُفعل في العراق والشام، لكنها يخالف عليها الأصناف، وقد لحظت العرب ذلك فأنها تقول: إذا كثرت الرياح جادت الحراثة، لأنها تجيء بترابٍ غريب، وتقول أيضا: إذا كثُرت المؤتفكات زكا الزرع، ولهذه العلة تكون أرضُ الصعيد زكية كثيرة الأتاء والرَّيع إذا كانت أقرب إلى المبدأ، فيحصل فيها من هذا الطين مقدار كثير بخلاف أسفل الأرض، فإنها أسافة مضوية إذا كانت رقيقة ضعيفة الطين، لأنه يأتيها الماء وقد راق وصفا، ولا أعرف شبيها بذلك إلّا ما حُكي لي عن بعض جبال الإقليم الأول، أن الرياح تأتيه وقت الزراعة بتراب كثير، ثم يقع عليه المطر فيتلبَّدُ فيُحرث ويُزرع، فإذا حصد، جاءته رياح أخرى فنسفته حتى يعود أجود كما كان أوّلًا، ومنها أن الفصول بها متغيِّرةٌ عن طبيعتها التي لها فإنَّ أخصَّ الأوقاتِ باليُبس في سائر البلاد، أعني الصيف والخريف تكثر فيه الرطوبة بمصر بمدِّ نيلها وفيضِه لأنّه يمد في الصيف ويطبق الأرض في الخريف.
فأمّا سائر البلاد فأنّ مياهها تنشُّ في هذا الأوان، وتغزرُ في أخصِّ الأوقات بالرطوبة - أعني الشتاء والربيع - ومصر إذ ذاكَ تكونُ في غاية القحولة واليُبس ولهذه العلة تكثر عفونتها واختلافُ هوائها وتغلُب على أهلها الأمراضُ العفنيّة الحادثة عن أخلاطٍ صفراويةٍ وبلغميّة، وقلّما تجدُ فيهم أمراضا صفراوية خالصة، بل الغالب عليهم البلغم حتّى في الشباب والمحرورين، وكثيرا ما يكون مع الصفر
أخام، وأكثر أمراضهم في آخر الخريف وأول الشتاء لكنها يغلبُ عليها حميد العاقبة، وتقلُّ فيهم الأمراض الحادة والدموية الوحية، وأما أصحّاؤُهم فيغلبُ عليهم الترهُّل والكسل وشحوب اللون وكمودته، وقلَّما ترى فيهم مشبوبَ اللونِ ظاهر الدَّم، وأما صِبيانُهم فضاوون يغلب عليهم الدَّمامةُ وقلَّة النضارة وإنّما تحدثُ لهم البدانةُ والقسامة غالبا بعد العشرين.
وأما ذكاؤهم وتوقُّدُ أذهانهم وخفَّة حركاتهم، فلحرارة بلدِهم الذاتية لأنَّ رطوبته عرضية، ولهذا كان أهل الصعيد أفحل جسومًا وأجفُّ أمزجة، والغالب عليهم السمرة وكان ساكنو الفسطاط إلى دمياط أرطب أبدانًا، والغالب عليهم البياض،
1 / 6
ولمّا رأى قدماءُ المصريين أنّ عمارة أرضهم إنّما هي بنيلِها، جعلوا أوّل سنتهم أولّ الخريف وذلك عند بلوغ النيل الغاية القصوى من الزيادة.
ومنها أن الصَّبا محجوبة عنهم بجبلها الشرقي المسمَّى المقطَّم، فإنَّه يستر عنها هذه الريح الفاضلة وقلّما تهبُّ عليهم خالصةً اللهمَّ إلّا نكبًا، ولهذا اختار قدماء المصريين أن يجعلوا مستقر الملك منَف ونحوها مما يبعد عن هذا الجبل الشرقي إلى الغربي واختار الروم الإسكندرية وتجنَّبوا موضع الفسطاط، لقربه من المقطَّم فإنَّ الجبل يسترُ عما في لِحْفِه أكثر ممَّا يستر عما بعُدَ منه، ثم إنَّ الشمس يتأخَّر طلوعها عليهم فيقلّ في هوائهم النضجُ ويبقى زمانا على نهوة الليل، ولذلك تجد المواضعَ المنكشفة للصَّبا من أرض مصر أحسن حالًا من غيرها ولكثرَة رطوبتها يتسارع العفنُ إليها، ويكثرُ فيها الفأرُ ويتولَّد من الطين والعقارب وتكثر بقوص كثيرًا ما تقتل بلبسها والبقُّ المنتنُ والذبابُ والبراغيثُ تدوم زمانًا طويلا.
ومنها أن الجنوب إذا هبَّت عندهم في الشتاء والربيع وفيما بعد ذلك، كانت باردة جداَ ويسمونها المريسي لمرورها على أرض المريس وهي من بلاد السودان، وسبب بردها، مرورها على بِرَكٍ ونقائع، والدليل على صحّة ذلك أنّها إذا دامت
أيّاما متوالية، عادت إلى حرارتها الطبيعية وأسخنت الهواء وأحدثت فيه يَبسًا.
الفصل الثاني
فيما تختص به من النبات
من ذلك البامية وهي ثمر بقدر إبهام اليد كأنَّه جرأ القثاء شديد الخضرة، إلّا أن عليه زيبر مشوكًا وهو مخمَّس الشكل، يحيط به خمسة أضلاع فإذا شق أنشقَّ عن خمسةِ أبياتٍ بينها حواجز، وفي تلك الأبيات حبٌّ مصطفٌّ مستديرٌ أبيض، أصفر من اللوبيا هشٌّ يضرِبُ إلى الحلاوة وفيه قبضٌ ولعابية كثيرةٌ يَطبخُ أهل مصر به اللّحم بأن يقطَّع مع قشوره صغارا ويكونُ طعامًا لا بأس به، الغالب على طبعه الحرارة والرطوبة، ولا يظهر في طبيخه قبضٌ بل لزوجة.
ومن ذلك الملوخية ويسمِّيها الأطباء الملوكية، ولعمري هي الخبازى البستاني، والخطمي أيضا نوع من الخبَّازى البري، والملوخية أشدُّ مائيَّة ورطوبةً من الخبَّازى وهي باردة
1 / 7
رطبةٌ في الأولى تزرع في الباقل ويُطبخ لها اللحم، وهي كثيرة اللعابية وتزرع أيضا بالشام قليلا ويُطبخ بها عندهم في الندرة وهي ردية للمعدة، لكنها تسكنُ الحرارةُ وتبرد ويسرع انحدارها لتزلُّقها، قال الإسرائيلي: رأيت نوعا ثالثا من الخبّازى يسمى بمصر ملوخية السودان، ويعرف بالعراق بالشوشنديبا وقوته وفعله وسطٌ بين الملوخية والخبّازى، لأنه أقل غذاء من الملوخية وأكثر من الخبّازى،
ومن ذلك اللّبخ وشجرته - كالسدرة - ريّا نضرة وثمرته بقدر الخلال الكبار وفي لونه، إلّا أنه مشبع الخضرة كلون المسن، وما دام فجّا ففيه قبضٌ كما في البلح فإذا نضج طاب وحلا وعادت فيه لزوجته، ونواته كنواة الأجاص أو كقلب اللوزة بيضاء إلى الغبرة وتكسر بسهولة، فتنفلِق عن لوزةٍ ريّا بيضاء لينة وإذا بقيت
ثلاثة أيام ضمرت وصلبت، وكلّما تطاول عليها الزمن اضمحلَّ اللُّب وبقيَ القشرُ فارغًا أو كالفارغ، غيرَ أنه لا يتشنّج بل يتقلقلُ اللّب فيه لسعة المكان عليه، وتجد في طعم اللّبِّ مرارة ظاهرةً ولذعًا يبقى أثره في اللسان مدّة، وقد حُدِّثتُ على أنه أحد ضروب الدند الثلاثة، فقد قال أرسطو وغيره أن اللّبخ كان بفارس سُمّا قاتلًا فنُقل إلى مصر فصار غذاء، وقال نيقولاوس: وأما اللّبخ فقد كان في أرض فارس قاتلًا فنُقل إلى الشام وإلى مصر فصار جيّدًا مأكولًا وهو قليلٌ غالٍ، وإنّما تكون في البلاد منه شجرات معدودات، وأما خشبه ففي غاية الجودة صلبٌ حجريٌ وأسود وهو عزيز ثمين، وأهل مصر يحضرون اللّبخ من الفواكه والأنقال - وقال أبو حنيفة الدينوري: اللّبخ شجرة عظيمة مثل الأثاب إذا عظُم، وورقها كورق الجوز ولها جنى كجنى الحماط مرٌّ إذا أُكل أعطشَ وإذا شُرب عليه الماء نفخ البطن، وهو من شجر الجبال، ثم روى عن رجل من صعيد مصر أن اللّبخ شجرٌ عظام أمثال الدلب، له ثمر أخضر يشبه الثمر حلو جدّا، إلّا أنه كريهٌ جيِّدٌ لوجع الأضراس، قال: وإذا نشر أرعف ناشره ويُنشر فيبلغ ثمن اللّوح خمسين دينارًا ويجعله أصحاب المراكبِ في بناء السفن لبعض العلل، وزعم أنه إذا ضُمَّ منه لوحان ضمّا شديدا وجعلا في الماء سنة التحما وصارا لوحا واحدا، وأكثر ما حكاهُ الدينوري لا أعرف صحته، وقال ابن سمجون: اللّبخ يكون بمصر وثمرته جيدة للمعِدة وقد يوجد عليه صنفٌ من الرتيلاء وورقه إذا جُفِّف قطعَ الدّم ذرورًا، والإسهال شربا، وفيها قبضٌ بيّن، قال: وأما نوى ثمرِه، فيزعُم أهل مصر أن أكله يُحدث صممًا،
1 / 8
ومن ذلك الجمَّيز وهو بمصر كثيرٌ جدًا ورأيت منه شيئا بعسقلان والساحل، وكأنّه تينٌ برّي وتخرج ثمرته في الخشب لا تحت الورق ويخلِّف في السنة سبعة بطون ويؤكل أربعة أشهر ويَحمل وقرا عظيما وقبل أن يجيء بأيام يصعد رجل إلى
الشجرة معه حديدة يَسِمُ بها حبة حبة من الثمرة فيجري منها لبن أبيض، ثم يسود الموضع وتحلو الثمرة بذلك الفعل، وقد يوجد منه شيء شديد الحلاوة أحلى من التين، لكنه لا ينفعك في أواخر مضغه من طعم خشبية ما، وشجرته كبيرة كشجرة الجوز العاتية ويخرج من ثمره وغصنه إذا فصد لبن أبيض إذا طلي على ثوب أو غيره صبغه أحمر، وخشبه تعمر به المساكن ويتخذ منه الأبواب وغيرها من الآلات الجافية وله بقاء على الدهر وصبر على الماء والشمس، وقلما يتآكل هذا مع أنه خشب خفيف قليل اللّدونة ويُتّخَذ من ثمرته خلٌّ حاذق ونبيذ حاذ.
قال جالينوس: الجمّيز بارد رطب فيما بين التوت والتين وهو رديء للمعدة ولبن شجرته له قوّة ملينِّة تلصق الجراح وتفشِ الأورام ويلطّخ على لسعِ الهوام، ويحلّل حساة الطحال وأوجاع المعدة ضمادا، ويتّخذ منه شراب للسعال المتقادِم ونوازِل الصدر والريه، وعمله بأن يُطبخ في الماء حتى تخرج فيه قوته ويطبخ ذلك الماء مع السكَّر حتى ينعقد ويرفع، وقال أبو حنيفة، ومن أجناس التين تين الجمّيز وهو تين حلو رطب له معاليق طوال ويزبَّب، وضَربٌ آخر من الجمّيز حملة كالتين في الخلقة وورقه أصفر من ورق التين وتينه أصفر صغار وأسود ويكون بالقور ويُسمّى التين الذكر، والأصفر منه حلو والأسود يدمي الفم وليس لتينه علاقةٌ بل لاصقٌ بالعود.
ومن ذلك البلسان، فأنّه لا يوجد اليوم إلّا بمصر بعين شمس في موضع محاط عليه محتفظ به مساحته نحو سبعة أفدنة وارتفاع شجرته نحو ذراع وأكثر من ذلك، وعليها قِشران الأعلى أحمر خفيف والأسفل أخضر ثخين، وإذا مضغ ظهر في الفم منه دهنيته ورائحة عطرة وورقه شبيه بورق السنداب، ويجتني دهنه عند طلوع الشعرى بأن تشدخ السوق بعد ما يحتّ عنها جميع ورقها وشدخها يكون بحجر يتخذ محددا، ويفتقر شدخها إلى صناعة بحيث يقطع القشر الأعلى ويشق
الأسفل لا ينفذ إلى الخشب فإن نفذ إلى الخشب لم يخرج منه شيء، فإذا شدخه كما وصفنا أمهله ريثما يسيل لثاه على العود فيجمعه بإصبعه مسحا إلى قرن فإذا امتلأ صبَّه في قناني زجاج ولا يَزالُ كذلك حتى ينتهي جناهُ وينقطع لثاه، وكلما كثر الندى
1 / 9
في الجو كان لثاه أكثر وأغزر، وفي الجدب وقلة الندى يكون اللثا أنزر ومقدار ما أخرج منه في سنة ست وتسعين وخمسمائة، وهي عام جدب، نيِّف وعشرون رطلا، ثم تؤخذ القناني فتدفن إلى القيظ وحمارة الحرّ وتُخرجُ من الدفن وتجعلُ في الشمس، ثم تتفقد كل يوم فيوجد الدهن وقد طفا فوق رطوبة مائية وأثقال أرضية، فيقطف الدهن ثم يعاد إلى الشمس ولا يزال كذلك يشمِّسها ويقطف دهنها حتى لا يبقى فيها دهن فيؤخذ ذلك الدهن ويطبخه قيّمه في الخُفية لا يُطلع على طبخه أحدًا ثم يرفعه إلى خزانة الملك، ومقدار الدهن الخالص من اللثا بالترويق نحو عشر الجملة، وقال لي بعض أرباب الخبرة أن الذي يحصل من دهنه نحو من عشرين رطلا ورأيت جالينوس يقول: أن أجود دهن البلسان ما كان بأرض فلسطين وأضعفه ما كان بمصر، ونحن فلا نجد اليوم منه بفلسطين شيئا البتة، وقال نيقولاس في كتاب النبات: ومن النبات ما له رائحة طيّبة في بعض أجزائه ومنها ما رائحته الطيبة في جميع أجزائه كالبلسان الذي يكون في الشام بقرب بحر الزفت، والبير التي يُسقى منها تسمَّى بير البلسم وماؤها عذب، وقال ابن سمجون إنّما يوجد في زماننا هذا بمصر فقط، ويستخرج دهنه عند طلوع كلب الجبّار، وهو الشعرى، وذلك في شباط ومقدار ما يخرج ما بين خمسين رطلا إلى ستين ويباع في مكانه بضعفه فضة، وكانت هذه الحال قد كانت في زمن ابن سمجون، وحكى عبد الرازق أن بدله دهن الفجل وهذا بعيد، والبلسان الدهني لا يثمر وإنما تؤخذ منه فسوخ فتغرس في شباط فتعلق وتنمى وإنما الثمر للذكر البرّي ولا دهن له ويكون بنجد وتِهامة وباري العرب وساحل اليمن،
وبأرض فارس ويسمّى البشام ويربّى قِشرُه قبل استخراج دهنه فيكون نافعا من جميع السموم، وأما خواصّه ومنافعه فالأليق بها غير هذا الكتاب.
ومن ذلك القلقاس، وهو أصول بقدر الخيار ومنه صغار كالأصابع يضرب إلى حمرة خفيفة يقشّر ثم يشقّق على مثل السلجم وهو كشف مكتنز يشابه الموز الأخضر الفج في طعمه وفيه قبضٌ يسير مع حرافة قويّة وهذا دليل على حرافته ويبسه، فإذا سُلق زالت حرافته جملة وحدث له مع ما فيه من القبض اليسير لزوجة مغرية كانت فيه بالقوة، إلّا أنّ حرافته كانت تخفيها وتسترها، ولذلك صار غذاؤه غليظا بطيء الهضم ثقيلا في المعدة، إلّا أنه لما فيه من القبض والغلاصة صار مقوِّيًا للمعدة حابسًا للبطن إذا لم يُكثر منه، ولِما فيه من
1 / 10
اللزوجة والتغرية صار نافعًا من سجج المِعا، وقشره أقوى على حبس البطن من جُرمه، لأنّ قبضه أشدّ ويطبخ في السُمَّاقية وغيرها فيعود في المرقة لزوجة يعَافها من لا يعتادها، ولكن إذا سُلق وصبت سلاقته ثم قُلي بالدهن حتى يتورّد فلا بأس به، والغالب على مزاجه الحرارة والرطوبة، ويظهر من حاله أنه مركَّبٌ من جوهرين: جوهر حارٌّ حرِّيف يذهب بالطّبخ، وجوهرٌ أرضيٌ مائيٌّ ينمو بالطبخ، وذلك كما في البصل والثوم وما كان كذلك فهو نيِّئا دوائي ومطبوخًا غذائي وقد رأيته بدمشق لكن قليلا، ورأيته إذا يَبس يرجع خشبيّا كالقسطل سواء، وأما ورقه فورقٌ مستديرٌ واسعٌ على شكل خُفِّ البعير سواء، لكنه أكبر منه ويكون قُطر الورقة ما بين شِبرٍ أو شبرين، أو ورقة قضيبٍ مفردٍ في غلظ الإصبع، وطول شبرين أو أزيد، ونبات كل قضيب من الأصل الذي في الأرض، إذ ليس لهذا النبات ساق ولا ثمر أيضا، وورق القلقاس، شديد الخضرة رقيق القشرة شبيه بورق الموز في خضرته ونعومته ورونقه ونضارته، وقال ديوسقوريدس: إنَّ لهذا النبات زهرًا على لون الورد، فإذا عقد، عقد شيئا شبيها بالحراب كأنّه تفّاحة الماء وفيه باقلي صغير
أصغر من الباقلي اليوناني يعلو موضعه المواضع التي ليس فيها باقلي فمن أراد أن يزرعه قائما، يأخذ ذلك الباقلي ويصيّره في كتل طين ويلقيها في الماء فينبت، ورغم أنه يؤكل طريا ويابسًا، فإنه يُعمل منه دقيق يشرب كالسويق، ويُعمل منه حسو فيقوي المعِدة وينفعُ من الإسهال المريء وسجوج الأمعاء، وأنّ الشيء الأخضر الذي في وسطه المرّ الطعم إذا سُحق وخُلط بدهن وقطِّر في الأذن سكَّن وجعها،
وقال الإسرائيلي: أما نحن فشاهدنا له زهرا، قال: ورأيت أصل هذا النبات إذا خزن في المنازل وجاء وقت نباته تفرّع من الباقلي اللاصق به فروع وأنبت من غير أن يظهر له زهرٌ ولا ثمر، لكن لون الباقلاء نفسها كلون زهر الورد، لأنها حين تبرز وتأخذ في النبات يخرج ما يبرز منها حَسَن البياض يعلوه تورُّد يسير، قال: وما وجدنا له جفافا يمكن معه أن يكون منه سويق ولا رأيناه السَّنةَ كلّها إلّا رطبا مثل بصل النرجس وبصل الزعفران ونحوه، قال: ولم نر وسطه هذا الأخضر الذي ذكره ديوسقوريدس ولا وجدناه السَّنة كلّها إلّا كالموز الأخضر، أقول: كلا، بل الحقّ ما قاله ديوسقوريدس وأنه حتى يقبل السبحق ويمكن أن يتخذ منه السويق وهذا رأيناه عيانا وأنه إذا جفَّ لا فرق بينه وبين
1 / 11
الزنجبيل في المنظر، سوى أن القلقاس أكبر، وتجد في طعمه حدّةً ولذعا، وأقول عن حدس صناعي مبدؤه المشاهدة والسماع أنّ القلقاس زنجبيلٌ مصريٌّ أكسبته الأرض رطوبةً فقلَّت حرارته وحدّته، كما أن الزنجبيل الزِّنجيّ والهنديّ أقوى وأحدّ من اليمنيّ، وأهل اليمن يطبخون به كما يطبخ المصريون القلقاس، لكن لا يُستكثر منه جدا، ولقد سألتُ جماعةَ التّجار وأرباب المعرفة عن منبته باليمن وشكله، فكلّهم زعم أنه كالقلقاس، غير أن القلقاس أكبر وكذلك ورقه أكبر من ورق الزنجبيل وقد شاهدته إذا يبس، لا فرق بينه وبين الزنجبيل في الصورة مع حدة، ولذعٍ يسير،
وقال له آخر أن نبات الزنجبيل يشبهُ نباتَ البصل، مع أنّ القلقاس يكون في تلك البلاد وكأنه بستاني، وقال عليّ بن رضوان: القلقاس أسرع الأغذية استحالة إلى السوداء، وقال غيره من أطباء مصر أن القلقاس يزيد في الباءة، وفي كلٍّ نظرٍ لا يليق بهذا الكتاب.
ومن ذلك الموز وهو كثير باليمن والهند ورأيته بالغور وبدمشق مجلوبا، وكونه من فراخ تظهر من أصل شجرته كما تظهر الفِسلان من النخلة، وتسمى المثمرة الأم، فإذا أُخذت ثمرتها قطِعت هي أيضا وخلفها أكبر نباتها وترتفع قامته إلى قامتين وكأنها نخلة لطيفة، وزعموا أنَّ شجر الموز في الأصل مركب من قلقاس ونوى النخل تجعل النواة في جوف القلقاسة وتغرس، وهذا القول وإن كان ساذجا من دليل يشهد له فالحس يسوغه، وذلك أنه تجد لشجرته سعفا كسعف النخل سواء، إلّا أنك ينبغي أن تتخيل الخوص اتصل بعضه ببعض، حتى صار كأنه ثوب حرير أخضر قد نشر أوراقه خضرا ترفُّ ريا وطراءة، وكأنَّ الرطوبة اكتسبها من القلقاس والشكل اكتسبه من النخل، وأنت تعلم أن تشقق سعف النخل إلى الخوص إنما كان من قبل اليبس الغالب على مزاج النخل، ولكثرة رطوبة الموز بقي سعفه متصل الخوص ولم يتشقق، فعلى هذا يكون القلقاس له بمنزلة الماء، والنّخل بمنزلة الصورة، وأنت إذا تأمّلت خشب الموزِ وورقه بعد يبسه ألفيت به تلك الشظايا والخيوط التي تجدها في جذع النخل وسعفه، إلّا أنك تجدها مشوبة برطوبة قد ألحَمَت بينها، وملأت فُرَجَها وإن كان القلقاس لا ينفكُّ من ذلك أيضا ويتبيّنه آكله مقلوّا، وأمّا الثمر فأنك تراه أعذاقا كأعذاق النخل قد تحمل شجرته خمسمائة موزة فصاعدا، ويكون في منتهى العِذق موزة تسمى الأم ليس فيها لحم ولا تؤكل، وإذا شققت وجدت مؤلفة من قشور كالبصل كل قشرين منها متقابلان يحتوي كل واحدٍ منهما على نصفها طولا وتحت كلِّ قشرٍ عند القاعدة
زهرٌ أبيض بقدرِ الفستق أو كزهر النارنج عدده إحدى عشرة في صفين لا ينقص عن هذا العدد ولا يزيد إلّا واحدا نادرا، فهذا القشر بمنزلة كفري الطّلع، والزهر بمنزلة الطلع نفسه وتنشق هذه القشور من تلقاء أنفسها على التدريج الأعلى فالأعلى، فيظهر ذلك الزهر أبيض بمنزلة البلح وفيه رطوبة حلوة فيتساقط وتعقد عنه الموزة صغيرة فإذا أخَذت في النموّ قليلا انشق قشرٌ آخر على الرسم، ولا يزال كذلك حتّى ينتهي العِذق، وتجد قشر الموزة كقِشر الرطبة، إلّا أنه غليظ جدا بما اكتسبه من مادة القلقاس، ولحمها حلو فيه تفاهة كأنّه رطب مع خبز فالحلاوة له من الرطب والتفاهة من القلقاس، وأما شكلها ففي شكل الرطبة، إلّا أنها بقدر الخيارة الكبيرة تميل إلى الصفرة والبياض فالصفرة من الرطب والبياض من القلقاس، وحيث ما يقطع يكون شديد الخضرة جدا لا يصلح للأكل فإذا دفن أيّاما اصفر وصلح للأكل، ثم أنك تجده شحمة واحدة ليس فيها نوى ولا ما يُرمي سوى القشر فقط بل تراه كأنه قطعة خبيص ناعم المضغ يُستَرطُ بسهولة، وإذا أنت تأمّلته في ضياء، ألفيت في وسطه حبّا كثيرًا أصفر من الخردل، يضرب إلى السواد والشقرة شبيه بحب التين، لكنه في غاية اللين فهذا كأنّه رسم نوى الرطب، إلّا أنه لزيادة رطوبته لانَ وتفرّق واختلط باللحم، وإن ساغَ معه في الأكل، وله رائحة عطرة لا بأس بها فيها خمرة ما، والجشأ العارض لأكله بعد أخذه في الهضم طيب الرائحة، وهو حارٌّ رطب، ورطوبته أزيد من حرارته وكأنه حار في الأول رطب في الثانية يزيد في الماء ويدر البول ويحدث نفجا، ولا يبعد في طبعه هذا عن الرطب إلّا بكثرة رطوبته التي اكتسبها من القلقاس، فهذا إن كان من تركيب الصناعة فقد صدق الخبر الخبر، وإن كان من تركيب الطبيعة فإن لها أيضا تركيبات عجيبة متقنة من أصناف الحيوان والنبات، فتكون الموز من جملتها، وقال أبو حنيفة: الموز معادَته عُمان وتنبت الموزة نبات البردية لها
عنفرة غليظة وورقة عريضة نحو ثلاث أذرع في ذراعين ليست بمنخرطةٍ على نبات السعف لكن شبه المربعة، وترتفع الموزة قامة باسطة ولا تزال فراخها تنبت حولها واحدة أصغر من الأخرى، فإذا أجْرت وذلك إدراك موزها، قُطعت الأمّ حينئذٍ من أصلها، وتؤخد قِنوها ويطلع أكبر فراخها فيصير هو الأم
Halaman tidak diketahui
وتبقى البواقي فراخًا لها ولا تزال على هذا أبد الدهر، ولذلك قال أشعب لابنه فيما يَروي عنه الأصمعي: يا بنيّ لِمَ لا تكون مثلي؟ فقال أنا مثل الموز لا تصلح حتى تموت أمها، ومن نبات الموز إلى أثمارها شهران وبين أطلاعها إلى أجرائها أربعون يوما، والموز موجودٌ في أوطانه السنة كلّها ويكون في القنو من أقنائها ما بين ثلاثين موزة إلى خمسمائة موزة، ورأيت عند بعض تجار الهند حصرًا حسنة لطيفة موشاة ذات وجهين ألوانها أحسن الألوان وأصباغها زهر خالصة كأنها ألوان الحرير، عرض الحصير منها نحو ذراعين ونصف وهو أسلة واحدة ليس فيه وصل فجعلت أعجب من طول الأسل الذي يسمى بمصر السمار، فذكر لي أنه ليس به وإنما هو متَّخذٌ من ورق الموز الهندي بأن يؤخذ العسيب فيشقق ويجفف ثم يصبغ وينسج منه هذه الحصير، ويباع الحصير منها في المعبر بدينارين وفيها ما يباع بدرهمين وأراني من كلا الصنفين.
وأما المحمضات فيوجد بأرض مصر منها أصناف كثيرة لم أرها بالعراق، من ذلك أترُجٌ كبار يعزُّ وجودُ مثله ببغداد، ومن ذلك أترج حلوٌ ليس فيه حماض، ومن ذلك الليمون المركب وهو أصناف أيضا، ويوجد فيه ما هو بقدر البطيخة ومن ذلك الليمون المختم وهو أحمر شديد الحمرة أقنى حمرةً من النارنج شديد الاستدارة مفلطح من رأسه وأسفله مفضوخ فيها بختمين.
ومن ذلك ليمون البلسم وهو في قدر الإبهام وكالبيضة المطلولة، وفيه ما هو مخروطٌ صحيح يبتدئ من قاعدة وينتهي إلى نقطة، وأما لونه وريحه وشحمه
وحماضه فلا يغادر من الأترُج شيئا.
وقد يوجد أترج في جوفه أترُجٌ بقشر أصفر أيضا، وخبّرني صادقٌ أنه وجد في جوف أترجة سبع أترجاتٍ صغار كلّ واحدةٍ يحيطُ بها قشر تام والذي رأيته أنا أترجة في جوفها أترجة ليست تامة، وقد رأيتُ منه شيئا بالغور وهذا الأترج المداخل إنما يكون في ذي الحماض، ثمّ أنّ هذه الأنواع يركب بعضها على بعض فيتولد منها أصناف كثيرة جدا.
ومن ذلك صنفٌ من التفاح يوجد بالإسكندرية ببستان واحدٍ يسمّى بستان القطعة وهو صغار جدًا قاني الحمرة، وأما رائحته فتفوق الوصف وتعلو على المِسك وهو قليل جدا.
وأما القُرط فيسمّى بالعراق الرطبة وبالشام الفضة وبالفارسية أسفست.
1 / 14
وأما النخل فكثير، لكن إذا قيست ثمرته بثمرة نخل العراق وجدت كأنها قد طبخت طبخة، خرج بها معظم حلاوتها وبقيت ناقصة القوة، وممّا يسمّيه أهل العراق القسب يسمّيه أهل مصر التمر، وأما التمر بالعراق فيسمونه العجوة وقلّما تجد عندهم ما يشابه تمر العراق إلّا نادرا ويكون ذلك نخيلا معدودة تهدى تحفة.
وأما الماش هو المج، فلا يزرع بمصر أصلا وإنّما يوجد عند العطارين مجلوبا من الشام ويباع بالأواقي للمَرضى، وأما الذرة والدّخن فلا يعرفان بمصر اللهمّ إلّا بالصعيد الأعلى وخاصة الدّخن،
ومما تختص به مصر الأفيون وهو يجتني من الخشخاش الأسود بالصعيد وكثيرا ما يغشه جُناته، وربما غشّوه بالعذرة وعلامة الخالصِ منه أن يذوب في الشمس ويقِدَ في السراج بلا ظلمة، وإذا طفي تكون رائحته قوية والمغشوش يسوس سريعا، وأرسطو ينهى عن خلطه بدواء العين والأذن لأنّه يعمي ويصمّ.
ومن ذلك الأقاقيا، وهو عصارة ورق شجر القرظ وثمره يُستخرج ماؤه بالدقِّ
والعصر، ويُجعل في أوانٍ مرحرحةٍ تلقاء الشمس حتى يغلُظ ثم يقرص، هذا هو الخالص الخاص، وأمّا العام يُجلب إلى البلاد، فأنه يؤخذ القرظ فيطحن ويُعجن بماء الصمغ ثم يقبض ويختم ويجفَّف، وشجرته هي السنط وتسمَّى الشوكة المصرية، وورقها هو القرظ بالحقيقة ويُدبغ به الجلود، وعصارةُ القرظ التي يتّخذ منها الأقاقيا تسمّى ربّ القرظ ونساء مصر يشربن عصارته ونقيعه للإسهال.
والسنط شجرٌ عِظام جدًا، له شوكٌ كثيرٌ حديدٌ صلب أبيض، وله ثمرٌ يُسمّى خروب القرظ مدور مسطوح مُشاكلٌ لحبّ الترمس، إلّا أنه متّصل كقرون اللوبيا وفي داخله حبٌّ صغار، وإذا اتخذ الأقاقيا من القرظ قبل كمال نضجه كان أكثر قبضا وأقوى على حبس الطبيعة، وإذا اتّخذ ممّا استحكم نضجه، لم يقوَ على حبس البطن، وعلامته أن يكون شديد السواد مُشرق اللون، وقال الدينوري: القرظ شجر عظام كشجر الجوز وخشبه صلبٌ كالحديد وإذا قدم اسودَّ كالأبنوس، وورقه يشبه ورق التفاح، وله حبلة مثل قرن اللوبيا داخلها حبٌّ يوضع في الموازين، ويُدبغ بورقه وثمره، ومنابته القيعان والجبال وحبلة القرظ أصغر من علف الطلح، وإذا رعته الإبل احمرت أفواهها وأدبارها حتى أبعارها، فتحسبها عصفرا قد جمع وتسمن عليه، وما كان من القرظ
1 / 15
بأرض مصر فهو السنط وهو ذكي الوقود قليل الرماد، وله برمة صفراء ليس لها رائحة زكية كبرم العراق.
ومن ذلك الفقوص وهو قثّاء صغار لا يكبر ولا يعدو أطوله الفتر وأكثره في طول الإصبع، وهو أنعم من القثاء وأحلى ولا شك في أنه صنف منه وكأنّه الضغاييس، أما القتد فهو الخيار، ويوجد بمصر بطيخٌ يسمّى العبدلي والعبدلاوي، قيل أنه نُسب إلى عبد الله بن طاهر والي مصر عن المأمون.
وأما المزارعون فيسمونه البطيخ الدميري، منسوبا إلى دميرة قرية بمصر له أعناق ملتوية وقشرُه خفيفٌ وطعمه مسخ قلما يوجد فيه حلو، ويندر فيه ما وزنه
ثلاثون رطلا وأكثر، والغالب عليه ما بين رطل إلى عشرة أرطال، وأهل مصر يستطيبونه على البطيخ المولد المسمى عندهم بالخراساني والصيني ويزعمون أنه نافع، ويأكلونه بالسكر وطعمه أشبه شيء بالصنف المسمى بالعراق الشلنق: لكنه ألذّ منه وأنعم وشكله شكل يقطين العراق، إلّا أن لونه حسن الصفرة جدا وفي ملمسه حراشة وتخييش، وصغاره قبل أن تبلغ تكون كلون اليقطين وشكله وكطعم القثاء، لها بطونٌ وأعناقٌ، وتباع بالفقوص وتسمى العجوز، وأخبرني مزارعه أن العادة جارية بأن ينقّى حقله كل يوم، فما يرى مزارعه أن يقطعه صغيرًا أخضر قطعه وباعه بالعجور، وما يرى أنه يتركه حتى يكبر ويبلغ ويصفر كان منه البطيخ العبدلي، وقلما تجد في بطيخ مصر ما هو صادق الحلاوة، لكنه لا يوجد فيه مُدوِّدٌ ولا فاسد بل الغالب عليه التفاهة المائية، وجميع أصناف البطيخ بها يباع بالميزان سوى البطيخ الأخضر، وأما البطيخ الأخضر، فإنه يسمّى بالغرب الدلاع وبالشام البطيخ الرنشي وبالعراق البطيخ الرقي، ويسمي أيضا الفلسطيني والهندي، وأما اليقطين الذي يقصره الجمهور على الدباء، فيكون بمصر مستطيلا وفي شكل القثاء ويبلغ في طوله إلى ذراعين وفي قِصَرِه إلى شبر، وأما الباقل الأخضر المُسمّى عندهم بالفول، فإنه يتواصل نحو ستة أشهر، وكذلك الورد والياسمين يدوم جميع السنة ولا تزال شجرته مزهرة، ومنه أبيض وأصفر والأبيض أكثر وأعطر، ومنه يتخذ دهن الزنبق بدمياط خاصة، وكذلك الليمون وإنما يقل ويكثر فقط، والبنفسج بمصر عطِرٌ جدا، لكن لا يحسنون اتّخاذ
1 / 16
دهنه ولا معجونه، فلا بأس به وإن كان رديا، وأما رمانها ففي غاية الجودة، إلّا أنّه ليس بصادق الحلاوة.
وأما القراسيا، فلا يوجد بمصر بل بالشام وبلاد الروم وغيرهما، وإنما بمصر صنفٌ من الأجاص صغار حامض يسمونه القراسيا ومثل هذا الصنف بدمشق يسمونه خوخ الدلب، لأن الأجاص بالشام يسمى خوخا والخوخ دراقنًا والكمثرى
أجاصا.
ومما يكثر بمصر شجر خيار شنبر وهو شجر عظام شبيه بشجر الخروب الشامي، وزهره كبير أصفر ناضر ذو رواء وبهجة، فإذا عقد تدلى ثمره كالمقارع الخضر، وبها شجر اللوز، والسدرُ بها كثير وثمره النبق حلو جدا، والتيل يكثر بها ولكنه دون الهندي.
الفصل الثالث
فيما تختص به من الحيوان
من ذلك حضانة الفراريج بالزبل، فإنّه قلما ترى بمصر فراريج عن حضان الدجاجة وربما لم يفرِّقوه أيضا، وإنما ذلك عندهم صناعة ومعيشة يتَّجِر فيها ويُكتسب منها وتجد في كلِّ بلد من بلادهم مواضع عدة تعمل ذلك، ويسمّى الموضع معمل الفرّوج، وهذا المعمل ساحة كبيرة ُيتّخذ فيها من البيوت التي يأتي ذكرها ما بين عشرة أبيات إلى عشرين بيتا في كل بيت ألفا بيضة ويسمى بيت الترقيد، وصفته أن يتخذ بيت مربع طوله ثمانية أشبار في عرض ستة في ارتفاع أربعة، ويُجعل له باب في عرضه سعته شبران وعقد في مثله وتُجعل فوق الباب طاقة مستديرة قطرها شبر، ثم تسقف بأربع خشبات وفوقها سدّة قصب يعني نسيجا منه وفوقه ساسي وهو مشاقة الكتان وحطبه، ومن فوق ذلك الطين ثم يرصص بالطوب ويطين سائر البيت ظاهره وباطنة وأعلاه وأسفله، حتى لا يخرج منه بخار وينبغي أن تتخذ في وسط السقف شباكا سعته شبر في شبر فهذا السقف يحكي صدر الدجاجة، ثم تتّخذ حوضين من الطين المخمّر بساسي طول الحوض ستة أشبار وعرضه شبر ونصف وسُمكه عقدة إصبع وحيطانه نحو أربع أصابع، ويكون هذا الحوض لوحا واحدًا تبسطه على أرض معتدلة، هذا الحوض يسمى الطاجن فإذا جفَّ الطاجنان ركبتهما على طرف السقف أحدهما على وجه الباب والآخر قباله على الطرف الآخر تركيبا محكمًا، وأخذت وصولهما بالطين آخذًا
1 / 17
متفقًا وينبغي أن يكون قعود الطاجنين على خشب السقف بحيث يماسانه، وهذان الطاجنان تحاكي بهما جناحا الدجاجة، ثم يُفرشُ البيت بقفّة تبن ويمهَّد ويُفرش فوقه ضب أو ديس، يعني حصيرا برديا على مقداره سواء، ثم يرصف فوقه البيض رصفًا حسنا بحيث يتماسّ ولا يتراكب لتتواصل الحرارة فيه، ومقدار
ما يسع هذا البيت، المفروض ألفا بيضة وهذا الفعل يسمى الترقيد وإن ضاقت الحضانة تبتدئ وتسد الباب بأن ترسل عليه لبدًا مهندمًا، ثم تسد الطاقة بساسي والشباك أيضا بساسي وفوقه زبل حتى لا يبقى في البيت منفس للبخار، وتُلقي في الطاجنين من زبل البقر اليابس قفتين وذلك ثلاث ويبات وتوقد فيه نار سراج من جميع جهاته وتهمله ريثما يرجع رمادا وأنت تتفقد البيض ساعة بعد أخرى بأن تضعه على عينك، وتعتبر حرارته، وهذا الفعل يسمى الذواق فأن وجدته يلذع العين قلبته ثلاث تقليبات في ثلاث دفعات تجعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله، وهذا يحاكي تقليب الدجاجة للبيضة بمنقارها وتفقُّدها إياها بعينها وهذا يسمى السماع الأول، فإذا صار الزبل رمادا أزلته وتركته بلا نار إلى نصف النهار إن كان ترقيده بكرة، وإن كان ترقيده من أول الليل حرسته إلى أن تحمي وتسمع النار كالسياقة المتقدمة ثم تُخلي الطاجِنين من النار إلى بكرة، ثم تجعل في الطاجن الذي على باب البيت من الزبل ثلاثة أقداح وفي الطاجن الذي على صدر البيت قدحين ونصفًا، ومدّ الزبل بمرودٍ غليظ واطرح في كلّ منهما النار في موضعين منه وكلما خرَجتَ من البيت بعد تفقده فارخ الستر، وإياك وأن تغفل عنه لئلا يخرج البخار ويدخل الهواء فيفسد العمل، وإذا كان وقت العشاء وصار الزبل رمادًا ونزل الدفء إلى البيض، أسفل البيت، فغيِّر الرماد من الطاجن بزبلٍ جديد مثل الأول، وأنت كل وقت تلمس البيض وتذوقه بعينك، فإن وجدت حرارته زائدة عن الاعتدال تلذع العين، فاجعل مكان ثلاثة أكيال لطاجن الباب كيلين وربما، وفي طاجن الصدر كيلين فقط ولا تزال تواصل تغيير الرماد وتجديد الزبل والإيقاد حتى لا ينقطع الدفء مدة عشرة أيام بمقدار ما تكمل الشخوص بمشيئة الله وقدرته، وذلك نصف عمر الحيوان، ثم تدخل البيت بالسراج وترفع البيض واحدة واحدة وتقيمها بينك وبين السراج، فالتي تراها سوداء ففيها الفرخ، والتي تراها
شبه شراب أصفر في زجاج لا عكر فيه فهي لاح بلا بذر وتسمى الأرملة
1 / 18
فأخرجها بلا منفعة فيها، ثم عدل البيض في البيت بعد تنقيته وأخرج اللاح عنه وهذا الفعل يسمى التلويح، ثم تصبح بعد التلويح تنقص الزبل من العيار الأول ملء كفك من كلّ حوض بكرةً ومثله عشيّةً حتى ينصرم اليوم الرابع عشر ولم يبق من الزبل شيء، فحينئذ يكمل الحيوان ويشعرن ويتفتح، فاقطع إذ النار عنه فأن وجدته زائد الحرارة يحرق العين فافتح الطاقة التي على وجه الباب وأبقها كذلك يومين ثم ذقه على عينك فأن وجدته غالب الحرارة، فافتح نصف الشباك وأنت مع ذلك تقلّبه وتُخرج البيض الذي في الصدر إلى جهة الباب والبيض الذي في جهة الباب تردّه إلى الصدر حتى يحمى البارد الذي كان في جهة الباب ويستريحُ الحارّ الذي في الصدر، يُشمّ الهواء فيصير في طريقة الإعتدال ساعة يحمي وساعة يبرد، فيعتدل مزاجه وهذا الفعل يُسمّى الحضانة كما يفعل الطير سواء، وتستمرّ على هذا التدبير دفعتين في النهار، ودفعة في الليل إلى تمام تسعة عشر أيضا، فإنّ الحيوان ينطق في البيض بقدرة الله تعالى، وفي يوم العشرين يطرح بعضه ويكسر القشر ويخرج وهذا يسمى التطريح، وعند تمام اثنين وعشرين يوما يخرج جميعه، وأحمدُ الأوقات لعمله أمشير وبرمهات وبرمودة، وذلك في شباط وآذار ونيسان، لأنَّ البيض في هذه المدة يكونُ غزير الماء، كثير البذرة صحيح المزاج، والزمان معتدل صالحٌ للنشأة والتكوين، وينبغي أن يكون البيض طريّا وفي هذه الأشهر يكثر البيض أيضا.
ومن ذلك الحمير، والحمير بمصر فارهة جدًا، وتُركب بالسروج وتجري مع الخيل والبغال النفيسة لعلها تسبقها، وهي مع ذلك كثيرةُ العدد، ومنها ما هو غال بحيث إذا رُكب بسرج اختلط مع البغلات، يركبه رؤساء اليهود والنصارى ويبلغ ثمن الواحد منها عشرين دينارا إلى أربعين.
وأما بقرهم فعظيمة الخلق حسنةُ الصور، ومنها صنفٌ هو أحسنها وأغلاها قيمة يسمى (البقر الخيسية) وهي ذوات قرون كأنها القسي غزيرات اللبن.
وأما خيلها فعتاق سابقة ومنها ما يبلغ ثمنه ألف دينار إلى أربعة آلاف، وهم ينزون الخيل على الحمير والحمير على الخيل، فتأتي البغلة وأمها أتان، ولكن هذه البغال لا تكون عظيمة الخلق كالتي أمهاتها مهورة، لأن الأمّ هي التي تعطي المادة.
1 / 19
ومن ذلك التماسيح، والتماسيح كثيرة في النيل وخاصة في الصعيد الأعلى وفي الجنادل فإنها تكون في الماء وبين صخور الجنادل كالدود كثرة، وتكون كبارا أو صغارا، وتنتهي في الكبر إلى نيف وعشرين ذراعا طولا، وتوجد في سطح جسده ممّا يلي بطنه سلعة كالبيضة تحتوي على رطوبة دموية وهي كنافجة المسك في الصورة والطيب، وخبّرني الثقة أنه يندر فيها ما يكون في غلو المسك لا ينقص عنه شيئا والتمساح يبيضُ بيضًا شبيها ببيض الدجاج، ورأيتُ في كتاب منسوبٍ إلى أرسطو ما هذه صورته، قال: التمساح كبده تهيج الجماع وكليتاه وشحمه في ذلك أبلغ، ولا يعمل في جلده الحديد ومن فقار رقبته إلى ذنبه عظم واحد، ولهذا إذًا انقلب على ظهره لم يقدر أن يرجع، قال: ويبيضُ بيضا طويلا كالإوَزّ ويدفنه في الرمل، فإذا أخرج كان كالحراذين في جسمها وخلقتها، ثم يعظُم حتى يكون عشر أذرع ويبيض ستين بيضة، لأنّ خلقته تجري على ستين سنّا وستين عِرقا وإذا سفد منى ستين مرة، وقد يعيش ستين سنة.
ومن ذلك الدلفين، ويوجد في النيل وخاصة قرب تنيس ودمياط.
ومن ذلك الاسقنقور ويكون بالصعيد وبأسوان كثيرا ويكون من نتاج التمساح في البر، وهو صنف من الورل بل هو ورَلٌ إلّا أنه قصير الذنب، والورل والتمساح والحرذون وإلاسقنقور وسميكة صيدا لها كلها شكل واحد، وإنما تختلف بالصغر
والكبر والتمساح أعظمها، وسميكة صيدا أصغرها تكون بقدر الإصبع وتصلح لما يصلح له الاسقنقور من تسخين الأعضاء والأنعاظ، وكأنّ التمساح ورلٌ بحريٌ، والورل تمساح بري والجميع يبيض بيضا، السقنقور يكون بشطوط النيل ومعيشته في البحر السمك الصغار وفي البر القطا ونحوه، ويسترطُ غذاءه استراطًا ويوجد لذكورته خصيان كخصي الديكة وفي مقدارهما ومواضعهما، وإناثه تبيض فوق العشرين بيضة، وتدفنها في الرمل فيكمل كونها بحرارة الشمس فعلى هذا إنما هو نوع برأسه، وقال ديوسقوريدس: أنه يكون بنواحي القلزم وبمواضع من بلاد الهند وبلاد الحبشة، ويفارق الورل بمأواه فإن الورل جبليٌّ والسقنقور بريٌّ مائيّ، لأنه يدخل في ماء النيل، ثم أن ظهر الورل خشن صلب وظهر السقنقور لين ناعم، ولون الورل أصفر أغبر ولون السقنقور مدبّج بصفرة وسواد، والمختار من الاسقنقور إنما هو الذكر دون الأنثى ويُصاد في الربيع، لأنه وقت هيجانه للسّفاد، فإذا
1 / 20
أخذ ذُبح في مكانه وقطِّعت أطرافه ولا يستقصى قطع ذنبه، ويشق جوفه ويخرج حشوه إلّا كشيته وكلاه. ثم يحشى مِلحا ويُخاط ويعلّق في الظِّل حتى يجفّ، ويرفع ويُسقى من كلاه ومتنه وشحمه وسرته من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بماءِ العسل، أو بمطبوخ أو بصفرة بيض نيمرشت وحده أو مع بزر جرجير وخصى ديوك مجفف مدقوق، وقد يفعل ملحه ذلك إذا خلط بالأدوية البائية، وقد يركب مع غيره من الأدوية إلّا أن استعماله مفردا أقوى له.
ومن ذلك فريس البحر وهذه توجد بأسافل الأرض وخاصة ببحر دمياط، وهو حيوانٌ عظيمُ الصورة، هائل المنظر شديد البأس، يتبع المراكب فيغرقها ويهلك من ظفر به منها، وهو بالجاموس أشبه منه بالفرس لكنه ليس له قرن وفي صوته صهلة تشبه صهيل الفرس بل البغل، وهو عظيم الهيئة، هريت الأشداق، حديد الأنياب، عريض الكلكل، منتفخ الجوف، قصير الأرجل، شديد الوثب، قوي الدفع،
مهيب مخوف الغائلة، وخبرني من اصطادها مرات وشقها وكشف عن أعضائها الباطنة والظاهرة أنه خنزير كبير وأن أعضاءها الباطنة والظاهرة، لا تغادر من صورة الخنزير شيئا إلّا في عظم الخلقة، ورأيت في كتاب ينطواليس في الحيوان ما يعضد ذلك وهذه صورته، قال: خنزيرة الماء تكون في بحر مصر وهي تكون في عظم الفيل ورأسها يشبه رأس البغل ولها شبه خفِّ الجمل، قال: وشحم متنها إذا أُذيب ولتّ بسويق وشربته امرأة أسمَنَها حتى تحوز المقدار، وكانت واحدة ببحر دمياط قد ضربت على المراكب تغرقها وصار المسافر في تلك الجهة مُغرّرا، وضربت أخرى بجهة أخرى على الجواميس والبقر وبني آدم تقتلهم وتفسد الحرث والنسل وأعمل الناس في قتلها كل حيلة من نصب الحبائل الوثيقة وحشد الرجال بأصناف السلاح وغير ذلك فلم يجد شيئا، فاستدعى بنفر من المريس - صنف من السودان - زعموا أنهم يحسنون صيدها وأنها كثيرة عندهم ومعهم مزاريق فتوجهوا نحوها فقتلوها في أقرب وقت وبأهون سعي، وأتوا بها إلى القاهرة فشاهدتها فوجدت جلدها أسود أجرد ثخينًا وطولها من رأسها إلى ذنبها عشرة خطوات معتدلات، وهي في غِلظ الجاموس نحو ثلاث مرات، وكذلك رقبتها ورأسها وفي مقدّم فمها اثنا عشر نابًا ستة من فوق وستة من أسفل، المتطرفة منها نصف ذراع زائد والمتوسط أنقص بقليل، وبعد الأنياب أربعة صفوف من الأسنان على خطوط مستقيمة في طول
1 / 21
الفم في كل صف عشرة كأمثال بيض الدجاج المصطفّ، صفان في الأعلى وصفان في الأسفل على مقابلتهما، وإذا فغر فوها وسع شاةً كبيرة وذنبها في طول نصف ذراع زائد أصله غليظ وطرفه كالإصبع، أجرد كأنه عظم شبيه بذنب الورل وأرجلها قصار طولها نحو ذراع وثلث ولها شبهٌ بخف البعير، إلّا أنه مشقوق الأطراف بأربعة أقسام وأرجلها في غاية الغلظ وجملةُ جثّتها كأنّها مركب مكبوب لعظم منظرها،
وبالجملة، هي أطول وأغلظ من الفيل، إلّا أن أرجلها أقصر من أرجل الفيل بكثير ولكن في غلظها أو أغلظ منها،
ومن ذلك السمكة المعروفة بالرعاد، لأنه من أمسكها وهي حية ارتعد رعدة لا يمكنه معها أن يتماسك، وهي رعدة بقوة وخدر شديد وتنمِّل في الأعضاء وثقل بحيث لا يقدر أن يملك نفسه ولا أن يمسك بيده شيئا أصلًا ويتراقى الخدر إلى عضده وكتفه وإلى جنبه بأسره حينما يلمسها أيسرَ لمس في أسرع وقت، وخبّرني صيادها أنها إذا وقعت في الشبكة، اعترى الصياد ذلك إذا بقي بينها وبينه مقدار شبر أو أكثر من غير أن يضع يده عليها وهي إذا ماتت بطلت هذه الخاصة منها، وهي من السمك الذي لا تفليس له ولحمه قليل الشوك كثير الدسم، ولها جلد ثخين في ثخن الإصبع، ينسلخ منها بسهولة ولا يمكن أكله، ويوجد فيها الصغير والكبير ما بين رطل إلى عشرين رطلا وذكر من يكثر السباحة بنواحيها أنها إذا مست بدن السابح خدر الموضع أين كان ساعة بحيث يكاد يسقط، وتكثر بأسافل الأرض وبالإسكندرية.
وأما أصناف السمك عندهم فكثيرة، لأنه يجتمع إليهم سمك النيل وسمك البحر الملح ولا يفي القول بنعتها لكثرة أصنافها واختلاف أشكالها وألوانها، ومنها الصنف المسمّى عندهم ثعبان الماء وهي سمكة الحية سواء، طولها ما بين ذراع إلى ثلاث أذرع.
ومنها السرب، وهي سمكة تُصاد من بحر الإسكندرية يحدث لأكلها أحلام ردية مفزعة، ولا سيما الغريب ومن لم يعتدها، والأحدوثات المضحكة فيها مشهورة،
ومن ذلك الترسة - وتسمى لجاة - وهي سلحفاة عظيمة وزنها نحو أربعة قناطير، إلّا أن جفنتها - أعني عظم ظهرها - كالترس له أفاريز خارجة عن جسمها نحو شبر، ورأيتها بالإسكندرية يُقطع لحمها ويباع كلحم البقر.
وفي لحمها ألوان مختلفة ما بين أخضر وأحمر وأصفر وأسود وغير ذلك من الألوان، وتخرج من جوفها نحو أربعمائة بيضة كبيض الدجاج سواء،
1 / 22
إلّا أنه لين القشر، واتخذت من بيضها عجة فلما جمد، صار الوأنا ما بين أخضر وأحمر وأصفر شبيها بالوان اللحم، ومن ذلك السرلينس، وهو صدف مستدير إلى الطول أكبر من الظفر ينشق عن رطوبة مخاطية بيضاء ذات نكتة سوداء يعافها الناظر وفيه ملوحة عذبة زعموا ويباع بالكيل.
الفصل الرابع في
اختصاص ما شوهد من آثارها القديمة
أما ما يوجد بمصر من الآثار القديمة فشيء لم أر ولم أسمع بمثله في مثلها فأقتصر على أعجب ما شاهدته.
فمن ذلك الأهرام، وقد أكثر الناس من ذِكرها ووصفها ومساحتها، وهي كثيرة العدد جدّا وكلّها بين الجيزة وعلى سمت مصر القديمة وتمتد في نحو مسافة يومين، وفي بوصير منها شيء كثير وبعضها كبار وبعضها صغار وبعضها طين ولبن وأكثرها حجر وبعضها مدرّج وأكثرها مخروط أملس، قد كان منها بالجيزة عدد كثير لكنها صغار فهدمت في زمن صلاح الدين، يوسف بن أيوب، على يدي قراقوش وكان خصيّا روميا سامي الهمة فكان يتولّى عمائر مصر، وهو الذي بنى السور من الحجارة محيطا بالفسطاط والقاهرة وما بينهما وبالقلعة التي على المقطّم، وهو أيضا الذي بنى القلعة وأنبط فيها البيرين الموجودتين اليوم، وهما أيضا من العجائب وينزل إليهما بدرج نحو ثلثمائة درجة، وأخذ حجارة هذه الأهرام الصغار وبنى بها القناطر الموجودة اليوم بالجيزة، وهذه القناطر من الأبنية العجيبة أيضا ومن أعمال الجبارين وتكون نيفا وأربعين قنطرة، وفي هذه السنة
وهي سنة سبع وتسعين وخمسمائة تولى أمرها من لا بصيرة عنده فسدها رجاء أن يحتبس الماء فيروي الجيزة، فقويت عليها جرية الماء فزلزلت منها ثلاث قناطر وانشقت، ومع ذلك فلم يرو ما رجا أن يروي، وقد بقي من هذه الأهرام المهدومة قلبها وحشوتها وهي ردم وحجارة صغار لا تصلح للقناطر، فلأجل ذلك تركت.
وأما الأهرام المتحدث عنها المشار إليها الموصوفة بالعظم، فثلاثة أهرام موضوعة على خط مستقيم بالجيزة قبالة الفسطاط، وبينها مسافات يسيرة زواياها متقابلة نحو الشرق واثنان منها عظيمان جدا وفي قدر واحد وبهما أولع الشعراء وشبهوهما بنهدين
1 / 23
قد نهدا في صدر الديار المصرية وهما متقاربان جدا ومبنيان بالحجارة البيض، وأما الثالث فينقص عنهما بنحو الربع لكنه مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة ولا يؤثر فيه الحديد إلّا في الزمن الطويل وتجده صغيرا بالقياس إلى ذينيك، فإذا قربت منه وأفردته بالنظر هالك مرآه وحَسرَ الطرف عند تأمُّله، وقد سُلك في بناية الأهرام طريق عجيب من الشكل والإتقان، ولذلك صبرت على مر الزمان بل على مرِّها صبر الزمان، فأنك إذا تبحّرتها وجدت إلاذهان الشريفة قد استهلكت فيها والعقول الصافية قد أفرَغت عليها مجهودها، والأنفس النيِّرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها والملَكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلا هي غاية إمكانها، حتى أنها تكاد تحدث عن قومها وتُخبر بحالهم وتنطق عن علومِهم وأذهانهم، وتترجم عن سيرهم وأخبارهم، وذلك أنَّ وضعها على شكل مخروط يبتدىء من قاعدة مربعة وينتهي إلى نقطة، ومن خواص الشكل المخروط أن مركز ثقله في وسطه وهو يتساند على نفسه ويتواقع على ذاته ويتحامل بعضه على بعض فليس له جهة أخرى خارجة عنه يتساقط عليها، ومن عجيب وضعه أنه شكل مربع قد قوبل بزواياه مهاب الرياح
الأربع، فإنَّ الريح تنكسر سَورتها عند مصادمتها الزاوية وليست كذلك عندما تلقى السطح، ولنرجع إلى ذكر الهرمين العظيمين فإنّ المُسّاح ذكروا أنَّ قاعدة كلذٍ منهما أربعمائة ذراع طولا في مثلها عرضا، وارتفاع عمودها أربعمائة ذراع وذلك كله بالذراع السوداء وينقطع المخروط في أعلاه عند سطح مساحته عشر أذرع في مثلها، وأما الذي شاهدته من حالهما فإنَّ راميًا كان معنا رمى سهما في قطر أحدهما وفي سمكه فسقط السهم دون نصف المسافة، وخبّرنا أن في القرية المجاورة لها قومًا قد اعتادوا ارتقاء الهرم بلا كلفة، فاستدعينا رجلا منهم ورضخنا له بشيء فجعل يصعد فيها كما يرقى أحدنا في الدرج بل أسرع، ورقى بنعليه وأتوا به، وكانت سابقة كنت أمرته أنه إذا استوى على سطحه قاسه بعمامته، فلما نزل ذرعنا من عمامته مقدار ما كان قاس فكان إحدى عشرة ذراعا بذراع اليد، ورأيت بعض أرباب القياس قال: ارتفاع عمودها ثلثمائة ذراع ونحو سبع عشرة ذراعا يحيط به أربعة سطوح مثلثات الأضلاع، طول كل ضلعٍ منها أربعمائة ذراع
1 / 24
وستون ذراعا. وأرى هذا القياس خطأ، ولو جعل العمود أربعمائة ذراع، لصح قياسه، وإن ساعدت المقادير تولَّيت قياسه بنفسي، وفي أحد هذين الهرمين مدخلٌ يلِجه الناس يُفضي بهم إلى مسالك ضيقة، وأسراب متنافذة، وآبارٍ ومهالك وغير ذلك مما يحكيه من يلجه ويتوغله، فإنّ ناسا كثيرين لهم غرام به وتخيل فيه، فيوغلون في أعماقه ولا بد أن ينتهوا إلى ما يعجزون عن سلوكه، وأما المسلوك فيه المطروق كثيرا فزلاقه تُفضي إلى أعلاه، فيوجد فيه بيتٌ مربّعٌ فيه ناووس من حجر، وهذا المدخل ليس هو المتخذ له في أصل البناء وإنما هو منقوب نقبا صُودف اتفاقا، وذُكر أنَّ المأمون هو الذي فتحه، وجلّ من كان معنا ولجوا فيه وصعدوا إلى البيت الذي في أعلاه فلما نزلوا، حدثوا بعظيم ما شاهدوا وأنّه مملوءٌ بالخفافيش وأبوالها حتى يكاد يمنع السالك ويعظم فيها الخفاش حتى
يكون في قدر الحمام وفيه طبقات، وروازنه نحو أعلاه وكأنها جعلت مسالك للريح ومنافذ للضوء، وولجته مرة أخرى مع جماعة وبلغت نحو ثلثي المسافة فأغمى علي من هول المطلع فرجعت برمق.
وهذه الأهرام مبنية بحجارة جافية يكون طول الحجر منها ما بين عشر أذرع إلى عشرين ذراعا وسمكه ما بين ذراعين إلى ثلاث وعرضه نحو ذلك، والعجيب في وضع الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا تجد بينهما مدخل إبرة ولا خلّل شعرة، وبينهما طين كأنه الورقة لا أدري ما صفته ولا ما هو، وعلى تلك الحجارات كتابات بالقلم القديم المجهول الذي لم أجد بديار مصر، من يزعم أنه سمع بمن يعرفه، وهذه الكتابات كثيرة جدًا حتى لو نقل ما على الهرمين فقط إلى صحف، لكانت زهاء عشرة آلاف صحيفة، وقرأت في بعض كتب الصابئة القديمة أن أحد هذين الهرمين هو قبر عاذيمون، والآخر قبر هرميس ويزعمون أنهما نبيان عظيمان، وأن (عاذيمون) أقدم وأعظم.
وأنه كان يحج إليهما ويهوى نحوهما من أقطار الأرض، وقد وسعنا القول في المنقول من الكتاب الكبير فمن أراه التوسعة فعليه، فإنّ هذا الكتاب مقصور على المشاهد.
وكأن الملك العزيز عثمان بن يوسف لما استقل بعد أبيه، سوّل له جهلة أصحابه أن يهدم هذه الأهرام فبدأ بالصغير الأحمر وهو ثالثة الأثافي.
1 / 25