اندفعت إلى الشارع، وبعد أن مشيت خطوات جلست على قارعة الطريق واجما كأنني أصبت بالعته من خيانة هذه المرأة التي لم تثر غيرتي يوما، ولا نبهت شكوكي، وما كان الذي رأيت ليترك في أقل ريب، فأصبحت لذلك كمن فوجئ بضربة فأس على أم رأسه. ومرت الساعات وأنا جالس على الحجر تمر بذهني أمور لم أكن لأذكر منها شيئا فيما بعد، غير أنني رأيت شهابا ينزلق في السماء، فرفعت قبعتي مسلما عليه، والشعراء يرون في كل شهاب هاو عالما يندثر.
ورجعت بكل سكون إلى منزلي وأنا لا أعي، وبدأت أخلع أثوابي، ثم انطرحت على سريري، وما ألقيت رأسي على الوسادة حتى استولت علي فكرة الانتقام، فانتفضت وجلست وقد توترت عضلاتي فأصبحت كقطعة من خشب. قفزت إلى الأرض ومددت ذراعي وبدأت أصرخ، وما كانت أصابع رجلي تلمس الأرض لشدة تشنج أعصابي، ومرت علي ساعة وأنا على هذه الحالة من الهياج والجنون، وكانت هذه أول نوبة غضب شعرت بها في حياتي.
وكان الرجل الذي باغته مع خليلتي من أعز الأصدقاء علي، فذهبت إليه في اليوم التالي وقد استصحبت شابا يمتهن المحاماة اسمه ديجنه، فأخذ خصمي لنفسه شاهدا آخر، وتوجهنا جميعا ومعنا الأسلحة النارية إلى غابة فنسين، وكنت أثناء الطريق أتحاشى توجيه الخطاب إلى خصمي أو الاقتراب منه، كيلا أندفع إلى شتمه أو ضربه ؛ إذ لم يكن من موجب لهذا الاعتداء ما دام القانون يجيز لنا الاشتباك بمعركة منظمة، ولكنني ما كنت أمتلك نظراتي من التوجه إليه. وكان هذا الشاب من أصدقاء الصبا، وقد تبادلنا الولاء طوال السنين، وما كان يجهل علاقتي بخليلتي، وقد كان صرح لي مرارا بأنه شديد الاحترام لمثل هذه العلاقات، وأنه لا يقدم على مزاحمة صديق له حتى ولو برح العشق به، وكانت ثقتي شديدة بهذا الصديق، وقد لا أكون صافحت يدا بمثل الولاء الذي كنت أضمره له، وحدقت مليا في الرجل الذي سمعته يتكلم عن الصداقة كأنه أحد الأبطال الأقدمين، ثم رأيته بعد ذلك يتمتع بخليلتي، فإذا هو في عيني أول مسخ أصادفه في حياتي، فكنت أثبت النظر فيه لأرى كيف تكون المسوخ، وكان يخيل إلي أنني لم أر قط هذا الرجل الذي عرفته وهو في العاشرة من عمره، فمرت بنا الأيام من ذلك العهد توثق روابط الولاء بيننا، وإنني لأورد هنا تشبيها ينطبق على حالتي:
إن في رواية إسبانية معروفة مشهد شخص من حجر يرسله العدل الإلهي ليتناول طعام العشاء مع رجل عاهر، فيتجلد هذا الرجل كيلا يلمح جليسه اضطرابه، ولكن الجليس يتقدم لمصافحته، وعندما يقبض على يده يشعر الرجل بصقيع الموت، ويرتعش حتى يفقد شعوره.
ولقد كنت طوال حياتي كلما تكشف لي صديق أو خليلة عن غدر وخديعة أشعر بما لا أجد له شبيها سوى مصافحة يد التمثال، فكأني كنت أقبض حقيقة على يد من رخام تشعرني بصقيع الحقيقة المروعة.
تلك هي مصافحة اليد الباردة، ولكم طرقت بابي وا أسفاه! ولكم نزل الرجل الحجري في ضيافتي فتناولنا العشاء معا!
وتمت المعدات فوقفت من خصمي موقفه مني، وتقدم كل منا ببطء نحو الآخر، وأطلق هو النار أولا فأصابني في ساعدي الأيمن، فتناولت السلاح بيدي اليسرى، ولكن خانتني القوى فجثيت راكعا على ركبة واحدة، وعندئذ رأيت خصمي يتقدم إلي بسرعة وقد امتقع لونه، وبدت عليه دلائل الاضطراب الشديد، وتراكض الشاهدان فأبعدهما هو وقبض على يدي الجريحة، وقد صرف بأسنانه واختنق صوته، فرأيت الألم يرتسم على وجه بأشد مما كنت أشعر به.
فصحت به: اذهب عني، اذهب إليها وامسح يدك بغطاء فراشها، وبقينا كأن على صدر كل منا حجرا.
ونقلت إلى عربة حيث عاينني طبيب فوجد أن الجرح غير خطر؛ لأن الرصاصة كانت استقرت بعيدا عن العظم، غير أنني كنت أتململ إلى درجة جعلت كل محاولة لتضميد الجرح مستحيلة، وعندما تحركت العربة للمسير رأيت يد خصمي قابضة على عارضة الباب وهي ترتجف، وكنت أشعر أنه مخلص في ندمه، ولكنني لم أكن بحالة تمكنني من التغلب على ثورة أعصابي لمنحه الغفران.
ولما وصلت إلى مسكني كان قد نزف من دمي ما يكفي لتهدئة فوران الغضب، وكان أشد علي من آلام جرحي. استلقيت على فراشي مرتاحا، وتناولت من الماء كأسا لم أشعر بلذة مثل لذته في أية كأس شربتها في حياتي.
Halaman tidak diketahui