عفوا أيها الشاعران العظيمان! أنتما الآن ذرات رماد يفترش القبور، أنتما في عداد أنصاف الآلهة، أيها الشاعران، وما أنا إلا فتى يضنيه العذاب، ولكنني وأنا أسطر هذه الكلمات لا أمتلك نفسي من إرسال اللعنة عليكما.
لماذا لم تتغنيا بعطر الأزهار وأناشيد الطبيعة، وبالأمل والحب وبالكروم، وشعاع الشمس، وبأنوار الشفق، وروعة الجمال؟ لقد عرفتهما كنه الحياة، ورأيتما الدنيا تتداعى فبكيتما على الأطلال، وأرسلتما أنين البائسين. لقد ذقتما خيانة الخليلات، وجفاء الأصدقاء، واحتقار أبناء الوطن، فدارت بكما أشباح الموت، وشعرتما بعفاء القلب. لقد كان كل منكما جبارا من جبابرة الأحزان، ولكن قل أنت يا جوته! أما سمعت أذناك صوتا واحدا يؤاسي الحزين في هدير الأحراج المقدسة في بلادك؟ أفما تمكنت - وأنت من يعرف أن الشعر صنو الفلسفة - من العثور على زهرة السلوان في هذه الطبيعة الواسعة؟ ألم تلهمك الروح - وأنت المتصوف المعتقد بوحدة الوجود - ما يعينك على سكب قليل من العسل في تلك الكئوس الرائعة التي نحتها للأجيال، وقد كانت ابتسامة واحدة منك كافية لاستهواء النحل فتنزل بجنيها على شفتيك.
وأنت يا بيرون! ألم تكن عائشا تحت سماء إيطاليا الجميلة؟ ألم تكن تناجي أمواج الإدرياتيك وإلى جنبك المرأة التي أحببت؟
أنا الذي أوجه إليك هذه الكلمات الآن، وما أنا إلا فتى ضعيف تحمل من الحياة ما لم تتحمله أنت من مصائبها وآلامها، إنني أؤمن بالأمل وأبارك الله.
وما هبت زعازع الأفكار الإنكليزية والألمانية على رءوسنا حتى سادنا الاشمئزاز برهة، ثم عقبه الاختلاج المريع. لا شيء يحول أملاح العواطف إلى بارود منفجر كالتلاعب في مواطن الشك بالمبادئ العامة، وكان جوته برأسه الجبار قد اعتصر كل ما في الثمرة المحرمة من خلاصة، فخيل للناس أن من لم يقرأ جوته لا يعرف من الحياة شيئا، ويل لهؤلاء الناس! لقد انفجرت أفكارهم بملامسة أفكار جوته، فتناثرت ذرات تائهة في مهاوي الشكوك.
وساد الجحود تلك الأزمنة، فأنكر الناس كل ما على الأرض وكل ما في السماء، وما الجحود إلا آمال عاثرات تدور بها الأحزان، فكأن الإنسانية كانت قد تراخت عزائمها فدخلت طور الاحتضار، فانحنى عليها المفكرون يجسون مواضع أنباضها ليتحققوا موتها.
وكانت شبيبة فرنسا شبيهة بذلك الجندي الذي أجاب من سأله: بم تؤمن؟ فقال: إنني أؤمن بذاتي. تجيب من يورد هذا السؤال عليها: إنني لا أؤمن بشيء.
وانشطر المجتمع إلى فئتين: فئة النفوس المضطربة المتوجعة التائقة إلى المثل العليا، فكان أبناؤها يحنون الرأس، ويبكون متلفعين بأحلامهم المؤلمة كأنهم مقصبة تتمايل على مستنقع من الشقاء. أما الفئة الثانية فكانت مؤلفة من رجال المادة والشهوات يقفون بلا مبالاة على ركام الملاذ، ولا هم لهم غير إحصاء الأموال التي حشدتها أطماعهم، وما كان يتصاعد من هذا المجتمع المؤلف من الفريقين سوى زفرة وضحكة: تلك ترسلها الروح، وهذه يقذفها الجسد، وكانت الروح تقول في زفرتها: إن الدين يتداعى، وهذه سحب السماء أصبحت غيوما تتساقط أمطارا. لقد فقدنا الأمل وحرمنا حتى قطعة من الخشب الأسود نرفعها صليبا لنمد أيدي الضراعة نحوها. لقد تلفعت نجمة الصبح بالغيوم الكثيفة على مطلع الفجر، فكأن الشفق يقبض عليها ليصدها عن الارتفاع، وكأنها شمس الشتاء ألقت الثورة عليها براقع الدماء.
لقد فني الحب واضمحلت الأمجاد، فما أحلك الظلام في هذا الليل المترامي بأطرافه على الأرض! ولسوف ندرك الموت قبل أن يتداركنا نور الصباح .
أما الأجساد فكانت تقول في ضحكتها: لقد وجد الإنسان للتمتع بحواسه، ولديه من القطع الصفراء والبيضاء ما يقيس به حق تمتعه بالكرامة، وما الحياة إلا الطعام والشراب والرقاد. أما العلاقات الاجتماعية فمنها المودة القائمة على استقراض المال، وقد تجد صديقا تدفع العواطف به إلى هذه التضحية، ومنها صلات القربى، وهي نافعة للحصول على الميراث، ومنها الحب، وما الحب إلا رياضة بدنية. وليست اللذة العقلية إلا نوعا من الغرور والكبرياء، وهكذا كان اليأس يتمشى بخطواته الواسعة ذارعا أرض أوروبا كأنه الطاعون ينتشر في نهر الكانج في آفاق آسيا، وكان شاتوبريان قد قبض على صولجان إمارة الشعر، فلف اليأس برداء أسفاره ورفعه كالصنم على هيكل تتعالى حوله عبقات البخور، فانحنت شبيبة فرنسا على قواها المكبوتة يائسة تكرع كأس الآلام حتى الثمالة، وملأت الأقطار نفثات الأقلام المضللة بأدب لا لون له، فكأنه رشاش من دم آسن يرسل لتغذية مسوخ الحياة.
Halaman tidak diketahui