لا يدون تاريخ حياته من لم يبتل الحياة، فما أكتبه ليس تاريخا لحياتي. •••
منيت في شرخ الصبا بعلة نفسية تروعت لها ثلاثة أعوام، وها أنا ذا أسرد ما تحملته منها.
ولو أنني كنت المصاب وحدي بهذه العلة لاخترت كتمانها، ولكن الكثيرين يشكون الداء الذي أشكو. فإلى هؤلاء أوجه رسالتي، وسواء استوقفهم بياني أو مروا به غافلين؛ فإن هذا البيان سينهش ما أطبقت النوائب عليه مني كما ينهش الثعلب رجله ليتركها للفخ وينجو بنفسه.
الفصل الثاني
في إبان الحروب الإمبراطورية، بينما كان الآباء والإخوة في بلاد الألمان، قذفت الأمهات المضطربات هذا الوجود بسلالة شاحبة عنيفة مستعرة الأحشاء؛ تلك سلالة تمخضت الحياة بها بين معركتين، وربيت في المدارس على دوي الطبول، فكان إذ ذاك ألوف من الأولاد يحدج بعضهم البعض الآخر شزرا، وهم يمرنون على القوة عضلاتهم الضعيفة، وكان الآباء الملطخون بالدماء يلوحون للأبناء من حين إلى حين، فيرفعونهم لحظة إلى صدورهم المحلاة بالذهب، ثم يتركونهم إلى الأرض ويعودون إلى صهوات الجياد.
ولم يكن في فرنسا غير رجل واحد يتمتع بالحياة، أما الباقون فكانوا يجتهدون أن يملئوا صدورهم من الهواء الذي كان ينشقه ذلك الرجل ثم يزفر به إلى الناس. وكانت البلاد تقدم له كل سنة ثلاثمائة ألف من شبانها جزية فرضت للقيصر؛ ليتمكن وهو يجرها كالسائمة وراءه من بلوغ الأمجاد التي يطمح إليها، بل ذلك هو الركب الذي كان يحتاج إليه ليجتاز الدنيا متجها إلى الوادي الحقير حيث ترامى على جزيرة قفراء تحت أغصان الصفصاف الباكي.
وما مرت في التاريخ ليال ساهدة كالليالي التي مرت في عهد هذا الرجل! وما شوهد في أي زمن من الأزمان مثل هذا العدد الغفير من الأمهات ينتحبن متفجعات باكيات على الأسوار والحصون! وما أصغى الناس برهبة إلى من يتحدثون عن الموت إصغاءهم في تلك الأزمان. ومع ذلك لم يشهد التاريخ مثلما تجلى في ذلك العهد من سرور ومن قوة حياة، وما أوقدت موسيقى الحروب من حماس في كل القلوب، وما لمعت في فرنسا شموس كتلك الشموس التي جففت على الأرض أنهارا من الدماء، وكان الناس يصفونها بشموس أوسترلتز، ويعتقدون أن الله إنما يشرقها لخدمة ذلك الرجل، غير أنه هو كان يطلقها من أفواه مدافعه المرعدة، فلا تنعقد من نيرانها الغيوم إلا في اليوم التالي لمعاركه.
وكان أبناء ذلك العصر ينشقون الحياة تحت تلك السماء الصافية الأديم، حيث لمعت الأمجاد، وتموجت الأنوار منعكسة على الفولاذ، وما جهلت تلك الشبيبة أنها معدة للمجازر، ولكنها كانت تعتقد أن «مورات» أرفع من أن يناله الموت - وكانت رأت الإمبراطور يمر بين كرات المدافع، ويقطع أحد المعابر هازئا بنفثات البنادق، فداخلها الشك في إنسانيته، وحسبته من أبناء الخلود.
وما كان ملك الموت ليلقي الذعر في روع هذه الشبيبة وهو متشح برداء البهاء والجلال، تتصاعد منه أبخرة النجيع كأنه بشير الأمل لا نذير الفناء، وكأنه وقد حصد بمنجله حقولا من السنابل الخضراء، استمد منها الفتوة فلاح غض الإهاب، ناضر الشباب.
لقد أصبحت الشيخوخة وهما من الأوهام، واستحالت المهود كما استحالت النعوش أيضا دروعا، فخلت فرنسا ممن يدب على أرضها من العاجزين، فلم يبق على تلك الأرض إلا أنصاف آلهة أو أشلاء أموات.
Halaman tidak diketahui