وعدت إلى التفكير في حيلة تهتك الأستار أمامي، فإذا بي أتذكر قصة من قلم ديدرو عن امرأة تأكلتها الغيرة على عشيقها، فلجأت إلى حيلة غريبة توصلا لجلاء ريبتها به؛ إذ صرحت له بزوال حبها له، وبأنها عازمة على هجره. وكان هذا العاشق يدعى المركيز أرسيس، على ما أذكر، فوقع في الحبالة واعترف لخليلته بأنه هو أيضا لم يعد يشعر بالحب لها.
وكنت قرأت هذه القصة وأنا في زمن المراهقة فأعجبت بحيلة بطلتها، وعندما عنت لخاطري وأنا في هذا المأزق ابتسمت وقلت في نفسي: لعل بريجيت تقع في الشرك نفسه إذا أنا مددته لها فتفضي إلي بسرها.
وهكذا انتقلت من حالة الهياج والغضب إلى المراوغة والمخاتلة، وخيل لي أن اقتياد امرأة إلى الإقرار ليس من صعاب الأمور، وقلت في نفسي: ما دامت هذه المرأة خليلتي فلن أعجز عن استنطاقها إلا إذا كنت من صعاليك الرجال.
وتراخيب مستلقيا على مقعدي وتكلفت عدم المبالاة والمرح، فقلت: أما ترين أن زمن التصريح قد حان؟
وإذ رأيتها تنظر إلي بعيني الاستغراب ذهبت في حديثي قائلا: لا بد من التوصل يوما إلى المصارحة بالحقائق، وسألجأ إلى اقتحام هذه الصراحة فأكون قدوة تحررك من كل حذر، وليس خير من التفاهم والاتفاق بين الأصدقاء.
وما توقفت عن ذرع الغرفة ذهابا وإيابا كأنها لم تسمع كلماتي، وقد رأت ولا ريب على أسارير وجهي ما يكذب بياني، فتابعت قائلا: لا تجهلين أننا منذ ستة أشهر نعيش جنبا إلى جنب، وما كان أبعد حياتنا عن السرور أو ما يشبهه، أنت في مقتبل العمر وأنا كذلك، فهل لو شعرت بنفور من هذه المصاحبة تجدين في نفسك ما يدفعك إلى مصارحتي بنفور؟ وما أكتمك أنني لو مللت هذه الصحبة فلن أتردد في الاعتراف بها؛ إذ لا يوجد سبب يحول دون هذه الصراحة؛ لأنه إذا كان الحب ليس جريمة، فلا يمكن أن نرى جرما في تناقص هذا الحب أو في زواله، وهل يستنكر أن يحتاج من في سننا إلى التغيير؟
ووقفت واجمة وهي تردد قولي: «من في سننا.» أإلي توجه هذا الكلام؟ بأي دور تريد أن تقوم في تمثيلك هذا؟
وتصاعد الدم إلى رأسي فقبضت على يدها قائلا: اجلسي واسمعي.
فقالت: ولماذا أستمع وما أنت الذي يتكلم؟
وخجلت من محاولتي المراوغة فعدلت عنها وقلت: أصغي إلي واقتربي مني. إنني أتوسل إليك أن تجلسي إلى جنبي. إذا كنت لا تزالين مصرة على الصمت فاستمعي لي على الأقل. - أنا مصغية فتكلم. - لو جاءني أحد وقال لي: أنت جبان، وأنا من لم يتجاوز الثانية والعشرين، وقد أقتحم المبارزة، فلا ريب في أنني أغضب لامتهان كرامة أعرفها في نفسي، فأسير إلى الميدان مجازفا بحياتي لأشبك سيفي بسيف نكرة من الناس، وما أقدم على هذا إلا لأثبت أنني لست جبانا، وإذا أنا لم أفعل ألصق المجتمع بي ذل الرعاديد؛ إذ لا يورد الجواب على مثل هذه الإهانة إلا كلمة السيف. - لا ريب فيما تقول، ولكن إلى أين تتجه بهذه المقدمة؟ - إن النساء لا ينزلن إلى ميدان المبارزة، غير أن لكل إنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى ساعة يناقش فيها الحساب مهما انتظمت حياته، ولا يفلت من هذا المأزق إلا رجل يرضى بالعار، وامرأة تقنع بالقطيعة والنسيان. لقد حق على كل مخلوق أن يثبت حيويته، فإذا ما هوجم رجل دافع بسيفه. أما المرأة فما يجديها امتشاق الحسام لصيانة نفسها، بل عليها أن توجد لنفسها ما يوافق موقفها من سلاح، فإذا هاجمها رجل لا تأبه له ردته بالترفع والاحتقار. أما إذا كان المهاجم محبوبا سلاحه الشك والارتياب، فلا قبل لها باحتقاره، وقد وضعت روحها في صدره. - إذا كان المهاجم محبوبا، فلا جواب إلا الصمت. - لقد أخطأت في بيان قصدك، فإن الجواب الذي ترين للمحبوب الذي يلطخ بارتيابه حياة امرأة إنما يقوم بذرف الدموع، وباستشهاد ما بذلت من صبر ومن إخلاص فيما مضى. إنك تتركين للزمان أن يظهر براءتها من التهم إذا تركها عاشقها وهو يؤاخذها بجريرة سكوتها. - لعل ذلك صحيح، ولكنني أرى الصمت أولى. - إنك تلجئين إلى الصمت! وكوني واثقة من أنني سأذهب وحدي إذا أنت لم تعدلي عن هذا السكوت. - وأخيرا ... يا أوكتاف. - أخيرا ليأت الزمان مبررا لك بعد ذلك، إنك تنتظرين عدل الزمان. - أجل، وذلك ما أرجو. - ذلك هو أملك! اسبري أقصى سريرتك؛ فهذه هي المرة الأخيرة التي يتسنى لك أن تستنطقيها أمامي. لقد قلت إنك تحبينني فصدقت، فهل تقصدين الآن تجاه ارتيابي بك أن أهجرك تاركا للزمان مهمة تبرئتك؟ - ألك أن تصارحني بريبتك؟ - ما كنت أود أن أصرح بها؛ إذ لا فائدة من هذا التصريح، ولكنني أصبحت ولا مناص لي من مقابلة الصغار بمثله. إنك تخونينني! إنك تحبين رجلا غيري، ذلك هو سرك، وذلك هو سري. - ومن هو هذا الرجل؟ - هو سميث.
Halaman tidak diketahui