بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ـ[إعراب القرآن للأصبهاني]ـ
المؤلف: إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي القرشي الطليحي التيمي الأصبهاني، أبو القاسم، الملقب بقوام السنة (المتوفى: ٥٣٥هـ)
قدمت له ووثقت نصوصه: الدكتورة فائزة بنت عمر المؤيد
الناشر: غير معروف (فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية - الرياض)
الطبعة: الأولى، ١٤١٥ هـ - ١٩٩٥ م
عدد الأجزاء: ١
أعده للشاملة/ أبو إبراهيم حسانين
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Halaman tidak diketahui
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(فاتحة الكتاب) مدنية، والبقرة مدنية، وآل عمران مدنية، والنساء مدنية، والمائدة مدنية، والأنعام مكية نزلت جملة ما خلا ثلاث آيات فإنها نزلت بالمدينة وهي قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إلى تمام الثلاث. والأعراف مكية، والأنفال مدنية، وهي أول ما أنزل بالمدينة، وقيل (البقرة هي أول ما نزل بالمدينة)، وبراءة مدنية: هي آخر ما أُنزل بالمدينة، قال ابن عباس: قلت لعثمان ما حملكم على أنّ قرنتم بين الأنفال وبراءة، والأنفال من الثاني، وبراءة من المئين، فلم تكتبوا بينهما سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)؟ - فقال عثمان: إن السورة والقصة والآية كنَّ إذا نزلن على النبي ﷺ قال لبعض من يكتب الوحي: " ضعوها إلى موضع كذا. وإلى جنب كذا "، وإنَّ براءة نزلت والنبي ﷺ لم يتقدم فيها إلينا بشيء، وقصتها تشبه قصة الأنفال، فخفنا أن تكون منها وخفنا أنّ لا تكون منها. فمن ثم قرنا بينهما. ولم نكتب سطر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، يونس مكية وهود مكية، ويوسف مكية، والرعد مكية، وإبراهيم مكية ما خلا آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة في قتلى بدر من المشركين، وهما (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا) إلى تمام الآيتين، الحجر مكية، والنحل مكية، ما خلا ثلاث آيات من آخرها فإنها نزلت بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله ﷺ، وقد قتل حمزة ﵁، ومثل المشركون به، قال النبي ﷺ: " لئن أظفَرنا اللهُ بهم لنُمثلن بهم مُثَلا لم تُمثْل بأحد منَ العرب)، فأنزل الله تعالى بين مكة والمدينة (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخر السورة، وما نزل بين مكة والمدينة فهو مدني، وسورة بني إسرائيل مكية، والكهف مكية، ومريم مكية، وطه مكية، والأنبياء مكية. والحج مكية،
1 / 1
ما خلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة في ستة نفر، ثلاثة منهم مؤمنون وثلاثة كافرون؛ فأما المؤمنون فعبيد بن الحارث بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ﵃، وأما الكافرون فعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فأنزل الله ﷿ بالمدينة (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) إلى تمام ثلاث الآيات، سورة المؤمنين مكية، النور مدنية، والفرقان مكية. والشعراءُ مكية، ما خلا خمس آيات من آخرها فإنها نزلت بالمدينة وهي قوله ﷿: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني حسَّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، هَؤُلَاءِ شعراء رسول الله ﷺ إلى آخر السورة. والنمل مكية، والقصص مكية، والعنكبوت مكية. والروم مكية، ولقمان مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة، وذلك أنّه لا قَدِم رسول الله ﷺ المدينة أتته أحبار اليهود فقالوا: يا محمد بلغنا أنك تقول: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) أفعنيتنا أو عنيت قومك؛ - فقال ﷺ: عنيت الجميع. فقالوا: يا محمد أما تعلم أنّ الله جل وعز أنزل التوراة على موسى بن عمران ﵇، والتوراة فيها أنباء كل شيء، وخلفها موسى فينا ومعنا؛ - قال النبي ﷺ لليهود: التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله ﷿، فأنزل الله تعالى في المدينة: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) إلى تمام الآيات الثلاث، و(الم السجدة) مكية، ما خلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالدنية في علي بن أبي طالب ﵁ والوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط، وذلك أنّه شجر بينهما كلام قال الوليد لعلي بن أبي طالب ﵁: أنا أذرب منك لسانًا، وأحذ سنانا، وأرد للكتيبة. فقال له علي ﵁: اسكت. فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى بالمدينة: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ) إلى تمام الآيات. الأحزاب مدنية، سبًا مكية فاطر مكية، يس مكية، الصافات مكية، (ص) مكية، الزمر مكية، ما خلا ثلاث آيات منها.
1 / 2
فإنها نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة ﵁، وذلك أنّه أسلم ودخل المدينة، فكان يثقل على رسول الله ﷺ النظر إليه ... ظن وحشي وتوهم أنّ الله ﷿ لم يقبل إسلامه. فأنزل الله ﷿ بالمدينة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إلى تمام ثلاث الآيات، والحواميم السبع كلهن مكيات، وسورة محمد ﷺ مدنية، وسورة الفتح مدنية، والحجرات مدنية، وق مكية، والذاريات مكية، والطور مكية. والنجم مكية، والقمر مكية، والرحمن مكية، والواقعة مكية، وسورة الحديد مدنية، وسورة المجادلة مدنية، وسورة الحشر مدنية، وسورة الممتحنة مدنية، وسورة الصف مدنية، والجمعة مدنية. المنافقون مدنية، التغابن مكية ما خلا ثلاث آيات من آخرها فإنها نزلت في عارف بن مالك الأشجعي. وذلك أنّه شكا إلى رسول الله ﷺ جفاء أهله وولده به، فأنزل الله ﷿ بالمدينة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) إلى آخر السورة، والطلاق مدنية، والتحريم مدنية، الملك مَكية، ون والقلم مكية، الحاقة مكية، سأل سائل مكية، نوح مكية، سورة الجن مكية، المزمل مكية، ما خلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى تمام الآية، ثم الفرقان بعد ذلك كله مكي إلى أن يبلغ (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) فإنها مدنية. لم يكن مدنية. إذا زلزلت مكية، والعاديات مكية، القارعة مكية، والتكاثر مكية، والعصر مكية، الهمزة مكية، الفيل مكية، لإيلاف قريش مكية، وقال هما سورة واحدة، أرأيت مكية، الكوثر مكية، الكافرون مكية، النصر مدنية. تبت يدا أبي لهب مكية، الإخلاص مكية، الفلق مدنية، الناس مدنية.
1 / 3
البسملة
روى السُّدِّي عن أبي مالك عن ابن عباس في قوله ﷿:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: ملك الله.
و(الله): الذي يأله إليه خلقه.
و(الرحمن): قال المترحم على خلقه، الرحيم بعباده فيما ابتدأهم به من كرامته، ويروى عنه أيضا أنّه قال: الرحمن الرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، وقيل في الجمع بينهما: إنَّ (الرحمن) أشد مبالغة، و(الرحيم) أخص منه؛ فالرحمن لجميع الخلق، والرحيم للمؤمنين خاصة، قال محمد بن يزيد هو تفضل بعد تفضل، وإنعام بعد إنعام، ووعد لا يخيب آمله.
وأصل الرحمة رقةً في القلب، والله تعالى لا يوصف بذلك إلا أنّ معنى الرقة يؤول إلى الرضا؛ لأنّ من رحمته فقد رضيت عنه، وإذا احتملت الكلمة معنيين أحدهما يجوز على الله والآخر لا يجوز عليه، عدل إلى ما يجوز عليه، ومثل ذلك همزة الاستفهام تأتي في غالب الأمر على جهلٍ من المستفهم، فإذا جاءت من الله ﷿ كانت تقريرًا وتوبيخًا، نحو قول الله تعالى: (آللهُ أذنَ لكُم أم عَلى اللهِ تَفترون)، قال مقاتل بن سليمان في الاستفتاح من حساب الجمل سبعمانة وسبع وثمانون سنة من مُدة هذه الأمة. قال الخليل: (بسم الله) افتتاح إيمان ويمن وحمدُ عاقبة ورحمة وبركةَ وثناء وتقرب إلى الله ﷿ ورغبة فيما عنده واستعانة ومحبة له علم الله ﷿ نبينا ﵇ فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وقال (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وقال لنوح ﵇:
1 / 4
(بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ليجعلها سنة لأمته في افتتاح الذبائح والطعام والشراب والكلام، وأن يذكروه عتد كل حركة وسكون وإذا قاله العبد يسر الله تعالى له ما بين يديه من السماء إلى الأرض وثبَّته وحرسه من وسواس الشيطان واعتراض المعترضين وفساد المفسدين وكيد الحاسدين، وهو تحية من الله ﷿ خصَّ بها نبيه وجعله باللسان العربي، ما لم يكن لسائر الأمم إلا ما كان من سليمان، فلما وردت على العرب اضطروا إلى قبولها وتدوينها والإقرار بفضلها ولفظوا بها عند وجوب الشكر وطلب الصبر. قال غير الخليل هو أدب من آداب الدين: مدح لله تعالى وتعظيم، وشعار للمسلمين، وتبرك للمستأنف، وإقرار بالإلاهية، واعتراف بالنعمة. واستعانة بالله ﷿، وعبادة له مع ما فيه من حسن العبارة ووضوح الدلالة والإفصاح والبيان لما يستحقه الله من الأوصاف، وفيه من البلاغة والاختصار في موضعه بالحذف على شرائطه إذ موضوع هذه الكلمة على كثرة التكرير وطول الترديد، وفيه الاستغناء بالحال الدالة على العبادة عن ذكر أبدًا؛ لأنّ الحال بمنزلة الناطقة بذلك، وفيه من البلاغة تقديم الوصف بالرحمن تشبيهًا بالأسماء الأعلام.
* * *
مسألة:
ومما يسأل عنه من الإعراب أن يقال ما موضع الباء من (بسم الله)؟
والجواب: أنَّ العُلماء اختلفوا في ذلك، فذهب عامة البصريين إلى أنَّ موضع الباء رفعَ على تقدير مبتدأ محذوف تمثيله: ابتدائي بسم الله، فالباء على هذا متعلقة بالخبر المحذوف الذي قامت مقامه تقديره: ابتداني كائن أو ثابت أو ما أشبه ذلك باسم الله، ثم حذفت هذا الخبر وكان فيه ضمير فأفضى إلى موضع الباء وهذا بمنزلة قولك: زيد في الدار، ولا يجوز أن يتعلق الباء بابتداني المضمر؛ لأنّه مصدر، وإذا تعلقت به صار من صلته، وبقي المبتدأ بلا خبر. وذهب عامة الكوفيين وبعض البصريين إلى أنَّ موضع الباء نصب على إضمار فعل، واختلفوا في تقديره.
1 / 5
فذهب الجمهور منهم إلى أنَّه يضمر فعلا يشبه الفعل الذي يريد أن يأخذ فيه؛ كأنّه إذا أراد الكتابة أضمر: أكتب، وإذا أراد القراءة أضمر: أقرأ، وإذا أراد الأكل والشرب أضمر: آكل وأشرب.
ومما يسأل عنه أن يقال لم جرّت الباء؟
والجواب: أنها لا معنى لها إلا في الأسماء، فعملت الإعراب الذي لا يكون إلا في الأسماء؛ وهو الجر.
ويقال: لم حُركت وأصلها السكون؟
والجواب: أن يقال حُركت للابتداء بها ... . بساكن؛ لأنَّ اللسان يجفو عنه.
ويقال: فلم اختير لها الكسر؟
والجواب: أنّ أبا عمر الجرمي قال كسرت تشبيها بعملها؛ وذلك أنّ عملها الجرُّ وعلامة الجرُّ الكسرة، فاعتُرض عليه بعد موته بأن قيل: الكاف تجر وهي مع ذلك مفتوحة، فانفكَّ أصحابه من هذا الاعتراض بأن قالوا: أرادوا أن يفرقوا بين ما يجر ولا يكون إلا حرفا نحو الباء واللام، ويين ما يجر وقد يكون اسما نحو: الكاف. وأما أبو علي فحكى عنه الربعي أنّهم لو فتحوا أو ضموا لكان جائزًا لأنّ الغرض التوصل إلى الابتداء، فبأي حركة توصل إليه جاز، وبعض العرب يفتح هذه الباء وهي لفة ضعيفة.
* * *
مسألة:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما وزن (اسم) وما اشتقاقه؟
والجواب: أنّه قد اختلف فيه، فذهب البصريون إلى أنّه من السمو؛ لأنَّه سما بمسماه فبينه وأوضح معناه.
1 / 6
وذهب الكوفيون إلى أنّه من السمة؛ لأنَّ صاحبه يُعرف به وقول البصريين أقوى في التصريف. وقول الكوفيين أقوى في المعنى، فمما يدلُّ على صحة قول البصريين قولهم في التصغير (سُميّ) وفي الجمع (أسماء) وجمع الجمع (أسامٍ)، ولو كان على ما ذهب إليه الكوفيون لقيل في تصغيره (وسيم) وفي جمعه (أوسم)، وفي امتناع العرب من ذلك دلالة على فساد ما ذهبوا إليه، وأيضًا فإنا لم نرَ ما حُذِفت فاؤه دخلت فيه همزة الوصل، وإنما تدخل فيه تاء التأنيث نحو: عدد وزنة. وقد قيل: هو مقلوب جعلَت الفاء في مكان اللام؛ كأنّ الأصل (وسم) ثم أخرت الواو وأعلت: كما قالوا (طادٍ) والأص (واطد)، قال القطامي:
ما اعتَادَ حبُّ سُليمى حَيْنَ مُغتادِ ... ولا تَقَضّى بواقي دَيْنَها الطادي
فوزنه على هذا (عالف) وكذا قيل في حادي عشر أنّه مقلوب من واحد، ووزن اسم (اعل) أو (أفع) والأصل (سُمو) أو (سمْو) بإسكان الميم فأعل على غير قياس، وكان الواجب أنّ لا يُعل؛ لأنّ الواو والياء إذا سكن ما قبلهما صحّتا نحو: صنوٍ وقنوٍ ونحيٍ وظبيٍ وما أشبه ذلك، وقيل وزنه (فُعل) بضم الفاء، وقيل (فِعل) بكسرها، لقولهم (سِمٌ) و(سُمٌ) ولم يسمع (سَمٌ) بفتح السين، أنشد أبو زيد:
باسْمِ الذي في كلِّ سورةٍ سُِمُهْ .. قد أُخَذت على طريقٍ تِعلمُه
يروى بضم السين وكسرها، ثم حذفت الواو على غير قياس، وكان يجب أن تُقلب ألفا كما فعل في نحو: رِبا وعَصَا وعُرًا وما أشبه ذلك؛ لأنّ الواو والياء إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما قُلبتا ألفًا على كل حال، إلا أنّهم أرادوا أن يفرقوا بين المتشبث وغير المتشبث؛ فالمتشبث نحو: أخٍ وأبٍ، لأنك إذا ذكرت كلّ واحد منهما دل على نفسه وعلى معنى آخر ألا ترى أنك إذا ذكرت أبا دلَّل على ابن، وإذا ذكرت ابنا دلّل عدى أبٍ، وإذا ذكرت أخًا دلَّل على أخ أو أخت؛ إلا أنّ هذا المحذوف أتى على ضربين: أحدهما لم يقع فيه عِوَض من المحذوف نحو: أبٍ وأخٍ، والثاني عوض فيه من المحذوف همزة نحو: اسم وابن، وهذه الأسماء التي دخلتها همزة الوصل مضارعة للفعل، لأنها مفتقرةٌ إلى غيرها فصارت بمنزلة الفعل المفتقر إلى فاعله
1 / 7
وأصل هذه الهمزة أن يكون في الأفعال، فلما ضارعت هذه الأسماء الأفعال اسكنوا أوائلها وأدخلوا فيها همزات الوصل. وفي اسم خمس لغات يقال (إِسم) بكسر الهمزة و(أُسم) بضمها في الابتداء و(سُم) و(سِم) و(سُمى) بمنزلة هدى، هذه اللغة حكاها ابن الأعرابي، فأما ما أنشد أبو زيد من قول الشاعر:
لأحسَنِها وَجهًا وأكرمها أبًا ... وأسمَحِها نَفْسًا وأُعلنِها سُما
فيجوز أن يكون (فُعلا) مثل: هُدى، أو تكون الألف منقلبة عن لام الفعل، ويجوز أن تكون الألف ألف النصب التي تدخل في نحو قولك: رأيت زيدا، وهذا الاحتمال على مذهب من ضمُّ السين، فأما من كسرها فالألف ألف النصب على كل حال.
* * *
مسألة:
ومما يسأل عنه أن يقال: مما اشتُق قوله (الله) وما أصله؟
والجواب: أنّ فيه خلافا؛ ذهب بعضهم إلى أنّه مِن (الولهان) قال: لأنّ القلوب تلهُ إلى معرفته، وقيل اشتقاقه من (أُلِهَ يأله) إذا تحيّر، كأن العقول تتحير فيه عند الفكرة فيه، قال الشاعر وهو زهير:
وَبيداءَ قَفْرتألهُ العينُ وَسطهِا ... مُخفَقهٍ غَبْراءَ صَرماء سَملقِ
وقال الفراء: هو من لاه يليه ليها، إذا استتر كأنَّه قد استتر عن خلقه ويروى عن علي ﵁ أنّه قال: معناه المستور عن درك الأبصار، المحتجبِ عن الأوهام والأخطار، أنشدوا في ذلك:
تاهَ العِبَادُ ولاهَ اللهُ في حُجُبٍ ... فاللهُ محتجب سبحانهُ اللهُ.
1 / 8
وذهب الخليل وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن إلى أنّه اسم علمٍ غير مشتقٍ من شيء، والذي يذهب إليه المحققون أنّه من التأله وهو التعبد والتنسك قال رؤبه:
لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّةِ ... سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي
أي: من تعبدي وتنسكي، حكى أبو زيد: تأله الرجل يتأله، وهذا يحتمل عندنا أن يكون اشتق من اسم الله ﷿ على حد قولك: استحجر الطين، واستنوق الجمل، فيكون المعنى: أنّه يفعل الأفعال المقربة إلى الله تعالى التي يستحق بها الثواب. ويحتمل أن يكون الاسم مشتقا من هذا الفعل نحو: تعبَّد. وتُسمى الشمس (الاهة) و(الإلاهة) رُوي لنا ذلك عن قطرب، وأنشد:
تَرَوَّحْنا من اللَّعْباءِ عَصْرًا ... وأَعْجَلْن الإلهة أن تغيبا
وكأنهم سموها إلاهة على نحو تعظيمهم لها وعبادتهم إياها، ولذلك نهاهم الله عن ذلك، وأمرهم بالتوجه في العبادة إليه دون خلقه فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) ويدل على هذا ما حكاه أحمد بن يحيى أنّهم يسمونها إلاهة غير مصروفة. فدل ذلك على أنّ هذا الاسم منقول إذ كان مخصوصا، وأكثر الأسماء المختصة الأعلام منقول نحو: زيد وعمرو، وقرأ ابن عباس (ويذرَك وإلاهَتَك) أي: وعبادتك وكان يقول: كان فرعون يُعبَد ولا يعبُدُ. وأما قراءة الجماعة (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) فهو جمع (إله) كإزار وآزرة، وإناء وآنية. والمعنى على هذا: أنّه كان لفرعون أصنام يعبدها شيعته وأتباعه، فلما دعاهم موسى ﵇ إلى التوحيد حضوا فرعون عليه وعلى قومه، وأغروه بهم، ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ) وأما الأصل في قولنا (الله) فقد اختلف قول سيبويه في ذلك؛ فقال مرة الأصل (إله) ففاء الكلمة على هذا همزة وعينها لام والألف الف فِعال زائدة واللام هاء، وقال مرة الأصل (لاه) فوزنه على هذا، (فَعلٌ). ولكلٍّ من هذين القولين وجه، وإذا قدرته على الوجه الأوّل فالأصل (إلهٌ) ثم حُذفت الهمزة حذفًا
1 / 9
لا على طريق التخفيف القياسي في قولك: الخب في الخبء، وضو في ضوء، فإن قال قائل: فلم قدرتموه هذا التقدير؛ وهلا حملتموه على التخفيف القياسي؛ إذ كان تقدير ذلك فيه سائغًا غير ممتنع، والحمل على القياس أولى من الحمل على الحذف الذي ليس بقياس؟ - قيل له: إن ذلك لا يخلو من أن يكون على الحذف الذي ذكرناه وهو مذهب سيبويه، أو على الحذف القياسي وهو مذهب الفراء وذلك أنّ الهمزة (١).
_________
(١) بعد هذه الصفحة يوجد سقط يشمل بقية سورة الفاتحة وأول سورة البقرة حتى الآية الرابعة عشرة
1 / 10
سُورَة البقرة
فصل
(إذا) في الكلام على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ظرفا زمانيا، وفيها معنى الشرط،: لا يعمل فيها إلا جوابها نحو ما في هذه الآية من قوله تعالى (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) فالعامل في إذا (قالوا)؛ لأنَّه الجواب، ولا يجوز أن يعمل فيها (لقوا) لأنها في التقدير مضافة إلى لقوا، ولا يعمل المضاف إليه في المضاف، وكذا (إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) العامل فيها (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).
والثاني: أن يكون ظرفًا مكانيًا نحو قولك: خرجت فإذا الناسُ وقوفٌ ويجوز أن تنصب (وقوفًا) على الحال؛ لأنَّ (إذا) ظرف مكان، وظروف المكان تكون أخبارًا عن الجثث، وهذه المسألة التي وقع الخلاف فيها بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيى بن خالد بن برمك. حدثنا أبو الحسن الحوفي بمصر عن أبي بكر بن الأدفوني عن أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس عن علي بن سليمان حدثنا أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد قالا: لما ورد سيبويه بغداد شق أمره على الكسائي، فأتى جعفر بن يحيى والفضل بن يحيى فقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي، فقالا له: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما، فجمعا بينهما عند أبيهما، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر، وغيرهما من أصحابه، فسألوه: كيف تقول (أظنُ العقربَ أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها)؟ - قال: أقول فإذا هو هي، فأقبل عليه الجميع فقالوا: أخطأت ولحنت، فقال يحيى: هذا موضع مشكل، أنتما إماما مصريكما. فمن يحكم بينكما؟ - فقال الكسائي وأصحابه: الأعراب الذين على الباب، فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم. فقالوا: نقول (فإذا هو إياها)، وانصرف المجلس على أنّ سيبويه قد أخطأ، وحكموا عليه بذلك. فأعطاه
1 / 11
البرامكة، وأخذوا له من الرشيد وبعثوا به إلى بلده فما لبث بعد هذا إلا يسيرًا حتى مات، ويقال إنه مات كمدا. قال علي بن سليمان. وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون: إنّ الجواب على ما قال سيبويه: فإذا هو هي، وهذا موضع الرفع، وهو كما قال علي بن سليمان؛ وذلك أنّ النصب إنما يكون على الحال نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوفا، وجاز النصب هاهنا لأنّ (وقوفا) نكرة، والحال لا تكون إلا نكرة، فإذا أضمرت بطل أمر الحال؛ لأنَّ المضمر معرفة. والمعرفة لا تكون حالا، فوجب العدول عن النصب إلى الرفع نحو ما أفتى به سيبويه من أنّه يقول: فإذا هو هي، كما تقول: فإذا الناس وقوف.
والوجه الثالث: أن يكون جوابا للشرط نحو قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (٣٦).
ونحن: مبتدأ، و(مُسْتَهْزِئُونَ): الخبر، وموضع. الجملة نصب لقالوا؛ كما تقول: قلتَ حقا أو باطلا. و(نحن) مبنية لمشابهتها الحروف، وفي بنائها على الضمة أوجه:
أحدها: أنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع.
والثاني: أنها ضمير الجمع. والضمة بعض الواو، والواو تكون علامة للجمع نحو: قاموا ويقومون.
وقال الكسائي: الأصل (نَحُن) بضم الحاء فنقلت الضمة إلى النون، وهذا القول ليس عليه دلالة تعضده.
وقال الفراء بنيت (نحن) على الضم؛ لأنها تقع على الاثنين والجماعة، فقووها بالضمة لدلالتها على معنيين.
ويعمهون: في موضع نصب على الحال والعامل فيه نمدهم.
1 / 12
قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)
المثَل والمِثْل والمثيل بمعنى واحد. كما يقال: شِبْه وشَبه وشبيه.
والاستيقاد: استفعال من الوقود، والوقود بالضم: مصدر وقدت النار وقودا، والوقود بالفتح: الحطب.
والنار معروفة، وألفها منقلبة عن واو. وأصل منافع النار خمسة:
الاستضاءة بها. والانضاج، والاصطلاء، والتحليل، والزجر.
والإضاءة: أصله الوضوح يقال ضاءت النار وأضاءت لغتان.
ويقال: جلسوا حوله وحوليه تثنية حول، وحواليه تثنية حوال وأحواله وهو جمع، قال امرؤ القيس:
ألَسنتَ تَرَى السُّمارَ والناسَ أحوالي
والذهاب بالشيء كالمرور به. والظلمة معروفة، ونقيضها الضياء، والمعنى في الآية: أنّ مثل المنافقين مثل قوم كانوا في ظلمة، فأوقدوا نارا فلما أضاءت النار ما حولها أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فالظلمة الأولى التي كانوا فيها الكفر. واستيقادهم النار قولهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فلما أضاءت لهم ما حولهم، واهتدوا، خلوا إلى شياطينهم فنافقوا وقالوا (إنَّما نحن مُسْتَهْزِئُونَ) فسلبهم الله نور الإيمان وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون.
ثم ضرب لهم مثلا آخر شبيها بهذا فقال:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)
والصيِّب: المطر. والظلمة: ظلمة الليل وظلمة السحاب، والرعد دليل على شدة ظلمة الصيِّب وهوله، أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر، فضرب الظلمات لكفرهم مثلا. والبرق لتوحيدهم مثلا.
و(أو) هاهنا للإباحة، أي إن شبهتهم بالمثل الأول كنت مصيبا، وإن شبهتهم بالمثلين فكذلك أيضًا.
1 / 13
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف شبّه المنافقين وهم جماعة بالذي استوقد نارا وهو واحد؟
وفي هذا ثلاثة أجوية:
أحدها: أن يكون (الذي) في معنى الجميع كما قال تعالى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣)
وكما قال الشاعر:
وإِنَّ الَّذِي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خالِدِ
والثاني: أن تجعل النون محذوفة من الذي، والأصل عنده (الذين) كما حذفها الأخطل في التئنية وذلك قوله:
أَبَني كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ... قَتَلا المُلُوكَ وفَكَّكا الأَغْلالَ
ومنهم من أنكر ذلك في الآية وحمله على أنّ (الذي) اسمٌ مبهم كـ (من) يصلح أن يقع للجميع ويصلح أن يقع للواحد كما قال (ومنهم من يستمع إليك) وقال فى موضع آخر (ومِنْهُم مَنْ يسْتَمعونَ إليكَ) وأخرج الأول على اللفظ، والثاني على المعنى وهذا وجهٌ حسن. وقد ذكر أنّ (الذي) يأتي في معنى (الذين) الأخفش وغيره، فهذان وجهان: الأول منهما على حذف النون، والثاني على أنّه اسم مبهم يقع للواحد والجمع.
والثالث: أن يكون الكلام على حذف كأنّه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي استوقد نارا ثم حذف
1 / 14
المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، قال الجعدي:
فكيف تُواصلُ مَن أصبَحتْ ... خلالتُه كأبي مَرحَب
يريد: كخلالة أبي مرحب.
* * *
فصل:
قوله (مثلهم) مبتدأ، و(كمثل الذي) الخبر، والكاف زائدة، والتقدير: مثلهم مثل الذي استوقد نارًا، ومثل زيادة الكاف هاهنا قوله تعالى: (ليس كمِثلهِ شيء) والمعنى ليس مثله شيء، ولا يجوز أنّ تكون الكاف غير زائدة؛ لأنّه يصير شركا، وذلك أنك كنت تثبت لله مثلا، ثم تنفي الشبه عن ذلك المثل، ويصير التقدير: ليس مثل مثله شيء، وهذا كما تراه، فأما قول محمد بن جرير أنّ (مثلا)
بمعنى: ذات الشيء، كأنّه قال: ليس كهو شيء، فليس بشيء؛ لأنّه يرجع إلى ما منعنا منه أولًا من إثبات المثل، ومثل زيادة الكاف ما أنشده سيبويه لخطام المجاشعي:
وصالياتٍ كَكما يُؤَثْفَيْنْ
وهذا قبيح لإدخال الكاف على الكاف، والآية إنما فيها إدخال الكاف على مثل، وهذا حسن، وقد أدخلوا (مثلا) على الكاف، قال الراجز:
فأصبحوا مثل كعصفٍ مأكول
و(استوقد نارا) وما اتصل به من صلة (الذي)، والعائد على (الذي) المضمر الذي في (استوقد). وتقريبه على المبتدئ أن يقال له: كأنك قلت: الذي استوقد هو نارًا.
1 / 15
و(لمَّا) في الكلام على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، وهذه محتاجة إلى جواب نحو قولك: لمّا قام زيد قمت معه، والتي في الآية من هذا الباب، فإن قيل: فأين الجواب؟ - قيل: محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ومثله قوله تعالى (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا» كأنّه قال: فاز أو ظفر، والعرب تحذف للإيجاز قال أبو ذؤيب:
عصاني إليها القلبُ إني لأمرِه ... مطيع فما أدري أرشدَ طِلابُها.
يريد: أرشدٌ أم غي، ثم حذف.
والوجه الثاني: أنّ تكون بمعنى (إلا) حكى سيبويه: نشدتك الله، فعلت، أي: إلا فعلت، وعليه تأولوا قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) في قراءة من شدد الميم.
والثالث: أنّ تكون جازمة نحو قوله تعالى (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) وهي (لم) قلدت عليها (ما) وهي جواب من قال: قد فعل، فتقول أنت: لا يفعل، فإن قال: فعل، قلت: لم يفعل.
و(ما) في موضع نصب؛ لأنَّها مفعول (أضاءت). و(ذهب) فعل ماضٍ مستأنف، والباء من (بنورهم) يتعلق بذهب، وأما (في) نتعلق بـ (تركهم)، وقوله (لا يبصرون) في موضع نصب
1 / 16
على الحال والعامل فيه (تركهم) أي: تركهم غير مبصرين.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)
الاستحياء: من الحياء ونقيضه القِحةُ. وفي الحديث (من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قال المازني: الناس يغلطون في هذا: يظنونه أمرا بالقحة، وليس كذلك، وإنما معناه: إذا فعلت فعلا لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت.
قال الخليل: الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا؛ تقول: ضرب في التجارة، وضرب في الأرض. وضرب في سبيل الله. وضرب بيده إلى كذا، وضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه وأراده. وضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد، يقال: ضرلت القول مثلا، وأرسلته مثلا وما أشبه ذلك.
والبعوض: القرقس، وهو هذا الذي يسميه العامة (البق) واحده بعوضة، قال العجاج:
وصرت عبدا للبَعُوضِ أُخصَفَا
وفوق: ظرف، وهو نقيض تحت.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً) إنّه جواب ماذا؟
الجواب للعلماء فيه قولان:
1 / 17
أحدهما: ما ذكر عن ابن عباس وابن مسعود ﵄ أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قيل هذه للمنافقين يعني قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) وقوله (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أنّ يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا» إلى قوله (أُولَئِكَ هم الخاسرون)، والمعنى على هذا: إن الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلا بالصغير والكبير إذا كان في ضريه بالصغير من الحكمة ما في ضربه بالكبير. ويروى عن الربيع بن أنس أنّ البعوضة تحيا ما جاعت فإذا شبعت وسمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلأوا من الدنيا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
والقول الثاني: يروى عن الحسن وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنّه لما ضرب الله المثل بالذباب والعنكبوت تكلم قوم من المشركين في ذلك وعابوا ذكره، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الاختيار التأويل الأول من قبل أنّه متصلٌ بذكر المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين في سورة البقرة، فكان لذلك أولى من أنّ يكون جوابا لما ذكر في سورة غيرها؛ إذ كان ذكر الذباب في سورة الحج وذكر العنكبوت في سورة العنكبوت. والأظهر في هذا أنّ يكون جوابا لما قيل في الذباب والعنكبوت لما فيهما من الاحتقار والضآلة، فأخبر الله تعالى أنّه لا عيب في ذلك.
* * *
فصل:
للعرب في يستحيي لغتان: منهم من يقول (يستحي) بياء واحدة، وبذلك قرأ ابن كثير في
1 / 18
رواية شبل، ومنهم من يقول (يستحيي) بياءين. وبه قرأ الباقون، فوجه هذه القراءة: أنّه الأصل. ووجه القراءة الأخرى: أنّه حذف استثقالًا لاجتماع الياءين؛ كما قالوا: لم أكُ، ولم أدرِ وما أشبه ذلك والاختيار في القراءة إثبات الياءين؛ لأنَّه إذا اعتل لام الفعل فلا ينبغي أنّ يعل العينُ لئلا يجتمع في الكلمة اعتلالان؛ لأنَّ ذلك إخلال، ولأن أكثر القراء عليها، ولأنها لغة أهل الحجاز، والأخرى لغة بني تميم، وقال أبو النجم:
أُليسَ يَستَحِيي مِنَ الفِرارِ
وقال رؤبة في الياء الواحدة:
لا أسَتحِي الفِراء أنّ أُمِيسَا
وفي (ما) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ تكون صلة. كأنّه قال: إنّ الله لا يستحي أنّ يضرب مثلًا بعوضة.
والثاني: أنّ تكون نكرة مفسّرة بالبعوضة كما تكون نكرة موصوفة في قولك: مررت بما مُعجبٍ لك، أي: بشيء مُعجبٍ لك.
والثالث: أنّ تكون نكرة، وتكون بعوضة بدلًا منها.
فأما (بعوضة) ففي نصبها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ تكون مفعولا ثانيًا ليضرب.
والثاني: أنّ تكون معرَّبةٌ بتعريب (ما) كما قال حسان:
فَكفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيرِنا ... حُبُّ النَّبِيِّ محمدٍ إِيّانا
وحقيقته البدل.
1 / 19