ترى ماذا يهمني من هاتيك الجبال المتجلية بحللها الخضراء ، ومن هذه الوهاد الغائرة السوداء، وتلك البحيرات الزرقاء، والشلالات المتدفقة تتكسر فيها خطوط الأنوار والظلمات؟ عوضا عن أن أنظر إليها ها هي تنظر إلي وبها ذهول لدلائل اليأس المرسومة على الوجه البشري الماثل أمامها، وذهولها يسحق قلبي ويثقل علي انفرادي إذ ليس في هذا العالم الواسع شخص يشتاق إلي، ويرغب في، ويؤثرني على أي أحد غيري. كنت أرقد كل مساء وأستيقظ كل صباح بهذا اللهف المبرح، كأنما هو نغمة نفذت في سمعي واحتلت ذاكرتي دون أمل في الجلاء.
دخلت ذات مساء إحدى الفنادق تعب النفس والجسد وجلست بين الحضور فتوجهت إلي أنظارهم ورأيت فيها خيال الشفقة على هذا الغريب التائه في ديارهم، فأمضتني جراح قلبي ومضيت أسعى تحت جنح الظلام حيث لا عين ترى ولا شفيق يشفق. وعدت إلى غرفتي في أواخر الليل وانطرحت على مضجعي الملتهب مهمهما لنفسي بأغنية شوبرت المعروفة «حيث لست موجودا هناك السلام والطمأنينة». ومرت الأيام وحالي في ازدياد حتى أمسيت لا أحتمل منظر المغبوطين الضاحكين ومشاهد الطبيعة البديعة الدائمة، فصرت أنام ساعات النهار بطولها وأصرف الليالي متجولا من مكان إلى مكان. إلا أن عاطفة قوية كانت تستولي علي فتحول أفكاري عن مجراها وتردني إلى مخدعي، وهي عاطفة الخوف أو إحساس الخوف، سمه ما تشاء.
نعم كنت أخاف في تلك الليالي القمراء إذ أتسلق أكتاف الأطواد في أدغال ليس بمعروف مداها ولا منتهاها بمأمون؛ فتتوتر أعصابي ويتيقظ بصري ويرهف سمعي فأرى أشباحا بعيدة مبهمة، وأتوجس أصواتا ذات همس ودوي وطنين تنبعث من كل صوب، وتتعثر قدمي في جذور انبثقت من شقوق الصخور، هذا إن لم تزلق في عطفة بلت ترابها مياه الشلال؛ فينكمش في فؤادي القانط وتهزه قشعريرة البرد وليس لديه من حرارة التذكار ما يدفئه ومن حلو الرجية ما يتعلل به. إن من أخذه مرة وجل الليل لعالم بأنه وجل يتناول النفس والجسد معا.
لا أشك أن الخوف كان أول عذاب الإنسان يوم ظن نفسه منسيا من الله. ثم تشدد وخف اضطرابه بتعاون أبناء الله فيما بينهم واتفاق كلمتهم على التكاتف والتضامن. وهو لا يعرف الوحدة الساحقة واليأس الصميم إلا عندما يعوزه الحب والمعونة فيخال له أنه إنما انقطع عن شركة الأحياء لأن الله هجره وأغفل وجوده. يسائل الطبيعة وعجائبها فيلقى من سكوتها هولا لا مواساة، وينقل خطواته على الأرض المتينة الصلبة فتترنح تحت وطئه وتتوارى كزبد البحر وموجه. وإن رفع بنظره نحو النور ينشره القمر صاعدا وراء أحراج الشربين حسب أشعته رءوس حراب تطعن مهج الصخور، وخيوطه عقارب ساعة دارت دورتها زمنا ووقفت وقوفا لا ينتهي.
النجوم تدور مسرعة في أبراجها السحيقة لا تلتفت إلى تعساء الغبراء فلا تعزية في مشهدها، بل هو يزيد النفس شعورا بالوحدة والهجران. وما من سلوى ممكنة في غير عمل الطبيعة المستطرد بدقة يشمل الموجودات بأسرها لا تشويش يزعج ذلك النظام الكامل العظيم.
هاك الشلال، يا أيها المتأمل! فإن تدفق أمواهه أنال الجلاميد على جانبيه حياة وكساها بطحلب ذي خضرة قاتمة، وفي ظل الجلاميد تختبئ تلك الزهرة النحيفة المدعوة «لا تنسني!» هذه واحدة من ملايين الزهرات المنورات قرب كل ساقية وكل جدول في كل روض من رياض الأرض. وقد نورن في أمكنتهن مرارا عديدة منذ أن نثر الكون على الخليقة ثروة حيويته التي لا نفاد لها. أحصيت جميع الخطوط في وريقات هذه الزهرة، وعددت جميع الذرات في كأسها، وضبطت جميع ألياف جذعها فليس من قوة أرضية مهما طغت وبطشت أن تزيد عليها أو تنقص منها فتيلا. وإذا استعنا بالمجهر (المكروسكوب) لتبين عمل الطبيعة واكتشاف خفاياها في أدق أنواع إنتاجها وجدنا في أحشاء البذور الهادئة، وفي البراعم والأزهار والأنسجة والخلايا، الناموس ذاته متكررا متجددا، ويظل نظام الكون في أصغر الذرات وأنحف الألياف أبديا لا يلمسه تغير ولا يلحق به تبديل. أنى توجهنا لقينا النظام الأوحد، فالنفس من هذا العالم الصوري عين أحاطت بها المرايا ففقدت ذاتها في تكرار لا حد له ولا نهاية. وفي كل كائن وكل موجود يستقر الأبد الآبد الذي يختلب ذهنك إزاء هذه الزهرة النحيفة.
وهناك في أعالي الفلك تجد النظام بعينه نافذا في الأجرام الكبرى: فالأقمار تدور حول السيارات، والسيارات حول الشموس، والشموس حول شموس أخرى وما السديم الخيالي السحيق إلا عالم عجائب وقدرة وجمال. ولا تفتأ هذه الكواكب العظيمة تدور في أبراجها لتظفر الأرض بتوالي الفصول فتتمكن الزهرة من البروز والنمو، وتنسج منها الخلايا وتنتشر الأوراق فترصع هي وأخواتها بساط الحقول. كذلك ينفذ النظام في الفراشة المتوسدة أحضان الأزهار، فإن يقظتها للوجود وتمتعها بالحياة وكيفية تنفسها ونموها لأعجب من نسيج النبات ودورة الشموس. ونحن البشر نظير كل كائن إنما يختص بنا النظام الكلي الخالد، فكم من موجود انتبه من غفلة العدم وتحرك وعاش ثم اختفى غير تارك لمروره من أثر!
فإذا كان الكل بموجوداته الكبيرة والصغيرة وما يدبرها من حكمة وقدرة، إذا كان هذا الكل بأعجوبة حياته وحياة أعاجيبه صنع كائن أحد، فلماذا أنت ترتعد وماذا تخشى؟ أليس الأحرى بك أن تخر ساجدا مدركا ضعف نفسك وعدمها ثم أن ترفع عينيك نحوه واثقا بحبه وعطفه؟ أليس أن فيك شيئا أثمن من نسيج الأزهار وأعضاء الخفافيش وأبراج السيارات؟ إذا كان ذلك ورأيت خيالك في صفحة الوجود محاطا بتألق الكائن الدائم وشعرت بحضوره فوقك وتحتك وفي داخلك وإنما بذلك الحضور الإلهي يصبح الشبح منك إنسانا، والقلق عندك راحة، والانقطاع اشتراكا، والانفراد واحدية كبرى؛ إذا كان ذلك وعرفت أنك تناجي إلهك إذ تصرخ في ليل الحياة البهيم: «أبتي، فلتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض وكذلك في!» فكيف لا تنقشع عنك إذن غيوم الأكدار ويبزغ فجر السرور حاملا معه تعزية ونورا؟ إن لك من الله يدا لا تهملك بل تظل تعضدك وتقودك عندما تهتز الراسيات وتنطفئ الشموس. حيثما حللت تكن معه ويكن معك وهو قريب إليك على الدوام. له الخليقة بورودها وأشواكها، وله الإنسان بأفراحه وأتراحه «ولا يحدث شيء إلا بإرادة الله وسماحه.»
بمثل هذه الخواطر كنت أسلي نفسي فأتقبلها تارة فرحا وطورا حزينا. لأنه إن نحن بلغنا لحظة مقر الراحة والسلام القائم في غور الروح فيتعذر علينا المكث هناك طويلا. وكثر من ينسى تلك الخلوة بعد الاهتداء إليها، وينسى حتى السبيل الفكري الممتد بين العالم وبينها.
انقضت الأسابيع ولم أتلق من فتاتي حرفا، فساورني هم جديد إذ قلت لنفسي: «ربما توفيت وهي تستريح الآن في حضن السلام الأبدي.» فأقامت هذه الكلمات تحوم حول شفتي وكلما بالغت في ازدجارها بالغت هي في إثبات معناها.
Halaman tidak diketahui