Ibrahim Thani
إبراهيم الثاني
Genre-genre
ولكن عايدة لم تقتنع. ولم يشفها العلاج النفسانى الذى رجا إبراهيم وتحية أن يشفيها مما بها، فتعقدت الأمور فى حياته، وصار يحس أن المتع اليسيرة لا تنال إلا بأضعاف أضعافها من الالام ومما يحاذر.. فهو يحب زوجته حبا هادئا، ويكبرها، ويطيب بها نفسا، ولا يطيق أن يتصور أنه قد يفقد - فى يوم ما - حبها واحترامها، وإن كانت وطأة الفتور الذى عراه معها قد ثقلت على كاهل صبره. وقد وجد فى عايدة الصبا والجدة. ولكن عايدة فتاة غريرة مكبوته ضعيفة البنية، وهنانتها، وخائفة وجلة، ولا يتزعزع يقينها بأن عمرها عمر الورود. فما كادت تلتقى به حتى انطلقت تريد أن تعدو بغير عنان وتحاول وتطلب أن تعتصر وتختزل فى القليل الباقى لها من العمر، فيما تعتقد، كل ما يخطر على بالها أن تستفيده من متع الحياة ولذات العيش. وهو يجاهد أن يكبح هذا الجماح، ويردها إلى القصد والاعتدال، ولا يسلس فى يده قيادها إلا بعناء شديد ومشقة عظيمة. وكان يقول لها فيما يقول إن من الجهل أن تسرفى فى إنفاق حياتك على هذا النحو، فتقول إنها لا تنفق وإنما تستفيد وتكسب، فيقول لها: «كلا. وإنك لكالرجل الذى يريد أن يذوق الخمر ويجرب الخفيف من نشوتها فيروح يعب فيها حتى تطير فى رأسه، ويدار به، ويفتر ويسترخى، ويفقد الإحساس بما هو فيه، فلا يخرج بغير هذا الأذى. وكان خيرا له لو قنع بالدبيب الهين والتمشى اللين، فيبقى له وعيه ويظل مدركا لما أفاد من سرور، شاعرا بما أكسبته من انتعاش. ثم إنك تزعمين أنه لا أمل لك فى طول العمر. أفلا ترين إذن أنك تنفقين من رأس مالك بلا حساب؟ ولو حرصت عليه لطال استمتاعك به.. ثم إنك جاهلة جهلا آخر، ذلك أن أمتع ما يستفاد من نعيم الحياة هو ذكراه. نعم الذكرى أمتع من النعيم نفسه ساعة الفوز به ومواقعته. فإن المرء يكون مستغرقا فيه فلا يستطيع أن يحيط بصوره ومعانيه ومختلف ما ظفر به من وجوهه ومتعدد ما شاع فى نفسه منه. وإنما يتيسر ذلك بعد انقضائه وعند إدراكه فى هدوء. مثال ذلك أنك تظمئين فتشربين. ولا شك أنك تجدين لذة وأنت ترشفين الماء على ظمأ، ولكن ألذ من ذلك أن تتذكرى ما كان من ظمئك، وما كان من حلاوة الماء فى لسانك وحلقك، وطيب انحداره باردا إلى جوفك الحار، وحسن ما شعرت به من الارتواء بعد الحر والأوام، وكيف كنت قبل ذلك تجمعين ريقك تحت لسانك، لتبلى به لثاتك، وكيف كان الكوب الذى رفعته بالماء إلى شفتيك الجافتين، إلى آخر ذلك. ولا سبيل إلى إدراك هذا كله وجمع صوره، وإحضارها إلى الذهن، وتمثلها، إلا بعد حصول الشرب والارتواء، حين يجد العقل فسحة فيكر راجعا إلى ما كان مما عانى وما أفاد. أما قبل ذلك وعند الشرب فهو مشغول بحر العطش، والحاجة إلى إطفائه، وبتناول الماء لإطفاء الحرقة الأليمة. وهكذا فى كل أمر آخر، فإن متعة تفوزين بها فى خمس دقائق قصيرات لا تشعرين فى أثنائها بكل ما تشعرين به فيما بعد خين تذكرين ما كنت فيه. والذكرى هى التى تغريك بالمعاودة. فإذا أنت رحت تنهبين اللذات نهبا بكلتا يديك كما تريدين أن تفعلى، كنت كذلك السكران الذى ضربت لك مثله، والذى لم يورثه فرط عبه فى الخمر إلا أذاها».
وكان مخلصا فى إشفاقه عليها من هذا الجموح. وكان يدرك عذرها ويمهده لها من شبابها وغرارتها وطول كبتها وسوء أحوالها، وهذا الاعتقاد الثقيل الذى لا يزايلها بأنها قصيرة العمر. ولكنه كان مقتنعا بأن شططها خليق أن يزيد عمرها قصرا. وكان يرى أن ليس من حقه أن يسايرها، وأن الأولى والأرشد أن يقاومها ويضع لها اللجم ويروضها فتكسب ولا تخسر، وتعتاد ذلك على الأيام. ولكنه كان يراها فى أيام كثيرة ذابلة ثقيلة الجفون مسترخية الهدب متغيرة اللون، فخطر له أن لعلها فتحت لنفسها بابا نفذت منه إلى ما صدها عنه؟ وأنها لم تقتنع بما أبدأ وأعاد فيه من النصح. وإنما أظهرت الإذعان لما رأت من إصراره على خطته وإبائه أن يجاوز معها حد القصد، وأضمرت التمرد وآثرت اللجاجة فيما بينها وبين نفسها، ولا حيلة له فى هذا ولاسبيل إلى شىء يصنعه.
وكانت تحية لا تبدى خلاف ما ألف منها وعهد. ولم يكن هذا المظهر يخدعه. وكان يشق عليه أن يجمح بها الخيال فتتوهم الأمر أكبر مما هو فى الواقع والحقيقة. فما كان به حب عايدة، ولعله عاجز عن هذا الحب المستغرق الاخذ بالكليتين، انما كان ما ينطوى عليه لعايدة مزيجا من العطف والمودة والفرح بصباها وأثر الشباب فى نفسه. على أن الحقيقة - وإن كانت يسيرة هينة وليس فيها ما يغير من حاله مع زوجته - لم تكن هذه الحقيقة مع ذلك مما يمكن أن يكون موضع بحث وجدل بينهما. فكان مضطرا أن يصبر على تركها تكبر فى وهمها الحبة حتى تصبح عندها قبة. وكان هذا يشق عليه، ولكنه لم تكن له فيه أيضا حيلة. وقد همت تحية مرات بأن تفتح الموضوع ثم أحجمت، وآثرت أن تستعيد ما توهمت أنها فقدته من حب زوجها بالصبر والحكمة والإيثار. وهمت مرات أخرى أن تستأذنه فى قضاء وقت مع أبيها فى البلدة، ولكنها ردت نفسها عن ذلك لأنه أشبه بأن يكون خطوة لا تخلو من صفة الحسم، ثم لأنها بذلك تترك الميدان لمن تزاحمها عليه فى ظنها، فتكون هذه بداية الهزيمة المخوفة. وكانت إلى هذا مترددة فى الجزم، ولو استطاعت أن تجزم لاستراحت، فما زال صحيحا أن اليأس إحدى الراحتين. فقد كانت ترى حال عايدة فلا يخامرها شك فى أن الأمر بلغ مداه، ثم تراها مضعضعة وكأنها مشفية على التلف، فيعصر قلبها العطف والمرثية. فقد كانت تعرف أن قلبها ليس بالقوى، وأن همومها غير هينة وأن أختها علة بلائها، وكانت تنظر إلى إبراهيم فترى المعهود من ضبطه لنفسه، ولا يبدو لها من نظرته إلى عايدة حين تراهما معا ما يريب أو يثير القلق. وكل ما كانت تلاحظه أنه بادى الأنس بها، وليس الأنس ما تكره له وتأبى عليه. ولقد حاولت هى أن توفر له أسبابه. وكانت هذه المظاهر المتناقضة المتعارضة لا تسمح لها بالاستقرار على رأى والانتهاء إلى حكم، وكان هذا عذابا لها، ولكنها كانت تحمد الله عليه أحيانا وتحدث نفسها أن اليقين خليق أن يذهب بلبها.
وظل هذا الحال عاما وبعض عام. وكانت عايدة تزداد نحافة وهزالا وذبولا، وصارت عيناها أوسع، وقل لحم خديها ونتأت عظام وجنتيها. وذهب شيئا فشيئا ذلك البهاء والحسن المالئ للعين، ورونق الورد الريان على ديباجة محياها المشرق الوضاء. وأصيبت بالدوسنتاريا وتحاملت على نفسها وأهملت، فكادت تيبس من الهزال، وذبلت الشفتان الرقيقتان واتخذت الأحمر لهما وللخدين لتستر ما عراهما من إدبار النضرة. وصار إبراهيم معها كالممرضة. ورق لها قلب تحية فأرخت الحبل لبعلها وألقته له وقد وسعها أن تكون كريمة. فكان إبراهيم يحملها فى مركبة أو سيارة - فما عادت تقوى على المشى الطويل المجهد - ويحاول أن يرفه عنها ويعيد إليها البشر والنعمة والرى بالهواء النقى والطعام المنتقى يحمله معه لها ، ويشاركها فيه ليشجعها وهى لا تتناول إلا بقدر. وكان يرى زهدها هذا فى الطعام فيخشى عليها فقر الدم مع ضعفها البادى. وكان هذا رأى الأطباء أيضا. ولكنها هى لم تكن تحفل هذا أو تباليه، وكانت تقول له كلما ألح عليها أن تعنى بنفسها، وراح يبين لها أن العناية سهلة وأسبابها قريبة وغناءها مكفول: «ما الفائدة؟ ثم إنى لست آسفة.. والفضل لك. ألم أقل لك إنى قصيرة العمر؟ فأنت ترى أنى كنت صادقة، وإنى لأحس من نفسى وأعرف ما لا يحس سواى أو يعرف - لا الطبيب ولا أنت - ولولاك لمت وما كنت قد حييت، ولكنك أحسنت إلى، وجدت على بالحياة قبل أن يوافى الأجل».
فلم يكن يجد ما يجيب به، وإن كان لايقصر فيما يعتقد أنه خليق أن يبعث فى نفسها الأمل، ويقوى الرغبة فى الحياة، ويوقظ إرادتها عبثا، فما كان يبدو منها ما يدل على أنها تريد البقاء.
واتفق بعد ذلك أن انقلب ماعون فيه ماء مغلى على رجل أمها، فقامت عايدة على خدمتها، وانقطعت لها وكفت عن الخروج للقاء إبراهيم، وأبت عليه زيارتها كما أبتها على تحية. وقيل برئت، ولكنه كان برءا على بغى، فقد بقى فى الأصبع شىء من النغل، فاحتيج إلى الجراح لبتره. ثم صحت ورجعت إليها القوة. ولكن عايدة انهارت، فقد أبت أن يشاركها فى السهر على أمها أحد - ولا أختها - وانفردت بذلك ليلا ونهارا. وكانت نفقة العلاج باهظة والمورد شحيح فقترت على نفسها. وكانت لا تتخذ طاهيا أو طاهية، وشغلت بأمها عن الطبخ فكانت تكتفى بالكسرة من الخبز وبجبن أو زيتون أو نحو ذلك. ولا تتكلف الطهو إلا لأمها فهد ذلك كيانها. ولم تكد أمها تشفى وتنهض حتى خرج بها التعب وسوء التغذية عن كل حد للصحة، فدنفت وبراها المرض، ثم ثقلت وأثبتت فصارت لا تبرح الفراش. وكانت تبعث إليه كل يوم بكتاب، قصاصة من كراسة تقطعها وتخط عليها كلمات الشوق، وتتقى أن تقول فيها ما عسى أن يسوء وقعه فى نفس تحية إذا وقعت فى يدها أو فتحتها. وكانت لا تزال تأبى الزيارة، فكان لا يعلم شيئا عن حقيقة حالها. أما تحية فكانت تزور أمها وتعرف منها ما صار إليه هذا الحال، غير أنها كتمته عن زوجها. وفى ضحى يوم من الأيام بعثت عايدة إليه برسالة شفوية مع خادمة صغيرة فحواها أنها تطلب منه أن يشترى لها تفاحا ولوزا محمصا، فاستغرب الطلب. وحدث به تحية، فلم تكن أحسن فهما له أو أقدر على تأويله. ولكنه قضى لها حاجتها ووجهها إليها مع الخادم. وكانت تحية تريد أن تحملها إليها لعلها تستطيع أن تقف على سر هذا الطلب، ولكن إبراهيم أبى ذلك. وعاد الخادم يقول أن الست الكبيرة - الأم - أخذت منه التفاح واللوز وقالت وعلى خديها عبراتها: «لوز إيه وتفاح إيه يا بنى ... ده حالها حال.. الأمر لله». ولم يكد يتلقى هذه الرواية حتى أقبلت الخادمة الصغيرة تقول أن ستها الصغيرة تطلب إبراهيم. فنظر إلى امرأته، فأومأت إليه برأسها أن اذهب بسرعة.
ودخل على عايدة فى غرفة نومها. وكانت راقدة فى سريرها على ظهرها والملاءة البيضاء عليها، فخيل إليه أنه ينظر إلى جثة، فقد كان وجهها أصفر وعيناها مغمضتين ويداها ممدودتين إلى جانبيها، وكانت أنفاسها مضطربة، وكانت شفتاها تتحركان بتمتمة خفيفة، لا تبلغ أن تكون صوتا مسموعا. فقعد على كرسى وقد كبر فى ظنه أنه ما بقى منها إلا شفا. ودار رأسه وهو ينظر إليها، ويتعجب لهذا الوجه الذى كان ينضح بالدم الحار، ويرف على صفحتيه ماء الحياة، وتونق فيه نضرة الصبا، كيف ذبل ويبس وأربد، وحلت به الكمدة فى عامين اثنين ليس إلا؟ وهاجت حرقاته، واضطرم سخطه على الدنيا وقسمة الحظوظ فيها. وكاد غيظه، قبل حزنه، يبكيه، لولا أنه جامد العين بعيد العبرة جافها، يحس بها تتردد فى صدره وحلقه، ولا تترقرق أو تنحدر من جفنه. ولبث عشر دقائق ناظرا إليها لا هو يقول شيئا، ولا هى تفيق، ثم نهض وقد أحس بالعجز عن احتمال ذلك. وتعجب وهو خارج، للمرأة وقدرتها على الصبر على ما لا صبر للرجل عليه.. أهى بلادة فيها ونقص فى الإحساس أو الإدراك أو الخيال؟ أم هى غريزة الأمومة تجعل المرأة تفيض حنانا، ويستغرقها حنانها فيطغى على كل إحساس اخر؟ من يدرى؟
وقال لتحية: «لست فاهما شيئا.. كيف أمكن أن يحدث هذا»؟ قالت: «لكأنى بك لا يعنيك إلا أن تفهم كيف ولماذا؟ مسكينة». قال: «لا تظنى أن قلبى غير موجع، فإنه موجع. ولكنى أريد أن أفهم ... هذه فتاة لم أر أول ما رأيتها شبابا اكثر من شبابها ريا ونعيما ونضرة. لم يكن يبدو عليها أن بها مرضا دفينا. كلا. كانت مظاهر الصحة مجتمعة. ولست أعلم أنها رقيقة الحال، فإن عند أمها فوق الكفاية لاثنين. وقد كانت دائما حسنة الثياب. وكنت أرى معها أكثر مما تحتاج إليه لنفقتها. وليس بأمها بخل. فكيف أصابها هذا الذوى السريع؟ وما علته؟ نعم كانت مكبوتة ولكن الكبت قد يتلف الأعصاب، أو يورث مرضا غير مستعص، أو حتى يجن. ولكن هل يمكن أن يقتل على هذا النحو وبهذه السرعة إذا كان يقتل؟ وأعرف أنها كانت شقية بأختها.. فقد حدثتنى أنت بذلك. ولكن أين الإنسان الذى تصفو حياته ولا تعكرها الهموم أو تخلو من المنغصات؟ وشقاؤها بأختها كانت علته أنها منهومة لا تشبع، وأنها تطمع فى مال أمها ولا تبالى حرمان أختها. ولكن الأم لم تستجب للبنت الطامعة، ولم تطاوعها ولم تضيع على بنتها الأخرى شيئا. فشقاؤها بأختها كان يلطفه ويخففه الواقع، وهو أنه لم يحدث ما تخاف. ثم إنى لا أرانى قادرا على التوفيق بين هذه المتناقضات. كانت عايدة تعتقد أنها قصيرة العمر وأن أجلها لن يطول حتى تنعم بالزواج. ومع ذلك كانت شقية، لأن أختها تطمع فى مال أمها وتحاول أن تغتصبه، وتحرم عايدة منه، فعايدة قلقة على مستقبلها. ثم لماذا كانت لا تأكل؟ لماذا أهملت نفسها إلى هذا الحد الوبيل؟ إنه أشبه بالانتحار فيما يبدو لى، لم تكن غبية أو ضعيفة الفهم أو جاهلة أو عاجزة عن تبين ما لا بد أن يورثها هذا الإهمال . أم كانت تهمل أن تأكل لأنها لا تشتهى الطعام؟ لماذا؟ إن هذه الأمور تحيرنى».
فلم تقل تحية شيئا لأنها كانت تعرف أن زوجها يحس «بعقله»، أى يحول كل إحساس إلى فكرة، ويروح يعرضها على عينيه ويتأمل وجوهها. وخواطره هى الصور التى تتخذها إحساساته. وكثيرا ما تتحول الفكرة عنده إلى إحساس. فهذا يتسرب فى ذلك، وذاك يعود فيتسرب فى هذا، ولا نهاية لهذا التحول عنده.
وقضت عايدة نحبها دون أن تفيق. أو لعلها أفاقت وما درى بها أحد.. ومن يدرى.
Halaman tidak diketahui