Ibrahim Thani
إبراهيم الثاني
Genre-genre
وكان حديثهما - من ناحيتها - عبارة عن محاولة لجعله «شخصيا»، ومن ناحيته هو عبارة عن إصرار على إبقائه «نظريا» عاما لا يدور على شخص بعينه. فكانت هى تلقى عليه السؤال من شأنه أن يغريه بالتحدث عن نفسه، فيصرفه هو إلى العموم دون الخصوص، ويحيله أشبه بالدرس والمحاضرة. ويراها تتابعه فيجد لذة فى رفعها إليه، وتقريبها منه، وترحيب أفقها وتوسيع دائرة نظرها، ويشعر أن هذا خليق أن يساعدها على تخفيف ما تعانى. وكان أشد ما يبدو له أنها تعانيه الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها. وكان يخشى عليها عاقبة هذا، ويرد إليه كل ما يرى من يأسها من الخير فى الدنيا. وقد قالت له مرة وكان يحاول أن يغريها بالأمل: «لا فائدة فإنى واثقة أنى سأموت قبل أن تلوح أية بارقة من الأمل فيما تصفه لى، وتمنينى به»، فقال لها: «اسمعى يا عايدة، إننا أعطينا الحياة ولم نعطها بشرط. وقد أعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة - ونسى وهو يقول لها ذلك أنه هو نفسه موسوس - ولا قيمة لطول العمر أو قصره. فإن العمر لا يقاس بعدد السنين، بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر. ورب معمر أربت سنه على المائة وكأنه مات يوم ولد. ورب فتى فى العشرين قد حفلت حياته بما يجعلها أطول فى الحقيقة، وفى إحساسه هو نفسه، من عمر نوح الذى يقال إنه ناهز الألف. وأنت بنت مرهفة الحس والشعور قوية الإدراك، فأنت تعيشين فى كل دقيقة أطول مما يعيش غيرك فى أعوام. وأنت الان فى العشرين من عمرك الغض، ولكنك فى الحقيقة أسن من امرأة فى الأربعين. ثم لماذا تفكرين فى الموت؟» وأحس وهو يسألها كأنما الخطاب موجه إلى نفسه: «إن المرء يعيش ما يعيش - زمنا طويلا أو قصيرا - ثم يوافيه الأجل المحتوم. وما دام على ظهر الأرض فهو حى، وهذا كل ما ينبغى أن يعنيه. فإذا مات - كما لابد أن يحدث - فإنه يصبح غير دار ، فيستوى حينئذ أن يكون عاش عشرين عاما أو عمر ألفا». فقالت: «هذا صحيح، ولكن ما فائدة الحياة؟ ما هو الخير الذى نصيبه فيها؟» فقال: «آه.. هذا سؤال من العبث أن نلتمس له جوابا، فالحياة لا يسأل فيها عن الفائدة منها، وإنما علينا أن نحياها على خير وجه وأصلحه. ثم إنك أنت الملومة إذا كنت لا تصيبين منها خيرا. الدنيا كلها أمامك فماذا يمنعك أن تنشدى هذا الخير الذى تسألين عنه؟ تمسكين عن التماس الخير ونشدانه والسعى إليه، ثم تروحين تلومين الحياة وتسخطين على الدنيا؟ هل هذا عدل؟ تقعدين وفمك مفتوح منتظرة أن تحشوه لك الملائكة سكرا، ثم تشكين إذا حشته الأيام ترابا؟ لا يا سيدتى لومى نفسك».
فسألته: «ولكن ماذا تصنع فتاة مثلى؟ ما حيلتها؟»
فسألها: «ماذا تشعرين أن بك حاجة إليه وأنه ينقصك وأنك حرمته؟ لا تجيبى.. إنما أسأل لأقول إن كل شىء يجىء فى أوانه».
قالت: «أو تعرف إذن ما ينقصنى؟»
قال: «أستطيع أن أخمن فإن الطبيعة الإنسانية واحدة لا تختلف ولا تتفاوت، وحكمها معروف لا شك فيه. وفى وسع الإنسان دائما بتحويل إحساسه إلى مجار أخرى غير التى يحس أنه يتجه إليها، وفى وسعه أن يخفف من ثقل وطأته وينتفع بهذا التحويل. أنا مثلا، ولست أعنى شخصى وانما أضرب مثلا.. أحس ضغط إحساس معين، وأشعر أن إرضاءه وإراحة نفسى من ثقله عسير أو غير مرغوب فيه، فأعكف على كتاب أقرأه أو أخرج فأتمشى مدة كافية، وأحول هذا الإحساس الضاغط عرقا يتصبب فأستريح وأعود فأنام ملء جفونى». فعادت تسأله «ولكن لماذا هذا التكلف إذا كان الإحساس طبيعيا؟»
فقال: «عقلى يقول لى إنه لا داعى للتكلف. وإن إرضاء الإحساس الطبيعى أولى، ولا عيب فيه، ولا ضير منه. ولكن العقل ليس هو وحده المسيطر على حياتنا، فلا تحسبى أنك الوحيدة التى تعيش فى أسر تتمردين عليه، وتسودين عيشك بالضجر منه».
وكان أكثر ما يجتمعان فى البيت، وتحية معهما تسمع وتتركهما لحظة وتعود إليهما، وقلما تشترك فى حوارهما. وكان يحس أن هذه الفتاة محتاجة للرياضة، وأن انتقالها من بيتها إلى بيته ساعة لا يغير من حالها، ولا يجد لها شيئا، وأن كل ما يحدثها به ويشرحه لها لا جدوى منه، ولا أثر إلا زيادة الشعور بالكبت، وأن المسألة مسألة جسم، يجب الترفيه عنه، وإراحة أعصابه. فقال لتحية إنه يرى أن تخرج بها من حين إلى حين للتنزه. فقالت تحية: «يا عبيط. ليس للمرأة فى المرأة لذة. اخرج أنت معها». قال: «على شرط أن تكونى معنا» قالت: «لا تكن سخيفا.. إن وجودى يشعرها بالقيد وأنت تريد لها الانطلاق، وإنك لعلى حق». قال: «ولكن الانطلاق لا يستدعى أن لا تكونى معنا». قالت: «أنا واثقة ولست خائفة. فاذهب أنت معها». وأصرت، فحمل عايدة إلى حيث الهواء طلق، والحرية تامة فى الجرى والنط والضحك. وكان ربما حمل معه طعاما خفيفا مما أعدت تحية، فكانت عايدة تعود من هذه الرحلات متقدة الوجنتين ولكنها متعبة. وحدث مرة أن كانا يتقاذفان كرة صغيرة يرميها فتلقفها. فدنت منه والكرة فى كفها وقلبها يخفق خفقا شديدا، وعلى فمها ابتسامة، وألقت نفسها على صدره، وأراحت كفيها على كتفيه، فوقف برهة لا ينطق بكلمة، ولا يسألها شيئا، أو يحاول أن يتبين حالها. وتركها على صدره، ولم يكن يسعه إلا أن يحس بثدييها، فثنى عينه إلى شعرها الناعم المرسل، وقد رقدت خصلة على ثوبه تحت أنفه، ولكنه طرد هذه الخواطر ورفع عينيه إلى السماء. وأفاقت عايدة وصعدت عينها إليه، وهى لا تزال على صدره، وقالت له بصوت خفيض كالهمس: «بسنى يا أستاذ». فتبسم وقد دار رأسه ومال عليها فقبل جبينها فرفعت نفسها عنه وقالت: «لكأنك أبى.. لا. لست أبى.. لم أعد أطيق صبرا.. أنت حبيبى. نعم.. لا تفتح فمك هكذا كأنى رميتك بحجر. وما حيلتى؟ كن منصفا. ألقاك كل يوم وأسمع حديثك وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك وأحس عطفك.. بل أعلم أنك ترتاح إلى وجودى وترغب فيه، ومع ذلك أحس أنك بعيد كنجوم السماء. ألست معذورة؟ لقد علمتنى أشياء، وإنك لمسئول عنى، ولا أمل لى فى الحياة، ليس لى غيرك، أنت عزائى فيها».
فدنا منها وتناول كفها ومضى بها إلى حجر كبير، وخلع سترته وطرحها عليه لجلوسهما، وقال: «اسمعى يا عايدة. إنك عزيزة على وأثيرة عندى، ولكن الحب شىء اخر. لا ينبغى أن يكون بيننا هذا. إنه يفسد كل شىء على وعليك. أنت فتاة صغيرة غريرة ومستقبلك كله أمامك. وأنا رجل كهل قد خلفت صباى ورائى. ثم إن لى زوجة تحبك وتأتمنك على زوجها كما تأتمننى عليك. ثم ماذا يكون مصير الحب إذا قامت عليه علاقتنا؟ لا مصير إلا الاضطراب والآلام. واسمحى أن أقول إنى لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلا مثلى. كلا. ليس هذا حبا وإنما هو فورة إحساس. إنها حركة نفس مكبوتة ليس إلا.. نشوة عارضة طارئة تحسينها وتغلطين وتتوهمينها حبا، كما يشرب الرجل كأسا من خمر فيبذل وهو البخيل، ويشعر بالقوة وهو الضعيف، ويهيج وهو الساكن الرزين، ويغضب وهو الحليم الرضى. هى نشوة لا أكثر ولا أقل. ثقى بذلك. وستفيقين منها وتعرفين حيئذ أنى على صواب وتشكرين لى أنى حميتك من نفسك».
فضحكت ضحكة مرة وقالت: «ولكن لماذا تريد أن تحمينى من نفسى وأنا لا أريد هذه الحماية؟ أليس لى حق فى نعيم الحياة؟ ألست مخلوقة كغيرى؟ أليس لى قلب وشعور؟ لماذا يجب أن أعيش محرومة مذادة عن نعم العيش ومتع الحياة..».
قال: «لست محرومة فإن هذا من الوهم.. أنت تنعمين بالكثير الذى لا تحفلين به ولا تجعلين بالك إليه. والذى ترين نفسك قد حرمته سيجئ أوانه كما قلت لك من قبل.. كل مخلوق يطول به انتظار ما ينشد».
Halaman tidak diketahui