10
ومن ذلك كله يتبين لنا أن كثيرا من رجال العلم والفقه كانوا يجمعون وظائف كثيرة، ولعل ذلك يرجع أولا إلى ما كانوا يتميزون به من كفايات نادرة، ومع هذا فقد كان جمهرة رجال العلم والدين البارزين يحيون حياة طيبة بسبب ما كانوا يقومون به من أعمال عديدة يسندها إليهم السلاطين والأمراء ومن إليهم.
جهات التقاضي وأحكامه
لم يكن في هذا المجتمع في ذلك العصر وحدة تجمع بين طبقاته كلها من ناحية جهة التقاضي التي يتحاكمون إليها، ولا من ناحية الشرائع والقواعد القانونية التي ينزلون على أحكامها، بل كان الاختلاف واضحا وكثيرا في هاتين الناحيتين بسبب اختلاف الأجناس.
وذلك بأن التتار الذين كثروا بمصر والشام بسبب الأسر أو غيره، ثم أقاموا في هذين البلدين، ونشئوا على الإسلام، أحلهم ملوك مصر محلا ممتازا لما كان لهم من عظمة وهيبة في القلوب، ومنهم من وصل إلى أن صار من ملوك مصر وحكامها، وأولهم المعز ابن أيبك كما يقول المقريزي في خططه.
وكان من هذا، أن هؤلاء التتار احتفظوا بكثير من العادات التي نشئوا أولا عليها، وبكثير من القواعد القانونية التي وضعها لهم جنكيز خان، والتي كانوا يعظمونها تعظيم الشرائع المنزلة من السماء، والتي كان يتضمنها كتابهم المشهور: «الياسه».
إنهم - كما قلنا آنفا - جعلوا لقاضي القضاة القضاء فيما كان من الأمور الدينية، وجعلوا للحاجب الحكم فيما شجر بينهم فيما يكون من الأمور التي ترجع إلى ذات أنفسهم، وهنا كان الحكم حسب قواعد «الياسه» لا الشريعة الإسلامية.
وكان من هذه القواعد، كما يذكر ابن كثير والمقريزي، أن من زنا قتل محصنا كان أو غير محصن، ومن لاط قتل، ومن تعمد الكذب قتل، ومن تجسس قتل، ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل، ومن بال في الماء الواقف قتل، ومن أطعم أسيرا أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل، وكذلك من وجد هاربا ولم يرده، ومن أكل ولم يطعم من عنده، ومن ذبح حيوانا ذبحة المسلمين، إلى غير هذه القواعد التي لا تتفق وشريعة الإسلام العادلة.
11
ومن ثم نرى ابن كثير بعد ذكر ما نقلناه عنه يقول: وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى «الياسه» وقدمها عليه!
Halaman tidak diketahui