وقال ابن سينا في عبارة أخرى:
15 «الشيء قد يكون محسوسا عندما يشاهد، ثم يكون متخيلا.» ولهذا يمكننا أن نعرض المصورة، كما هو مجمل القول، مثل درجة جنينية للذاكرة والخيال، وقد جعل مكان هذه القوة في التجويف المقدم من الدماغ.
وأتبعت المصورة بقوة تشابه جنينا للعقل، وإن كان يجب ألا ينسى أنها ليست سوى قوة حيوانية كجميع هذا الجمع من القوى، وتسمى هذه القوة «مفكرة»، كما تسمى «المتخيلة»، و«المقلدة» أيضا، ويقوم شأن المفكرة السيئ التحديد على إحداث أول عمل كثير التعقيد أيضا، في التجريد والجمع والضم والتعميم حول معطيات الحواس التي حفظت بالمصورة، فالمفكرة تعد المفهومات التي تأتي لخدمة القوة التالية - أي الوهم - لتكوين ضروب حكمه، ومع ذلك فليعلم أن مفهومات المفكرة ليست أفكارا بالحقيقة، كما أن أحكام الوهم ليست أحكاما عقلية؛ وذلك لأن الأشياء التي تؤثر فيها هذه القوى ليست كليات، بل جزئيات مستخلصة استخلاصا ناقصا جدا عن أحوال المادة، ومركز المفكرة هو في القسم المقدم من تجويف الدماغ الأوسط قريبا من الوهم.
وللوهم - ومكانه في القسم المؤخر من تجويف الدماغ الأوسط - قوة جمعه، في ضروب من الأحكام ذات العمومية، مفاهيم مجردة تجريدا غليظا بمفكرة معطيات الحواس، ولهذه القوة، التي هي قوة مسيطرة على النفس الحيوانية كما هو واضح، شأن كبير وأهمية عظيمة؛ فهي تطابق - تقريبا - كما هو مجمل القول، ما نسميه بالغريزة في الحيوان، وهي تشتمل في الإنسان على مجموعة الآراء والمشاعر والمبتسرات، التي تولد فينا بفعل التجارب الابتدائية، أو الاندفاعات اللاشعورية، وكنا نود أن نسميها تسمية مجردة لو لم نخش صدم الاصطلاح السكلاسي القائل ب «العقل الحيواني»، وإذا ما استخلصنا مثالا من كتب ابن سينا، وجدنا للشاة إدراكا لذئب خاص، وهذا الإدراك هو عند هذا الفيلسوف - كما أفترض - نوع من الصورة المحسوسة ارتسمت ارتساما غليظا في نفس الشاة بالقوة المفكرة،
16
وأما الوهم، فيولد - في صدد هذا المفهوم - مشاعر أقل مشابهة للأحكام العقلية مما للاندفاعات الطبيعية تحذر بها الشاة، فيما تحذر به، عندما ترى الذئب كيما تفر، ومثل ذلك حال الرجل الذي يشعر بضرورة معاملة الصبي برفق حينما يراه، وذلك قبل كل تعقل.
17
وقد أكمل مجموع هذه القوى بقوة رابعة، وهي: «الحافظة أو الذاكرة»، التي تحفظ ما ينضج بالوهم من أحكام، ومركز الذاكرة هو في القسم المؤخر من الدماغ.
وإليك سطورا اقتطفناها من «النجاة»، يمكن أن ينتفع بها مثل قطعة لتسويغ النظرية التي عرضناها، وذلك مع تقديمها إجمالا، حول هذه النقطة الغامضة بعض الغموض، عن وجود ضروب من الأفكار العامة في النفس الحيوانية، قال ابن سينا:
18 «الحس (الخارج) يأخذ الصورة عن المادة مع لواحقها (الأين، والوضع، والكم، والكيف) ... وأما الخيال، فإنه يبرئ الصورة عن المادة تبرئة أشد، وذلك بأخذها عن المادة، بحيث لا يحتاج في وجودها فيها إلى وجود مادة، (كما كان ذلك ضروريا للإدراك بالحس الخارج)؛ لأن المادة، وإن غابت أو بطلت، فإن الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال، إلا أنها لا تكون مجردة عن اللواحق المادية، فالحس لم يجردها عن المادة تجريدا تاما، ولا جردها عن لواحق المادة. وأما الخيال، فإنه قد جردها عن المادة تجريدا تاما، ولكنه لم يجردها البتة عن لواحق المادة؛ لأن الصورة في الخيال هي على حسب الصور المحسوسة ... وأما الوهم، فإنه قد تعدى قليلا عن هذه المرتبة في التجريد؛ لأنه ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها بمادية، وإن عرض لها أن تكون في مادة ...
Halaman tidak diketahui