وكذلك تناول هذا العالم مسألة قابلية الأجسام للتجزؤ إلى ما لا نهاية له، فأبدى رأيه النهائي منكرا الجزء الذي لا يتجزأ، وقد أصدر نظرية في الأعراض الطبيعية، ووحد بينها وبين الأجسام، فقال: إن الطعوم والألوان والروائح أجسام؛ ولذا فإن النظام عالم مفكر ذو آراء جريئة واسعة، ويدلنا عمله وعمل أبي الهذيل، مع إيجاز ما عرف عنهما، على تأثير لاهوت الأغارقة وخطابتهم وعلمهم الطبيعي في العالم الإسلامي في ذلك الحين.
ويجب أن يضم إلى العالمين الكبيرين المشار إليهما علماء آخرون، تعزى إليهم آراء ممتعة في مسائل مشهورة. وقد سارت هذه الطائفة من المفكرين، في وقت قصير، بمباحثها إلى أكثر الاتجاهات تنوعا سيرا يعتقد معه - عند سماع ما يقال حولها - أنها تدل على منازل لتطور فلسفي طويل، مع أنها وقعت في زمن واحد تقريبا، فحث الذهن الشرقي بالرسائل اليونانية كان من القوة ما يقضي بالعجب إذن.
وضع بشر بن المعتمر مسألة «التوالد»، التي تقوم على درس انتقال فعل الفاعل من خلال سلسلة من الأشياء، وفي «المواقف» مثال على عمل اليد الممسكة مفتاحا؛ فالفاعل يحرك يده، فتنشأ عن هذا حركة المفتاح، التي لم تكن قد أريدت على ما يحتمل.
7
وتنال هذه المسألة أهمية في الأخلاق، وتثير كثيرا من النقاش لدى متأخري المعتزلة كما يمكن أن يرى في «المواقف»، ويدور الأمر حول معرفة إمكان العلل الخارجية أن تغير فاعلية الفاعل الحر وتقلل مسئوليته، وهذه نظرية عن العلل المتداخلة.
وكذلك أثار بشر مسألتين مشهورتين في اللاهوت، تعدان من أصعب مسائل هذا العلم، وهما: مسألة عدل الله نحو الأطفال، ومسألة عناية الله نحو الأمم التي لا علم لها بالدين؛ فأما المسألة الأولى فينكر بها كون الله يمكن أن يدين الأطفال، لا لأن هذا ظلم ضبطا، بل لأن هذا يفترض كون الطفل أهلا للوم، وحينئذ لا يكون طفلا، وهذا متناقض.
وأما المسألة الثانية، فبها يبتعد بشر عن التفاؤل السائد للمعتزلة، فهو يعتقد أن الله يمكنه أن يوجد عالما آخر، يدعى به جميع الناس إلى الدين ويستحقون النجاة، ولا حد للكمال الذي يمكن أن يحققه الله، ويمكن أن يفترض دائما وجود عالم أصلح من كل عالم محدث؛ ولذا فإن الله لا يتعلق بالأصلح، وإن شئت فقل: إن أحكامنا في الصالح والعدل لا تطبق عليه، وإنما يقوم الله بمنح الإنسان إرادة حرة، ووحيا في بعض الأحيان، فإذا عدوت الوحي وجدت للإنسان هاديا أنوار العقل، التي تكشف له سنة الطبيعة.
وإذا ما نظر إلى آراء بشر - وفق تلخيص الشهرستاني - رئي أنها أقل إحكاما وسموا من آراء العلماء السابقين.
وبمعمر بن عباد السلمي يكتسب مذهب المعتزلة إقداما عجيبا، ويتقدم نحو وحدة الوجود؛ فهذا العالم يرى أن الله لم يخلق غير الأجسام، لا الأعراض، والأجسام هي التي تحدث الأعراض، وذلك إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق، وكالقمر الذي يحدث التلوين، وإما اختيارا، كما هو أمر الحياة الحيوانية. وعند معمر أن الجسم والفناء عرضان أيضا؛ ولذا فإنهما لا يكونان سوى معلولين مباشرين لأفعال الخالق، والخالق لا يحدث سوى مادة عامة تصدر عنها صور جميع الموجودات بقوة ملازمة.
وبما أن معمرا قد أبعد الله من الطبيعة فإنه يقصيه خارج متناول علمنا؛ وذلك استنادا إلى رأيه البالغ الإطلاق في نفي الصفات الإلهية. ولا يمكن العلم - مثلا - أن يسند إلى الله؛ وذلك لأنه إما أن يكون موضع علمه، وهنالك يكون تفريق بين العالم والمعلوم، ومن ثم ثنائية في ذات الله، وإما أن يكون موضع علمه خارجا عنه، وهنالك لا يكون عالما إلا بهذا الموضع الخارجي، وبذلك يعود غير مطلق، ويؤدي هذا النقد إلى القول بأن مداركنا لا تطبق على الوجود الإلهي، وأن هذا الوجود لا يمكن أن يعرف.
Halaman tidak diketahui