الدولة والفلسفة
عقيدة الفيلسوف
تعقيب
الدولة والفلسفة
عقيدة الفيلسوف
تعقيب
ابن سينا
ابن سينا
تأليف
عباس محمود العقاد
Halaman tidak diketahui
الدولة والفلسفة
نشأ ابن سينا في ظل الدولة السامانية بخراسان.
وكانت خراسان وأقاليم فارس جميعا في ذلك العصر مستقلة عن الخليفة العباسي ببغداد يحكمها الأمراء المتغلبون عليها ولا يدينون لخليفة بني العباس بغير الخطبة باسمه على المنابر في صلوات الجمع والأعياد.
ولم تكن خطبتهم له عن إيمان بحقه في ولاية الأمر لأنهم كانوا - أو كان أكثرهم على الأقل - يؤمنون بحق العلويين ويتشيعون لأئمتهم المستورين، وإنما يخطبون لخلفاء العباسيين لأنهم أضعف شأنا من أن يجمعوا سلطان الحكم الفعلي إلى سلطان الخلافة الإسمية، بعد أن تفرد الأمراء بالحكم في جميع الأقاليم.
ومن أمثلة ذلك أن أحمد بن بويه عاهد المستكفي على تقسيم الأمر بينهما، فيعترف للمستكفي بلقب الخلافة ويعترف المستكفي له بلقب السلطان. ثم استكثر الخلافة على المستكفي فهم بانتزاعها من العباسيين وإسنادها إلى العلويين، فقال له بعض الدهاة من خاصة صحبه: «إنك مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلين دمه، ولكنك إذا أقمت علويا في الخلافة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لاستحلوا دمك وقتلوك ...»
ولما تولى الطاهريون أمر خراسان من قبل المأمون في إبان مجد الدولة العباسية كانت مصالحهم مع العباسيين وقلوبهم مع العلويين، كما فعل سليمان بن عبد الله بن طاهر حين حارب الحسن بن زيد في طبرستان، فانهزم اختيارا ليحتسب دماء الفاطميين.
وقد نشأت الدولة السامانية في ظل الدولة الطاهرية، لأن طاهر بن الحسين هو الذي ثبت نصر بن أحمد بن أسعد بن سامان على ولاية سمرقند، ثم عقد له المعتمد العباسي على ما وراء النهر، ابتدأت به الإمارة السامانية التي ولد ابن سينا في ظلها بعد نيف ومائة سنة من نشأتها.
وقد كان الأمراء السامانيون يقاتلون العلويين في طبرستان وما جاورها، كما كان يقاتلهم أبناء طاهر وأبناء بويه في بعض المواقف السياسية، ولكنهم ومن عاصرهم من أمراء فارس كانوا يعلمون أن رعاياهم يدينون بالولاء للعلويين ويرحبون بالدعوة العلوية في كل مكان، ولا سيما وراء النهر وخراسان، ولا تمنعهم كراهة الغلاة من الباطنية أن يصمدوا على ذلك الولاء.
ومتى ذكرت الدعوة العلوية فقد ذكرت معها مباحث النظر ومذاهب الفلسفة ومدارس الحكمة والتصوف وكل دراسة يستعان بها على إنكار الظاهر المكشوف وتعزيز الباطن المستور. إذ كان العلويون من أنصار التجديد لأنهم خصوم السلطان القائم والحالة الواقعة، وكانت الفلسفة بفروعها المختلفة قد امتزجت بالسياسة واشتبكت على الخصوص بمسألة الخلافة والملك والإمامة، فأصبح الإمام الحق شيئا والسلطان الغاصب شيئا آخر. وليس من محض المصادفات أن الفارابي كتب فيما بين القرن الثاني والقرن الثالث يصف الإمام الصالح على سنة الفلاسفة فيجعله من الأتقياء المعرضين عن المادة المقبلين على لذات الأرواح، ويقرن ذلك بما ينبغي له من قوة العارضة ونفاذ الفطنة ومضاء العزيمة ومناقب العدل والعفة والفضيلة. فإن الفارابي قد نشأ فيما وراء النهر حيث استفحلت الدعوة العلوية، وحضر الخلافة العباسية وهي شبح هزيل يؤذن بالزوال.
والذي أجمله الفارابي في كلامه على فضلاء الأئمة قد فصلته رسائل إخوان الصفاء، ورجعت به إلى نواميس الطبيعة في المعادن والحيوان والنبات.
Halaman tidak diketahui
ورسائل الإخوان صريحة في الدعوة إلى آل البيت حيث تقول: «اعلم يا أخي بأنا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هو مقرون بها من تفضيل أهل بيت النبي لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات تبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة.»
فانتشار المباحث الفلسفية لا يستغرب على الخصوص في عصر ابن سينا وفيما وراء النهر وخراسان. لأن الدعوة العلوية كانت على أقواها في تلك الأطراف النائية، ولأن الفلسفة لذة عقلية في كل مكان أو زمان. أما في تلك الأطراف النائية فقد كانت في ذلك الزمن مطلبا يستمد القوة من قوة الأشواق العقلية وقوة المساعي السياسية وقوة الإيمان بالدين، وهي هناك على مقربة من الهند ومهد المانوية حيث آمن الناس قديما بحلول الروح الإلهي في أجساد البشر وآمنوا بتناسخ الأرواح وقداسة النساك والزهاد، فلا يستغربون ما ينسب إلى الإمام دون ذلك من الصفات أو من الأسرار والكرامات. •••
ومن الملاحظات التي لا تفوت المؤرخ في هذا الصدد أن كبار الفلاسفة المشرقيين جميعا كانوا من أنصار الشيعة، وهم الكندي والفارابي وابن سينا. فقد كان جد الكندي - الأشعث بن قيس - ممن قاتلوا مع علي وشهدوا معه معركة صفين، وكانت كندة كلها من خصوم الأمويين وشيعة الهاشميين، وكان آباء الكندي ممن خرجوا على الدولة الأموية وجردوا من مناصبها ولبثوا مغضوبا عليهم في زمانها. أما الفارابي فقد جمع بين التشيع والتصوف وآوى إلى دولة بني حمدان المتعصبة لآل البيت، وحسبك من تشيع ابن سينا نشأته بين الإسماعيليين واسمه الذي يدل على نسب عريق في نصرة آل علي وهو: أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي ...
بل كان البيت الذي ولد فيه ابن سينا مركزا من مراكز الدعوة الإسماعيلية والمباحث الفلسفية، ولم يكن قصاراهم منها الإيمان بها وكفى. قال فيما رواه عنه تلميذه الجوزجاني: «وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين ويعد من الإسماعيلية، وقد سمعت منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم، وكذلك أخي ...»
وقل أن ذكر في ترجمة ابن سينا أمير أو وزير أو صاحب شأن إلا ذكر من شأنه أنه كان يقتني مكتبة عامرة بأسفار العلم والحكمة، أو أنه كان من محبي هذه العلوم، ويعنون بها علوم المنطق والنظر والدراسات الفكرية فيما وراء الطبيعة، أو أنه كان يجلس في يوم من الأيام للمناظرة والمساجلة، أو أنه كان يفتح داره لمن يتوفر فيها على التأليف والتصنيف.
قال القفطي صاحب تاريخ الحكماء في ترجمة الإسكندر الأفروديسي رواية عن يحيى بن عدي الفيلسوف: «إن شرح الإسكندر للسماع الطبيعي كله ولكتاب البرهان رأيتهما في تركة إبراهيم بن علي عبد الله ... وعرضا بمائة دينار وعشرين دينارا، فمضيت لأحتال بالدنانير وعدت وأصبت القوم قد باعوا الشرحين في جملة كتب على رجل خراساني بثلاثة آلاف دينار ... وكانت هذه الكتب تحمل في الكم ...»
فإذا كان «رجل خراساني» يشتري لفافة من الورق بهذا الثمن الضخم لأنها شروح فلسفية، فقد علمنا إذن كيف كان شأن الفلسفة بين النكرات فضلا عن الإعلام في خراسان. •••
بعض العباقرة ينبغون في وطن من الأوطان أو في عصر من العصور، فيستغرب نبوغهم فيه. أما ابن سينا فلا يستغرب نبوغه في عصره ولا في وطنه ولا في بيته، بل الغريب أن يكون العصر والموطن والبيت على تلك الحالة ثم لا يظهر فيه نابغ فيلسوف. (1) سيرة ابن سينا
كان عبد الله بن الحسين بن علي من أهل بلخ في بلاد الأفغان عاملا للدولة السامانية، وكان يتولى من قبلها التصرف بأعمال قرية «خرمتين» من ضياع بخارى، وكانت إلى جوار مركزه في عمله قرية أفشنة، فكان يزورها ويتعرف إلى بعض أهلها، ومنها تزوج فتاة تسمى ستارة كما جاء في ابن خلكان، وفيها ولد لهما ابنهما «الحسين» الذي اشتهر بكنيته العليا «ابن سينا» وأصبح اسمه أشهر الأسماء بين فلاسفة الشرق وأطبائه، ثم أصبح لقب الشيخ الرئيس علما عليه لا ينصرف إلى سواه.
ولد في سنة 370ه/980م، وانتقل مع آله في السنة الخامسة من عمره إلى بخارى، وكان أبوه من طائفة الإسماعيلية وهي يومئذ صاحبة مذهب في الخلق والوجود وتفسير الشرائع بالظاهر من ألفاظها والباطن من معانيها، فنشأ الحسين الصغير وهو يستمع إلى المناقشات الفلسفية والتأويلات الدينية في «النفس» و«العقل» وأسرار الربوبية والنبوة، وحفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، وتعلم اللغة على أبي بكر أحمد بن محمد البرقي الخوارزمي، وتعلم الفقه على إسماعيل الزاهد. ومر ببخارى أبو عبد الله الناتلي الذي كان يعرف بالمتفلسف لاشتغاله بالمنطق والرياضة، فاستنزله الوالد في منزله عسى أن ينتفع الناشئ النجيب بعلمه، فقرأ عليه الحسين كتاب «ايساغوجي» في المنطق لصاحبه ملك الصوري المشهور بفرفريوس، وكتاب المجسطي في علم الهيئة والجغرافية لبطليموس الجغرافي، وظهرت باكورة الفيلسوف في أوائل صباه فإذا هو يناقش أستاذه في حد «الجنس» خاصة وهو من الحدود التي دار عليها مذهبه الفلسفي وكان له فيها رأي فاصل بين أفلاطون وأرسطو، وعلم الأستاذ أن تلميذه قد تلقى عنه كل ما هو قادر على إعطائه فاستأذن منصرفا إلى مطافه بالبلاد على سنة الدراويش المتفلسفين في ذلك الزمان. واستتم الفيلسوف الصغير كل ما وجده بين يديه من علوم الحكمة والمنطق والرياضة، فبلغ فيها الغاية وهو في الثامنة عشرة من عمره، وكان في أيام طلبه لا ينام ليلة بطولها ولا يلتفت بالنهار إلى عمل غير القراءة والتحصيل، وربما غلبه النوم فإذا هو يحلم بتلك المسائل بأعيانها وتتضح له وجوهها في منامه، وهي حالة يعرفها الدارسون ولا تستغرب في رأي العلم الحديث؛ لأن الوعي الباطن يتنبه في هذه الحالة فيتعاون العقلان ولا ينفرد العقل الظاهر بالتفكير.
Halaman tidak diketahui
ويعترف ابن سينا للفارابي بفضل كبير في تحصيل المعارف الإلهية، فقال: «قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة من هذا العلم، فقال لي: اشتر هذا مني فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر قلب، وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء، شكرا لله تعالى ...» ولا يبعد أن ابن سينا اطلع على مراجع الفلسفة والحكمة في اللغة اليونانية، وأنه تعلم هذه اللغة في صباه من بعض الدعاة، وإن لم يبلغ هذا الظن مبلغ الخبر اليقين.
وكان من عادته إذا تحير في مسألة أن يتردد إلى الجامع ويصلي ويبتهل إلى «مبدع الكل» حتى ينفتح له مغلقها ويتيسر عسيرها. ولم يعهد منه أنه ضاق بمسألة من المسائل في غير الفلسفة الإلهية أو مباحث ما بعد الطبيعة. أما العلوم الأخرى فكان يجيدها ويزيد عليها وينقح ما احتاج إلى التنقيح منها، واتفق له وهو دون الخامسة عشرة أنه اطلع على بعض مراجع الطب فتعلق بها وعكف على قراءتها، وقال: «إن علم الطب ليس من العلوم الصعبة» فكان يعتمد على نفسه في درسه تارة ويراجع أبا سهل المسيحي وأبا منصور الحسن بن نوح على ما جاء في بعض الروايات تارة أخرى. فلم يبلغ السابعة عشرة حتى ترامت شهرته بالتطبيب والتعليم في الآفاق الشرقية، وجاءه المنقطعون لهذا العلم يسألونه ويقرأون عليه، وكان يعلمهم ويعالج المرضى حبا للخير والاستفادة بالعلم لا للتكسب وجمع الحطام، وعالج الأمير نوح بن منصور وهو في السابعة عشرة فشفاه وأصاب حيث أخطأ مشاهير الأطباء، فاستدناه الأمير وأذن له في الاطلاع على دار كتبه «وكانت ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض»، فرأى من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط وظفر بفوائدها وعرف مرتبة كل رجل في علمه.
وكانت طريقته في الاطلاع - بعد أن تمكن من العلم - أن يتصفح ولا يتتبع حتى يمتحن قدرة المؤلف بأصعب الموضوعات في الكتاب.
ولم يكن أعجب من سرعته في التحصيل غير سرعته في التدوين، ففي الثامنة عشرة ألف كتاب «المجموع» إجابة لرجاء بعض مريديه، وأودعه خلاصة علوم عصره ما عدا الرياضيات، وقال في كهولته: «كنت يومذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.»
أما سرعته في التدوين والتأليف فمن أمثلتها كما روى تلميذه الأمين - الجوزجاني - الذي لازمه واستحثه على تأليف كتبه ونقل للخلف أصدق ما أثر عنه «أنه طلب منه إتمام كتاب الشفاء، فاستحضر أبا غالب، وطلب الكاغد والمحبرة فأحضرهما، وكتب الشيخ في قريب من عشرين جزءا على الثمن بخطه رءوس المسائل، وبقي فيه يومين. حتى كتب رءوس المسائل كلها بلا كتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه، بل من حفظه وعن ظهر قلبه، ثم ترك الشيخ تلك الأجزاء بين يديه، وأخذ الكاغد فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة حتى أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات ما خلا كتابي الحيوان والنبات.»
بل ربما ألف الكتب في معضلات الفلسفة وهو مسافر، كما صنع في تأليف بعض فصول النجاة.
وتولى أعمالا جليلة في الدول الشرقية فلم تشغله عن شيء من مألوفه في التحصيل أو الكتابة أو اللهو والسماع. فكان يصرف أعمال الدولة بالنهار، ويجلس للتدريس والكتابة بالليل ... «فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم وهيئ مجلس الشراب بآلاته ...»
قال الجوزجاني: «وكان الشيخ قوي القوى كلها، وكانت قوة المجامعة في قواه الشهوانية أقوى وأغلب ... فأثرت في مزاجه، وكان الشيخ يعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره في السنة التي حارب فيها علاء الدولة تاش فراش على باب الكرخ إلى أن أخذه قولنج - أي مرض في الأمعاء الغلاظ - ولحرصه على برئه إشفاقا من هزيمة يدفع إليها ولا يتأتى له المسير فيها مع المرض حقن نفسه في يوم واحد ثماني كرات، فتقرح بعض أمعائه ...»
وقد خوطب في ذلك فقال: إنه يحب الحياة عريضة قصيرة ولا يحبها ضيقة طويلة!
وتمت لابن سينا هذه الأمنية - إن صح أن تسمى أمنية - لأنه مات في نحو السادسة والخمسين بالسنين الشمسية، وحفلت حياته بالحركة والعمل، كما حفلت باللهو والخطر. فلم تكن الحياة العريضة الحافلة مما يسره ويوافق مرامه في جميع الأحوال، لأنه عاش في عصر الانقسام والتنازع على الملك بين أمراء الأقاليم في الرقعة الشرقية من الدولة العباسية، وكانت شهرته بالطب وشهرته بالعلم تغريان الأمراء بتقريبه وتزيين مجالسهم باسمه وفضله، فدخل في منازعاتهم ولحقه من تقلب أحوالهم ما أرادوه وتعمدوه وما لم يريدوه ولم يتعمدوه. فتعرض للقتل والسجن ونجا بنفسه غير مرة في زي الفقهاء تارة وفي زي الدراويش تارة أخرى، وكثرت رحلاته بين خراسان وأصفهان وهمدان والري وجرجان، وكان بعض هذه الرحلات في صحبة الأمراء والجند وهم يزحفون للقتال، وبعضها في خفية عن الأمراء والجند هربا مما يقصده به هؤلاء وهؤلاء، وانعقدت له صلة وثيقة بجميع هؤلاء الأمراء ما عدا أمراء الدولة الغزنوية؛ لأنه أعرض عن دعوتهم وبغضه فيهم أنهم جعلوا الدعوة إلى السنة ذريعة إلى البطش بأصحاب المذاهب الأخرى ولا سيما الشيعة والمشتغلين بالفلسفة والرياضيات، ولعله لم يغفر لهم قسوتهم على أصدقائه من أمراء الدولة السامانية، فإنهم غدروا بهم وعذبوهم وقد كانوا لهم قبل ذلك من الخدم والأتباع، ولم يكن أحب إلى الأدباء والحكماء من أمراء آل سامان لعطفهم على الفن والأدب وتشجيعهم للتأليف والتحصيل، وحسبهم عندهم أنهم رعاة الرازي والفردوسي وأصحاب سمرقند التي نشرت صناعة الورق في بلاد المسلمين.
Halaman tidak diketahui
دالت الدولة السامانية هذه وابن سينا في الثامنة عشرة، ومات أبوه وهو في الثانية والعشرين، فتقلب في البلاد ولحق بشمس الدولة البويهي في همدان وتقلد له الوزارة وأوشك أن يستقر في جواره لولا أنه أغضب الجند من الديلم والترك، فثاروا عليه واعتقلوه وهموا بقتله، فأنقذه الأمير منهم وراح الوزير الطبيب يلوذ بالديار مستخفيا في طلب الأمان حتى هدأت الفتنة وعاود المرض الأمير فبحث عنه واعتذر إليه واستبقاه لمداواة جسده ونفسه بطبه وعلمه وإيناسه.
ولما مات شمس الدولة برم الشيخ بالمقام في همدان وتاق إلى اللحاق بعلاء الدولة بن كاكويه في أصفهان، واتهمه تاج الملك بمراسلة علاء الدولة فاعتقله في بعض القلاع أربعة أشهر ... وفي ذلك يقول الشيخ وهو يدخل إلى معتقله:
دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
وفتح علاء الدولة همدان ثم رجع عنها فبقي الشيخ طليقا يدبر وسائل الخروج منها، حتى سنحت له فرصة مؤاتية فخرج وأخوه وتلميذه وغلامان له في زي الصوفية، ورحب به علاء الدولة أجمل ترحيب ورفع مقامه في مجلسه فكان أقرب المقربين إليه، ولم يفرط في صحبته على اتهام الناس إياه بالزندقة لتقريبه الفيلسوف وإصغائه إليه.
وكان لحاق ابن سينا بعلاء الدولة وقد جاوز الأربعين واستوفى خبرته بالطبيعة الإنسانية وبالمعرفة الإنسانية، فسكن إلى العمل ما وسعه السكون وأتم بعض كتبه الناقصة، وتوفر على دراسة اللغة حتى علم من غوامضها وأسرارها ما غاب عن أساطينها في زمانه، وحفزه إلى ذلك كلمة سمعها من أبي منصور الجبائي في مجلس علاء الدولة إذ خاض معه في حديث اللغة فقال له الجبائي: «إنك فيلسوف وحكيم، وأما كلامك في اللغة فلا نرضاه.» فلم يزل يدرس الكتب النادرة في أسرار العربية حتى واجه الجبائي بعد سنوات بما أفحمه واستغلق عليه.
وطاب له المقام بعد طول الفزع والشتات، فطمع تلاميذ الشيخ ومريدوه في عشرات من المراجع والموسوعات التي كان الشيخ يتحين أوقات الطمأنينة والفراغ ليمليها عليهم ويفسر من موضوعاتها ما استعجم عليهم. ولكنه كان قد لقي في جسمه عنتا من توالي المحن ومواجهة الأخطار ومنازعة الحساد وفرط الإجهاد والتماس التفريج عن النفس بالمتعة والشراب، فاشتدت به علة القولنج واعتراه الصرع حينا والصداع حينا، واعتمد العلاج الحاسم السريع كلما أحس بالمرض لأنه لم يكن يصبر على طول العلاج.
وقد أصابته أزمة الداء وهو في رحلة فنقل إلى أصفهان، ولم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي وحضر مجلس علاء الدولة «لكنه مع ذلك لا يتحفظ ويكثر التخليط في أمر المجامعة ... فكان ينتكس ويبرأ كل وقت ... ثم قصد علاء الدولة همدان فسار معه الشيخ فعاودته في الطريق تلك العلة ... وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض، فأهمل مداواة نفسه وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة.»
ولعل الخطر الذي كان يلاحق الفيلسوف في حياته يبدو لنا على أشده من شيء واحد: هو هذا الحرص على شهود مجلس الأمير وهو ينازع نفسه مخافة الوشاية والمكيدة في غيابه، وإنه يومئذ لعند أولى الأمراء بحسن ظنه والاطمئنان إليه. فلولا أنه لا أمان حيث كان لما خشي على مكانته، إن لم نقل على حياته من غياب يوم أو أيام.
ولم يلبث أن غلبه المرض على الخوف والحذر فنفض يديه من الدنيا «واغتسل وتاب وتصدق بما معه على الفقراء ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه وجعل يختم كل ثلاثة أيام ختمة. ثم مات ...» ولعله لم يسلم من الوشاية في مرض وفاته إن صح أنه مات محبوسا كما جاء في بعض الروايات.
Halaman tidak diketahui
وكانت وفاته يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، ولم يجاوز بحساب السنين الهجرية ثماني وخمسين.
ولم يلبث أن طرأ على سيرته ما طرأ على سير أمثاله من أفذاذ العبقريين الذين ذاعت شهرتهم في حياتهم. فجللته القداسة ورويت عنه الأعاجيب والكرامات، وأصبح ضريح الفيلسوف المتهم في عقيدته مزارا يطيف به المتبركون المتوسلون، وخيل إليهم أن صاحب الضريح له غير جسد واحد أو أن الناس يتنازعون جسده في كل مكان. فقيل إنه دفن بهمدان، وقيل إنه دفن بأصفهان، وزعم بعض الأوروبيين أنه دفن بالمغرب في الأندلس بسعي ابن رشد وتدبيره، وأعجب من ذلك ما ورد في قصة طبعت بمصر عن سيرة «أبي علي ابن سينا وأخيه أبي الحارث» وجاء فيها أن الفيلسوف قد عمر إحدى وثمانين سنة ودفن بسمرقند، وأنه لما شعر باقتراب الموت استنحت في قالب من المرمر على شكل صورته وأعلم تلميذه جاماس الحكيم أن يخفي أمره إذا مات وليفعل ما يأمره به ... وفعل جاماس بالوصية وأخذ جثة ابن سينا ووضعها في جرن من الرخام ... ولكن تلميذه تفكر أن ابن سينا إذا عاد إلى الحياة دام إلى القيامة وهو شهير في العلوم فلم يبق لتلميذه اسم ولا رسم، فالأولى تركه على هذه الحالة، ثم كسر جاماس الزجاجة السابقة وأخفى الحمام وترك ابن سينا على حالته تلك وانطلق إلى سبيله ... أما صوت ابن سينا فكان يسمع والناس يتعجبون ... قال الراوي: «إن الحمام المسمى ميزار معمور إلى وقتنا هذا، وقد كنت توجهت حين سياحتي إلى سمرقند وأتيت إلى الحمام في وقت التجميد وأصغيت فسمعت صوته من داخل خلوة قليلا قليلا فاستمعت زمنا طويلا فإذا تزاحمت الناس قل الصوت ...»
أما معجزات الرجل الصحيحة فأشهرها وألزمها للباحث في فلسفته وأدلها على علمه كتاب الشفاء في الإلهيات والطبيعيات، وكتاب النجاة وهو مختصر الشفاء، ويقال إنه تركه ناقصا فأتمه تلميذه الجوزجاني الذي سبقت الإشارة إليه، وكتاب منطق المشرقيين، ويرجح أنه جزء من الكتاب المسمى بالحكمة المشرقية، وأثبته الجوزجاني وابن طفيل وابن رشيد تارة باسم الحكمة المشرقية وتارة باسم الفلسفة المشرقية، وكان الشيخ الرئيس يريد أن يختص به العلية ويقول عنه: «إننا ما جمعناه لنظهره إلا لأنفسنا والذين يقومون منا مقام أنفسنا.» وينقض به بعض آراء المشائين التي ألفها «متعلمو كتب اليونانيين ألفا عن غفلة وقلة فهم» ولكن الكتاب لا يوجد تاما. وما طبع منه بمصر مقصور على المنطق وهو كاف في الدلالة على منحاه.
ومن ألزم الكتب لمن يدرس ابن سينا كتاب «الإشارات»، وهو قسمان: قسم في المنطق وقسم في الإلهيات، وقد يستغني به من يطلب الإلمام دون التطويل.
وله غير ذلك عجالات وقصص ورسائل كثيرة في أغراض شتى من الحكمة والفقه والرياضيات والتصوف والأدب، طبع الكثير منها ولا يزال بعضها مخطوطا في المكتبات الشرقية والأوروبية، وأشهرها جميعا قصة الطير وقصة حي بن يقظان، وقصيدة النفس ورسالة في القضاء والقدر، وفي المبدأ والمعاد، وفي الأخلاق، وفي القوى الإنسانية وإدراكاتها، وفي الأجرام العلوية، وفي الحدود، وفي إثبات النبوات وتأويل الرموز، وفي العشق، وفي الزيارة، وفي وقوف الأرض بالفضاء، وليس من العسير الحصول على المطبوع من هذه الرسائل والقصص والعجالات. •••
أما في الطب فكتاب القانون هو عمدة المعارف الطبية التي علمها ابن سينا لمريديه، وكانت له ملحقات في تجاربه ومعالجاته نوى أن يثبتها فيه فضاعت فيما ضاع من أوراقه بين غارات الجيوش ورحلات الفرار. وقد جرى أمر هذا الكتاب على سنة المبالغة بين الدهماء والخاصة على السواء. فأما الدهماء فقد رأينا كيف اعتقدوا القدرة في ابن سينا على إحياء الجسوم بعد موتها، وأما الخاصة فقد جعلوه مرجع الطب أربعة قرون في الجامعات الأوروبية، وقال فيه ابن زهر الطبيب الأندلسي إنه لا يساوي الورق الأبيض الذي كتب عليه. ومقطع الحق بين هذه المبالغات أنه كتاب لم يكن في زمان ما هو خير منه وأجدى في شئون الطب والعلاج. •••
وقد أفاد ابن سينا بصلاته الشخصية كما أفاد بالتأليف والتصنيف، فاتصل به البيروني الذي قال فيه الأستاذ «ساخاو» الألماني: إنه أكبر عقل ظهر في تاريخ بني الإنسان، وكان يسأله سؤال المستفيد - وإن تنكر له فيما بعد - وهو أكبر منه سنا وله ذلك الشأن الذي تدل عليه تلك الشهادة من المتأخرين. واتصل به أبو سعيد بن أبي الخير أمام المتصوفة في زمانه وسأله كذلك سؤال المستفيد قبل أن تقع بينهما الجفوة لاختلاف النزعة والمزاج، ولقيه ابن مسكويه الفيلسوف الأخلاقي المشهور، وتتلمذ له أبو عبيد الجوزجاني وأبو القاسم الكرماني وأبو عبد الله المعصومي وأبو الحسن بن طاهر بن زيلة وبهمنيار بن المرزبان، وعده عمر الخيام من أساتذته وهو من أبناء الجيل اللاحق بجيله ... وكلهم من أصحاب النظر في الحكمة والطبيعيات والرياضيات، وبقي منهم من بقي على ولائه ولكنه ابتلي في أكثرهم كما يبتلى كل متفوق مناضل محسود.
وكان المعجبون به على الجملة أكثر من محبيه، لأنه رزق أسباب الحسد من جميع نواحيه، فكان رجلا عظيم الذكاء عظيم الشهرة عظيم الاعتداد بالنفس عظيم النشاط، ممتلئا بالحياة، لا حيلة له في اجتناب مراتب الرفعة لأنه طبيب مشهور وفيلسوف مشهور، فلو ترك الأمراء والرؤساء لما تركوه. ومن كان هذا شأنه في عصور المنازعات فلا مناص له من أن ينازع الناس وينازعوه، فقد أعدته جبلته وجبلة زمانه للمغالبة والمصاولة، فوقرت له هذه الصفة في نفوس الناس من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون: سمع كلمة من نظير يتعالى عليه باللغة فلم يهدأ حتى غلبه فيها، واحترقت المكتبة السامانية فوقع في روع أهل بخارى أنه أحرقها لينفرد بما علمه منها ولا يدانيه أحد بمثل علومه، وما زال ديدن الناس مع من يحسون منهم المغالبة أن يعاملوهم بقول القائل: «اصرعه قبل أن يصرعك» أو «تغد به قبل أن يجعلك عشاءه» ... فلا جرم وقع في خاطر غلمانه أن يهلكوه قبل أن يهلكهم ، لأنهم خانوه !
قال بعض حاسديه يشمت به بعد وفاته:
رأيت ابن سينا يعادي الرجا
Halaman tidak diketahui
ل وبالحبس مات أخس الممات
فلم يشف ما ناله بالشفاء
ولم ينج من موته بالنجاة
يريد أنه مات «بداء الحبس» يعني القولنج، أو يريد أنه مات محبوسا كما قيل في بعض الروايات، ولا حيلة لابن سينا في معاداة الرجال فإنه لو سالمهم لحاربوه، ولو نسي أنه أسد لما نسوا أنهم كلاب، كما قال ناقد غربي امتحن ببعض ما امتحن به الشيخ الرئيس. (2) مشكلات الفلسفة
قبل أن نلم بآراء ابن سينا في مشكلات الفلسفة يستدعينا المقام أن نلم بتلك المشكلات ثم نلم بالتفسيرات التي حلت بها في مذاهب المتقدمين عليه.
ونقول «المتقدمين عليه» ونعني بهم أولئك الذين سبقوا ابن سينا إلى مثل موضوعاته وكان لهم أثر في تفكيره واعتقاده؛ لأن مذاهب الفلاسفة جميعا أكثر من أن يحيط بها الإحصاء في عجالة واحدة، ولو من قبيل الإجمال.
ففي العالم من المذاهب الفلسفية بقدر ما نبغ من الفلاسفة ... ولكنها تنقسم عادة إلى قسمين شاملين وهما: قسم الفلسفة المادية؛ وهي التي يرى أصحابها أن مادة العالم في غنى عمن يدبرها من خارجها، وقسم الفلسفة الإلهية؛ وهي التي يرى أصحابها أن المادة لا تستغني عن قدرة عاقلة «غير مادية» تستمد منها حركتها.
وأشد المذاهب المادية إمعانا في مناقضة الفلسفة الإلهية هو مذهب المادية الثنائية
Dialectical Materialism
الذي يتلخص في أن المادة قديمة متحركة بذاتها مشتملة على العناصر التي تنشئ منها الحياة والعقل حسب الطبيعة المستكينة فيها ... ومن قوانينها اجتماع الأضداد فيها ريثما يتغلب ضد منها على ضده بغير انقطاع لهذه المغالبة الدائمة، وأن الصفة «الكمية» فيها تتحول إلى الصفة «الكيفية» فتنشأ الحياة كما ينشأ العقل من هذا التحول، إما على التدريج وإما طفرة كما تظهر بعض أنواع النبات من الأنواع الأخرى، فلا توجد «كيفية» إلا وهي نتيجة التغير في الكمية، ولا توجد حالة قط إلا وهي تنطوي على ما يناقضها، فلا تبلغ تمامها إلا ظهر منها النقيض الذي تنطوي عليه. وهذا عندهم هو تفسير ظهور الحياة من المادة العمياء التي لا تشبهها، وهو كذلك تفسير ظهور العقل في الحياة كلما تطورت فيها الكميات والكيفيات على النحو المتقدم. أي نحو الانتقال بين الضد والضد والتحول من صفات الكمية إلى صفات الكيفية. ومن تعبيراتهم المجازية أن للقوة المادية «عمقا» يتجلى في هذه الخصائص العقلية والمعنوية التي تقترن بالحياة. وهم يؤمنون بالدور الدائم في المادة الأولية، فيقول إنجلز
Halaman tidak diketahui
Engels
من أساطين هذا المذهب: «إن المادة تتحرك في دورات أبدية تستتم كل دورة منها مداها في دهر من الزمان تلوح السنة الأرضية إلى جانبه كأنها عدم: دورة تلوح فيها فترة التطور الأعلى ونعني بها فترة الحياة العضوية التي يتوجها الوعي الذاتي شيئا صغيرا بالقياس إلى تاريخ الحياة وتاريخ الوعي نفسه: دورة تكون فيها كل هيئة خاصة من هيئات المادة سواء كانت شمسا أو سديما أو كانت حيوانا أو نوعا من أنواع الحيوان، أو كانت تركيبا كيميا أو انحلالا كيميا - أبدا في تحول وانتقال: دورة لا يدوم فيها إلا المادة المتغيرة أبدا وإلا ناموس التغير الأبدي والحركة الأبدية ... ومهما تتكرر هذه الدورة ويبلغ من قسوة تكرارها في الزمان والمكان، أو مهما تطلع فيها من شموس وأرضين ثم تغرب بعد حين، أو مهما يطل الانتظار قبل أن تبرز هنا أو هناك منظومة شمسية أو كوكب تتهيأ عليه البيئة للحياة العضوية، ومهما ينشأ أو ينقرض من الخلائق قبل أن تنجم بينها أحياء تفكر بأدمغتها وتجد لها ملاذا يسمح لها بالحياة ولو إلى فترة وجيزة، فإننا مع هذا لعلى يقين أن المادة في كل تغيراتها تظل أبدا واحدة وأبدا كما هي، وأنها لن تفقد صفة من صفاتها، وأن تلك الضرورة الحديدية التي تقضي بزوال أرفع زهرات المادة - وهي القوة المفكرة - هي بعينها تقضي بميلادها كرة أخرى في زمان آخر ...» •••
ولسنا هنا في صدد الرد على المادية الثنائية أو المذاهب المادية على اختلافها، ولكننا نتكلم عن فيلسوف «إلهي» من غير الماديين، فعلينا أن نجمل موقف الفلسفة الإلهية من أمثال هذه الآراء.
فالإلهيون الأقدمون يقولون بأن الحركة الأزلية مستحيلة؛ لأن الحركة هي الانتقال من مكان إلى مكان أو من حالة إلى حالة، فقبل الحركة توجد الحالة أو يوجد المكان. وليس قبل الأزل سابق يسبقه في المكان أو الزمان. وإذا قيل إن المكان سابق للحركة الأولى فكأنما نقول إن المكان زمان قبل الزمان.
ويرد على المادية الثنائية في مسألة الأضداد بأنها قد جعلت المشكلة حلا وسكتت على ذلك، وهو خلف لا يعقل السكوت عليه. إذ ما هي المشكلة في رأي العقل وفي التعليلات الفلسفية؟ هي التناقض وقيام الأضداد! وأين هي المشكلة إذا كان التناقض هو الحل المقبول؟
ويرد عليهم بأن الثنائية مفهومة حين يتقابل العقل والمادة أو تتقابل الروح والمادة. أما أن تكون مادة ومضادة لمادة في طبيعتها، فهذا هو موضع العجب لا موضع التفسير. وعلى الماديين الثنائيين أن ينتظروا سؤالا لا بد له من جواب وهو: لماذا قدروا أن الحياة والقوة الفكرية تظهران في الوقت الذي ظهرتا فيه؟
إن المسألة ليست بمسألة مقدار من السنين أو الدورات. يقال مثلا إن عشرة آلاف سنة لا تكفي فتكفي عشرون ألف سنة، أو إن عشرين ألفا لا تكفي فلا بد من ضعفها أو ضعفيها، أو أن مائة ألف سنة لا تكفي فلا بد من مليون سنة أو مليونين أو أكثر من ذلك بما يقاس أو لا يقاس. فإن عدد السنين والدورات منذ الأزل إلى وقت ظهور الحياة لا يدخل في إحصاء ولا يقبل الإحصاء.
فالمسألة إذن ليست مسألة مقدار من السنين والدورات، ولكنها مسألة خاصة في طبيعة المادة متأصلة فيها منذ كانت من أزل الآزال. فكيف نسمي هذه الخاصة التي لا تسمح بظهور الحياة أو العقل مثلا إلا في سنة كذا ألف قبل الميلاد؟
ولماذا كل هذا الهروب من تقرير وجود العقل قبل المادة؛ إذا كان تقرير وجود المادة قبل العقل يصل بنا إلى هذه الإحالات ويلجئنا في أول خطوة إلى التسليم بالأضداد؟
وكيف تكون المادة قوة عمياء منذ الأزل ثم يطرد التقدم فيها من هذه الحركة العمياء إلى حركة النبات ثم حركة الحيوان ثم حركة العقل في الحيوان عند بلوغه مرتبة الإنسان؟ أيسمى هذا تقدما مطردا بغير هداية في عقل سابق؟ أم ننكر أنه تقدم مطرد لنهرب من القول بسبق العقل والحياة؟
Halaman tidak diketahui
إن فاقد الشيء لا يعطيه كما قال الأولون. وقد كانت شفاعة الماديين الثنائيين إذا أنكروا العقل الخالق أن يقفوا عند المحسوسات وأن يحلوا المشكلات التي لا يحلها العقليون والإلهيون، أما أن يجعلوا المشكلة حلا وأن يستبيحوا لأنفسهم مجاوزة المحسوسات ليقولوا بالدورات الأبدية والفروض المستغربة فذلك غير مفهوم إلا على وجه واحد، وهو أن الغرض الهبوط كلما أمكن الهبوط. والقول بالمادة أهبط من القول بالعقل ... فلنقل إذن بالمادة ولو تطوحنا في المغيبات التي لا يقوم عليها دليل وبدأنا الحل بالأضداد التي هي نهاية الأشكال. •••
والفلسفة الإلهية لا تخلو من المشكلات العويصة التي يكثر الخلاف بين الفلاسفة على عرضها وتفصيل حلولها وتأويلاتها. ولكن الفرق بين الفلسفة الإلهية والفلسفة المادية في هذا أن الفلسفة الإلهية لم تغلق الباب ولم تختم الأشكال بإقرار الأشكال، وتركت الباب مفتوحا لمن يبتغي الوصول من طريق التأمل أو طريق الرياضة الروحية أو طريق الاستشراف للكشف والإلهام.
أما هذه المشكلات فيمكن تلخيصها في هذه المسائل الأربع وهي: (1)
وجود العالم. (2)
وجود النفس. (3)
وجود الشر. (4)
حرية الإنسان.
فيسألون: كيف وجد العالم؟ هل وجد بعد أن لم يكن؟ وبعبارة أخرى: هل هو حادث من العدم؟
فإذا كان حادثا من العدم فأين محل العدم مع وجود الله جل وعلا وهو كلي الوجود؟
وهل الإرادة الإلهية التي قضت بأحداثه حادثة أو قديمة؟ إن الله قديم لا يتغير، فليس يجوز في حقه حدوث الإرادة؛ لأن حدوثها إنما يكون لما هو أفضل أو لما هو مفضول، وكلاهما ممتنع بالنسبة إلى الله.
Halaman tidak diketahui
ثم يبحثون في القدرة الإلهية ومعنى اتصاف الله بالقادر على كل شيء ... فهل القدرة على كل شيء معناها القدرة على المستحيل؟ إذن يكون المستحيل والممكن شيئا واحدا في العقل وهما مختلفان ... أم تكون القدرة غير متعلقة بالمستحيل؟ إذن يسأل السائل: من أين جاءت الاستحالة؟ أمن مشيئة الله أم من طبيعة الشيء؟ فإن كانت من مشيئة الله فالذي يثبت الاستحالة يمحوها إذا شاء، وإن كانت من سبب آخر فكيف يتصور العقل شيئا غير إرادة الله يمنع ويجيز في المعقولات والموجودات؟
تلك خلاصة وجيزة لمسألة العالم وحدوثه بإرادة الله واتصافه سبحانه وتعالى بالصفات التي تتجلى في الخلق والمخلوقات.
أما «النفس» فهم يسألون عنها أهي جوهر مجرد أم جسد من الأجساد؟
فإذا كانت جوهرا مجردا فكيف تدبر الجسد وأين تحل فيه بالعرض الذي هي منزهة عنه؟ وإن كانت جسدا فما الفرق بينها وبين الجسد الذي تحل فيه؟ وهل تفنى كما تفنى الأجساد وتتعرض للتحلل والفساد كما تتعرض أجساد الأحياء وأجرام الجماد؟
ويعودون إلى السؤال عن الجوهر المجرد: متى يدخل جسم الجنين؟ وإلى أين مصيره بعد مفارقة جثمانه؟ وهل نفس الولد قطعة من نفس الوالد أو كلتاهما مستقلة وجدت منذ القدم بلا تقديم ولا تأخير؟
أما مسألة الشر ووجوده في العالم فهم يسألون: كيف يوجد في العالم ما يسمى شرا على اختلاف معانيه؟
إذا قيل إن وجود العالم من وجود الله فوجود الله منزه عما يأباه، وإذا قيل إن وجود العالم من العدم فالعدم فيه الخير والشر على السواء ولا يكون إذا كان إلا بإرادة المريد؟
فهل الشر موجود أو غير موجود؟
وأناس آخرون يعرضون المسألة على وجه آخر فيسألون: هل الشر صحيح أو غير صحيح؟ وهل هو يوافق الخير أو هما نقيضان لا يتفقان؟ وهل الأخيار كالأشرار إذا قلنا إن سر الخير وسر الشر لا يتناقضان؟
أما مسألة الحرية الإنسانية فليست هي من محض المسائل الفلسفية التي تعضل على المفكرين الذين يقصرون البحث على موضوعها ولا يتجاوزونه إلى ما وراءه، ولكنها من مسائل الفلسفة الدينية الكبرى؛ لأنها تربط بينها وبين حساب الإنسان على أعماله وما يستحقه في الحياة الأخرى أو في الحياة الدنيا من الثواب والعقاب.
Halaman tidak diketahui
فالثواب والعقاب مقرران في جميع الأديان. ولهذا يسأل الفلاسفة الدينيون: ما نصيب الإنسان من الحرية في أعماله؟ هل هو حر في عمل الخير والشر كما يريد؟ وهل يكون حرا في أعمال الحياة من خلقت له الحياة؟ وإذا كان مسيرا في أعماله كما هو مسير في وجوده فكيف يحيق به العقاب أو كيف يحق له الثواب؟
إن العدل صفة من صفات الله سبحانه وتعالى. ومسألة الحرية الإنسانية في مذاهب الفلسفة الدينية هي مسألة التوفيق بين العدل الإلهي وبين الثواب والعقاب في الدار الآخرة أو في كلتا الدارين. •••
تلك خلاصة سريعة لمشكلات الفلسفة الإلهية كما عرضت لابن سينا في حياته وعرض لها في كتبه وأقواله. وقد حلها الفلاسفة الذين تقدموه وكان له فيها رأي مستقل عنهم في بعض الحلول. ويطول بنا الشرح لو تناولنا حلولهم كلها في التقديم لفلسفة ابن سينا وما استقل به عنهم من الآراء، فإنما نجتزئ هنا بحلول الفلاسفة الذين كانت بينهم وبينه صلة وثيقة من التمهيد والتعليم، وهم أفلاطون وأرسطو وأفلوطين والفارابي وبعض فرق الإسماعيلية وبعض المتفلسفة من قدماء الهند وفارس، وسنتبع هذا الفصل بإجمال حلول هؤلاء الفلاسفة في هذه المشكلات. (3) حلول الفلسفة
يعد أفلاطون أكبر الفلاسفة «الإلهيين» بين اليونان؛ لأنه أول من وضع بينهم مذهبا مفصلا يجعل «الفكرة» مقدمة على المادة، سابقة لها في المرتبة وفي الزمان.
ولكنه على هذا ليس بأول الفلاسفة الذين عالجوا البحث في مسألة الفكرة والمادة؛ لأنه نبغ في عالم الفلسفة بعد أن تقررت فيه آراء طاليس وفيثاغورس وبارمنيدس وهيرقليطس، وبعد أن ساهم كل منهم بحصته في محصول الحكمة الإلهية وورثها عنهم أفلاطون وتابعوه، فولد أفلاطون وطلاب الفلسفة يعرفون أن «الروح» موجود وأن المادة غشاء باطل لأنها تتغير ولا تستقر على حقيقة ثابتة، وأن «المركب» يتغير ولا يبقى على حالة واحدة غير «الجوهر البسيط» ... وأن المادة والروح عنصران مختلفان، وأن الجسد حجاب يحول بين العقل وبين الخلوص إلى عالم الكمال وهو عالم الروح، وأن الدنيا بأسرها توجد وتزول في دورات تتبعها دورات بغير انتهاء.
وهذا فضلا عما استفاده من أستاذه سقراط ورواه عنه في كتبه ومحاوراته، وهو طبقة واحدة تمثل لنا الفلسفة الإلهية كما وصلت إليه في جيل الأستاذ والتلميذ.
وقد تصرف هؤلاء الفلاسفة الأسبقون في الحكمة الإلهية بالرأي والاجتهاد، ولكنهم أخذوا جميعا من الديانات القديمة التي تلقاها اليونان مباشرة من بين النهرين ومصر وفارس والهند! أو اتصلوا بها من طريق الديانة «الأورفية» في آسيا الصغرى، وهي مزيج من ديانات الهند ومصر والمجوس؛ لأن الديانة الأورفية تشتمل على كل عنصر من عناصر العقائد التي لخصناها في الأسطر السابقة، ولا سيما الرياضة الروحية وبطلان المادة وتناسخ الأرواح، ففيها جرثومة حية لكل رأي قال به طاليس وبارميندس وهيرقليطس، ثم قال به بعدهم سقراط وأفلاطون.
ولا نرى في زبدة المحصول كله ما هو أحق بالتنويه في هذا الصدد من نتيجتين اثنتين: أولاهما، الاعتقاد بقصور المادة وعجزها عن الاستقلال بالحركة ونسبة كل حركة فيها إلى مصدر غير مصدرها، حتى قال «طاليس» بوجود روح في المغناطيس لأنه يحرك الحديد. وثانيتهما، الاعتقاد بالثنوية الروحية والمادية في الإنسان وفي الأرض والسماء ... فإن هاتين النتيجتين داخلتان في كل فلسفة يونانية أو غير يونانية، من ذلك العصر إلى أحدث العصور.
وسنرى موضع هاتين النتيجتين فيما يلي من كل حل من حلول الحكماء للمشكلات الفلسفية كما نلخصها بعد، وفي مقدمتها حلول أفلاطون. (3-1) أفلاطون
العالم والله
Halaman tidak diketahui
ولا ننسى ونحن نلخص أقوال أفلاطون في الله والعالم أن فكرة التوحيد كما نعرفها الآن في عقائد الأديان لم تكن معروفة على عهد ذلك الفيلسوف، وأن العالم وحده كان هو الواقع الماثل أمام الحس والعقل والخيال، وكل ما عداه فهو استخلاص وتفسير يجتهد فيه كل مجتهد بما يراه، ولا يسلم في اجتهاده من أثر العقائد الوثنية والكهانات الخرافية والتقديرات العلمية التي كانت تحدق يومئذ بالمفكرين وغير المفكرين.
فليس لنا إذن أن ننتظر من أفلاطون فكرة واضحة عن توحيد الله كما وصفته الأديان الكتابية بعد عصره، وإنما كان يتكلم عن الله تارة وعن الآلهة تارة أخرى. ولا يفرض وجود إله واحد يفوق هذه الآلهة جميعا إلا من قبيل القياس العقلي، الذي يقضي بتفضيل الأفضل فالأفضل ثم اجتماع الفضيلة العليا في واحد لا يتعدد، وهو إله الآلهة ورب الأرباب.
واسم الله في اليونانية هو ثيوس
Theos
أو زيوس كما شاع في اللغات الأوروبية ... وتفسير أفلاطون للكلمة يدل على إدراكه لفكرة الله في أصلها الأصيل. فهو يزعم أنها مأخوذة من ثيو
Theo
بمعنى «أنا أجري أو أتحرك» في اللغة اليونانية. فالمادة بحاجة إلى من يحركها ويعطيها الحياة وليست بحاجة إلى من يخلقها في نظر أفلاطون، وهي من ثم بحاجة إلى الله.
فالله هو محرك المادة ومخرجها إلى هذا النظام الذي نراه في السماوات والأرضين. والله - لأنه عقل - لا يوجد مادة بل يوجد عقلا تستمد منه المادة الحركة والإدراك وتندفع به في معارج الكمال.
والله خير محض فلا يصدر منه إلا الخير، ولا يخلق إلا الخير، وإنما الشر الذي يقع في الكون من خلق الأرباب التي تسمى بالأرباب المخلوقة، ومن نقص المادة وهي تحاول الارتفاع إلى مرتبة الكمال، أو إلى مرتبة العقل المجرد؛ لأن الله منعم جواد منحها الشوق إلى الكمال. فهي أبدا في اشتياق إليه، وهي أبدا صاعدة متسامية كلما اتجهت من التجسد إلى التجريد.
وهي بظواهرها باطلة متغيرة.
Halaman tidak diketahui
وهي بحقيقتها صحيحة خالدة.
وهذه «الحقيقة» هي لب لباب الفلسفة الأفلاطونية، لأنه يميز بها على طريقته الخاصة بين موجودات الحس والموجودات «المعقولة» التي تتمثل للعقل ولا تتمثل للإحساس.
فكل ما يقع عليه الحس فهو في رأي أفلاطون وهم باطل أو محاكاة للحقيقة الخفية، أو محاولة لإبراز معنى من المعاني المستورة.
ومثال ذلك هذا الشجر الذي نراه: فهذه الشجرة مثمرة، وهذه الشجرة ذابلة، وهذه الشجرة خضراء، وهذه الشجرة يابسة، وهذه سامقة، وهذه قاصرة، وكل منها فيه نقص عن الشجرة المثالية التي لا نقص فيها، فأين هي هذه الشجرة المثالية؟ هي في عالم المعنى أو في عالم العقل. وهي وحدها التي لها وجود صحيح لا يعتريه التبدل ولا تصيبه عوارض الزمان ولا يزال قائما في العلم الإلهي تحكيه الأشجار المحسوسة وتتبدل وتزول وهو منزه عن التبديل والزوال.
وهذه الحقائق المعنوية هي التي يسميها أفلاطون بالصحائح أو المثل، وقد تعرف عند المناطقة بالكليات
Universals
وتقابلها الجزئيات
وهي هذه الموجودات الباطلة في رأي أفلاطون.
ومن عادة أفلاطون أن يعزز آراءه بالأمثلة والأساطير التي تقربها إلى تلاميذه، فهو يضرب المثل للدنيا وحقائقها وموجوداتها بكهف يقيم فيه الناس وهم مقيدون يستقبلون فيه جدارا لا يتحولون عنه، ووراءهم نار تعكس الظلال من خارج الكهف على ذلك الجدار. فالأشباح التي يرونها على الجدار هي هذه الموجودات أو هذه الجزئيات التي تحكي الحقيقة وليست هي بها، وإن كانت تحكيها ... أما الصور الصحيحة فلن يراها الناظر إلا إذا أطلق نفسه من قيود ذلك الكهف وخرج منه إلى النور. ومعنى ذلك أننا محبوسون في كهف الجسد لا نرى من الحقائق إلا أشباحها المحاكية لها، فإذا خلصنا من ذلك الحبس إلى عالم «العقل المجرد» فهناك الحقائق الخالدة التي لا تتوقف على المكان ولا تمسها عوارض الزمان، ولا يصيبها النقص والتبديل كما يصيب الأشباح المتراقصة على الجدار المطوي في الظلمات.
والعقل المجرد الذي يدرك هذه الحقائق أرفع قدرا من الفهم الذي يدرك المعلومات الملابسة للأجساد، فهما عقلان لا عقل واحد في الإنسان، أو هما نفسان إحداهما أقرب إلى التجريد والأخرى أقرب إلى التجسيم.
Halaman tidak diketahui
ولم تخف على أفلاطون نقائض هذا الرأي ومفارقات القول بوجود الصحائح المجردة بمعزل عن الأجسام المادية، فقد وجه إليها في بعض محاوراته مناقضات لا تقل في قوتها وإقناعها عن المناقضات التي هاجمه بها خصوم رأيه. ولكنه يري أن الفكرة في أساسها صحيحة كافية لتفسير العلاقة بين عالم العقل وعالم المادة، وإن تعذر تطبيقها في جميع الأحوال، لأن المجردات لا تنحصر في وعينا كما تنحصر فيه المحسوسات.
وليس في مذهب أفلاطون أن الله خلق جميع هذه المحاولات المادية التي تتفاوت في مراتب الخير والجمال، ولكنه يؤمن بأرواح وسطى بين الله والإنسان كأنها الملائكة في الأديان الكتابية ويسميها الأرواح الصانعة
Demiurges
وينسب إليها التشبه بالإله الواحد الصمد في خلق الخير والجمال، وهو يرى أن الأرواح تعمر الكواكب السيارة وتحركها في أفلاكها المنتظمة، وأنها تتوخى الدوران لأن الكون كله مستدير، وإنما كان مستديرا لأن المتشابه خير من المتنافر أو الذي لا تتشابه أجزاؤه. والكرة المستديرة هي أوفى الأشكال بتشابه الأجزاء.
أما قدم العالم أو حدوثه فأفلاطون يقول بأن «الزمان، هو محاكاة للأبدية، أو هو الأبدية التي تسمو إليها منزلة المخلوقات، فالله سرمد منزه عن التحيز والأجل المحدود، لا أول له ولا آخر، ولا مكان له ولا زمان. وهو - بكرمه وإنعامه - قد شاء للمخلوقات أن تتشبه به في صفات الكمال، فأراد لها الدوام وأحب أن يعصمها من الدثور والفناء، ولكنه لا يخلع عليها دوام «الأبدية» لأن دوام الأبدية صفته جل وعلا، فهو لا يخلعها وهي لا تنتقل من المنعم بها إلى المنعم عليه. فأعطاها دوام الزمان لأنه أكمل دوام ترتقي إليه المخلوقات. وأبدع الفلك والزمان معا، فشمل بهما جميع مخلوقاته. ومن هذا يظهر أن المادة الأولى أو الهيولى كما يسميها الفلاسفة أقدم من الفلك وأقدم من الزمان.»
وجود النفس
أما النفس فهي موجودة في رأي أفلاطون كما تقدم: وجدت في عالم العقل أو المعنى أو في عالم الصحائح والمثل الذي أجملنا القول فيه. فهي تعرف الحقائق بالتذكر ولا يحجبها عنها إلا حجاب الحسد وضلال الحس والشهوة، وهي خالدة لا تموت لأنها جوهر بسيط لا يتحلل كما يتحلل الجسد المركب، ولكنها تلابس المادة في حياتها الجسدية ثم تفارقها إلى عليين لتعيش بين الأرباب والملائكة والأرواح، ومصيرها مقدور بمصير المادة التي تلابسها، فإن هبطت مع مادة الجسد صارت إلى جسم حيوان أو حشرة أو مخلوق حقير، وإن ترفعت عن مادة الجسد صعدت إلى الرفيق الأعلى، وعادت إلى عالم الخلد والكمال.
ويبدو من كلام أفلاطون عن النفس أو عن الروح أنها طراز ثالث من الموجودات المعقولة والموجودات المحسوسة؛ لأنها تشترك مع كليهما في حياتها الجسدية. فتعقل ثم تعمل مع الجسم في أداء الوظائف الحيوية كالخوالج العليا والأحاسيس الرفيعة والشهوات الجثمانية. وقد يجعل أفلاطون لهذه الوظائف المختلفة أماكن مختلفة من بنية الإنسان. فالنفس العاقلة في الدماغ، والنفس الحاسة في الصدر ، والنفس المشتهية في الأحشاء. ولا يفهم من هذا أن النفس نفوس ثلاث أو أنها منقسمة إلى عناصر ثلاثة، وإنما يستخلص منه أن النفس لا تعمل في عالم المعقولات كما تعمل في عالم المحسوسات والمشتهيات، لأنها تلتقي في بعضها بقيود لا تلتقي بها في بعضها الآخر. فهو اختلاف في القدرة على التجرد بغير عائق أو بعائق كبير أو صغير، وليس بين هذا الرأي في النفس وبين رأي البراهمة فيها فرق كبير.
وجود الشر
والشر في الدنيا موجود ولكنه من ضرورات المادة في قصورها ومحاولتها التي تشرئب بها إلى ما هو أكمل وأعلى. أما الله فلم يخلق إلا الخير ولا يصدر عنه إلا الخير، وكأنما قصور المادة طبيعة فيها عند أفلاطون لأنها قاصرة بذاتها معارضة لما يحركها ويسمو بها على طبيعتها. وهنا يبدو من أقواله في هذا الموضوع أن إرادة الله لا تبطل الضرورات ولكنها تقربها إلى الخير والكمال بما تضفي عليها من عالم الحق والعدل والتنزيه. فإذا كان سبب الأمر من عالم العقل فالله يوحي إليه فيتلقى عنه وحيه، وإذا كان سبب الأمر من عالم الضرورة أو عالم المادة فهو معارض للعقل، ومنه العناد والشر والفساد.
Halaman tidak diketahui
حرية الإنسان
وواضح من فحوى هذه الآراء أن أفلاطون لا يقرن بين مسألة العدل الإلهي ومسألة الحرية الإنسانية كما يفعل الباحثون في مسألة القضاء والقدر من المؤمنين بالأديان الكتابية؛ لأنه لا يرى أن الله يظلم الإنسان بما يصيبه من ضرورات المادة ونقائض الأجساد، بل يعطيه الخير والجمال ويعينه على المادة الغليظة ويطهره بالغلبة على شهواتها ونزواتها وضروراتها، ويهب له النفس المجردة لينتصر بها على النوازع المتلبسة بالتجسيم ونقائض الجسوم. (3-2) أرسطو
والمعروف عن أرسطو أنه تلميذ أفلاطون، بل أكبر تلاميذه وأكبر فلاسفة اليونان وفلاسفة الزمن القديم غير مدافع. ويرى بعض المحدثين أنه نمط مقابل لنمط التفكير الأفلاطوني يتممه تارة ويتم به تارة أخرى. وهو رأي صحيح إذا أردنا به التفرقة بين جملة الأفكار الأرسطية وجملة الأفكار الأفلاطونية في جميع المباحث والموضوعات. ولكنه إذا قصرناه على الفلسفة الإلهية لا يبلغ هذا المبلغ من التقابل ولا سيما التقابل بين القطبين المتعارضين؛ لأننا نستطيع أن نقول إن الفلسفة الإلهية عند أرسطو وعند أستاذه موحدة الأساس موحدة الآفاق مع زيادة في المنطق ونقص في الخيال والاعتقاد في جانب التلميذ الكبير، وتثبت لنا هذه المشابهة من المقارنة بين رأييهما في العالم والروح ومسألة الشر ومسألة الحرية الإنسانية.
العالم
فأرسطو يرى كما يرى أفلاطون أن الهيولى لا تحتاج إلى موحد ولكنها تحتاج إلى محرك ترجع إليه أسباب جميع حركاتها، وأنها قديمة وإن كان إثبات قدمها بالبرهان غير مستطاع.
والمتحركات لا بد لها من محرك، ولا بد لهذا المحرك من محرك غيره، وهكذا إلى نهاية يستقر لديها العقل لأن العقل لا يستقر إلى الدور والتسلسل في الأسباب الماضية.
فما هي هذه النهاية التي يحسن لديها الاستقرار؟
إنها ليست حركة أخرى، لأن الحركة الأخرى تستلزم حركة قبلها كما تقدم. فهي إذن شيء يحرك غيره ولا يتحرك، لأن الحركة تحول بالكيفية أو تحول بالكمية أو تحول بالمكان ... وليست حركة من هذه الحركات بالأمر الذي يجوز في حق الكائن الأول أو العلة الأولى.
فالكائن الأول ينبغي عقلا أن يكون واحدا غير متجزئ؛ لأن الأجزاء تسبق الكل المتجمع منها، كاملا لأنه لا ينتظر شيئا من خارجه يستوفيه، محضا لا تشوبه مادة لأن المادة تفتقر إلى من يحركها، قديما بغير بداية أو نهاية لأن البدايات جميعا لا بد أن تنتهي إليه.
ويستطرد أرسطو على هذا النحو في تصور الحقيقة الإلهية حتى يزعم أن الكائن الأول - أو الله - غير عالم بالكليات والجزئيات. لأن العلم بالكلية يأتي بعد العلم بالجزئية ولأن العلم بالجزئيات يقع أجزاء على أوقات متفرقات، ولكن علم الله هو عقله لنفسه، وهو السعادة العليا لأنه لا يعقل إذن إلا الكمال المطلق بغير حاجة إلى شيء يستوفيه من المعلومات. ويقتضي تسلسل التفكير على هذا النحو عند أرسطو أن الله غير مريد لأن الإرادة اختيار وطلب، ولأن الاختيار تردد والطلب فاقة وافتقار ...
Halaman tidak diketahui
وهذا الكائن الأول هو العلة الأولى لحركة الهيولى، ولكن لا يفهم من هذا أنه أقدم من الهيولى بالزمان بل أقدم منها بالذات كما يكون السبق بين المعقولات. فالنتيجة العقلية تلي المقدمة ولكنها لا تخلق بعدها في الزمان. والعالم كله لا يخلق في زمان لأن الزمان لا يوجد قبل العالم، ولو وجد قبل العالم لكان معنى ذلك أنه زمان قبل الزمان، وإنما الزمان مقياس حركة العالم فهو والحركة مقترنان.
والله يحرك العالم لأنه غاية العالم وقبلته التي يسعى إليها، وهذا يقتضينا شرح الأسباب في مذهب أرسطو وهي أربعة: (1) مادة الشيء كالورق في الكتاب، و(2) فاعل الشيء وهو مؤلف الكتاب، و(3) صورة الشيء وهي ماهية الكتاب التي تجعله كتابا وبغيرها لا يطلق عليه اسم الكتاب، و(4) غاية الشيء وهي التي من أجلها يوضع الكتاب أو هي القراءة والتعليم والاطلاع.
والغاية عند أرسطو هي أهم هذه الأسباب وإن جاءت في النهاية، والله هو علة الموجودات الأولى لأنه هو غايتها التي تسعى إليها وتنشدها وتشتاقها، وتتحرك في هذا السبيل من الهيولى إلى الصور المترقية في درجات الكمال.
فكل وجود فهو حركة.
وكل حركة فهي حركة إلى الله.
لأن الحركة عند أرسطو هي انتقال المادة من الهيولى إلى الصورة، ولا يفهم من ذلك أن الهيولى توجد بغير صورة أو أن الصورة توجد بغير الهيولى، بل يفهم منه أن الصورة تسفل في المادة حتى تنزل إلى مرتبة الجمادات الخسيسة التي يخيل إلينا أنها لا صورة لها على الإطلاق، وإن الصورة تعلو بالهيولى حتى ترتقي إلى مرتبة الكائنات التي يخيل إلينا أنها لا مادة لها على الإطلاق وربما كانت صورة شيء مادة لشيء آخر. فالخشب له صورة تميزه من صور الجمادات الأخرى، ولكنه هو نفسه مادة لصورة التمثال.
وكلما ارتقت المادة في الصورة اقتربت من الله؛ لأن الله هو الصورة «المحض» التي لا تمتزج بها الهيولى بحال.
فالله لا يريد العالم.
بل العالم هو الذي يريد الله لأنه يحتاج إليه، ويرتفع إلى الكمال كلما اقترب منه.
وكل متحرك إلى طلب الكمال فهو «عاقل» فينجذب إلى العقل الأول ويرتفع إليه بالشوق المكنون فيه، ولهذا لزم في الكواكب أن تكون لها عقول.
Halaman tidak diketahui
ويجب أن نفهم الصورة كما يريدها أرسطو على معناها الصحيح. فليست صورة الإنسان مثلا هي الشكل الذي تعرضه لنا الصورة الشمسية ولا هي الشكل الذي يعرضه لنا التمثال المنحوت، ولكنها هي كل تركيب الإنسان الذي يميزه من المادة أو يميزه من الموجودات الأخرى، أو هي «ماهيته» التي يصبح بها إنسانا وبغيرها يزول عنه وصف الإنسان.
وقد أنكر أرسطو «المثل» الأفلاطونية وإن كانت براهينه في إنكارها ليست بأقوى من براهين أفلاطون صاحب الفكرة وشارحها، وربما كان أقوى برهان لأرسطو في هذا الصدد أن الشيء باختلاف أجناسه وتقسيماته يحتاج إلى أمثلة عليا متعددة لا إلى مثل واحد. فالمثل الأعلى للإنسان الفيلسوف ماذا يكون؟ أيكون حيوانا مثاليا أو إنسانا مثاليا أو فيلسوفا مثاليا أو مادة مثالية، إلى آخر المثاليات التي يحكيها؟ وكيف يكون المثال معينا أو قابلا للتعيين مع أنه عام لا يخصص بما يجعله مستقلا بكيانه؟ ومع أن هذا هو الفرق بينه وبين الخاص المستقل بالكيان، كيف يكون شيئا مستقلا وهو مشابه لجميع الأشياء؟
على أن أرسطو هرب من «المثل» الأفلاطونية ووقع في «الصور» التي تستقل عن الهيولى ... فإن «الصورة» لا تخلق الهيولى والهيولى لا تخلق الصورة، بل كلاهما عنده موجود يلتقي بغيره فيتصورهما العقل بعد هذا الالتقاء، وليس يخرجه من المشكلة وصفه «الهيولى» التي لا صورة لها، بأنها موجودة بالقوة ووصفه الهيولى المصورة بأنها موجودة بالفعل. فإنهما على كل حال موجودان غير معدومين.
وخلاصة مسألة العالم عند أرسطو أن الله أعطى «الهيولى» الحركة، فاستفادت الصورة، ولا تزال الحركة ترتقي بالصورة في معارج الكمال فتختفي الهيولى كلما برزت الصورة. وترتقي الصور كلما توارت فيها فوضى الهيولى أو المادة الأولى، حتى يوشك أن تكون صورة محضا، ولكنها لا تكونها؛ لأن الصورة المحض هي الله الواحد المتفرد بالكمال. ولهذا يستغني عن الحركة ويقال فيه إنه المحرك الذي لا يتحرك؛ لأنه لا يطلب بالحركة صورة أعلى، فإن له المثل الأعلى.
ومن اللازم أن نذكر هنا أن أرسطو يستلزم وجود «جواهر» أخرى غير الله تحرك غيرها ولا تتحرك؛ لأن الحركات أكثر من الأجسام المتحركة، فلا بد أن ننتهي بحساب الفلك كما كانوا يفهمونه إلى محركات ثابتة في الفلك الأعلى، وهو يعتمد في هذا القول على الفلكيين المعتبرين في زمانه لأن علم الفلك أقرب العلوم إلى الفلسفة. إذ كان يبحث في جواهر يتناولها الحس ولكنها لا تفنى. أما الرياضيون كعلماء الحساب والهندسة فليست في علومهم جواهر يبحثون عنها. ومن أقوال بعض الفلكيين وهو يودكسس
Eudoxuis
تبلغ الثوابت في الفلك خمسة وخمسين، ولكنها تنقص في قول كاليباس
Callipus
إلى سبعة وأربعين ... لأنه يضم بعض الأفلاك إلى بعض تلك الجواهر السماوية.
النفس
Halaman tidak diketahui
والنفس عند أرسطو جوهر أو صورة، لأن الصورة هي التي تجعل للجسم «ماهيته» ولا ماهية للإنسان بغير النفس الناطقة ... فالنفس هي جوهر الإنسان أو هي صورة الإنسان التي يحسب بغيرها من الهيولى أو من الأجسام ذوات الصور الأخرى.
ولعلنا نسمي النفس باسمها الصحيح عند أرسطو إذا قلنا إنه يعني بها القوة الحيوية؛ لأنه يجعل للنبات نفسا، وللحيوان نفسا، ويقرن بين نفس الإنسان وجسده فيقول في كتاب الروح: إن السؤال عن النفس والجسد هل هما واحد؟ عبث، كسؤال من يسأل: هل الشمع والشكل الذي يطبعه فيه القالب واحد ... وقد سخر في هذا الكتاب من فيثاغورس وتناسخ الأرواح لأن النفس والجسد في رأيه منفصلان. أو على الأقل جزء من النفس ملازم للجسد يهلك بهلاكه ... ويبدو الترادف بين معنى النفس ومعنى القوة الحيوية من وظائف النفس الأربع التي يرتبها أرسطو: من القوة الغذائية إلى القوة الحسية إلى القوة الإرادية إلى القوة الذهنية وهي أرقاها وأقربها إلى التجريد.
وإذا تكلم عن الجوهر الخالد في الإنسان «فالعقل» هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن من كلامه قبل النفس أو الروح. فعنده مثلا أن الجواهر ثلاثة: جوهر محسوس هالك كالنبات والحيوان، وجوهر محسوس غير هالك لأنه لا يتغير إلا بالحركة دون غيرها كالأجسام السماوية، وجوهر ليس بمحسوس ولا بهالك كالنفس الناطقة في الإنسان أو الجوهر العاقل فيه.
لكن هذا الجوهر العاقل في الإنسان لا تناط به «الفردية» لأنه عام في جميع العقلاء، فالناس يختلفون أفرادا بالميول الجسدية فيحب هذا الفاكهة ويحب غيره الخضر ويحب غيرهما اللحم أو البقول، ولكنهم يتفقون على حقائق الحساب وحقائق العلم المجردة وإن فكروا فيها متباعدين بالمكان والزمان. فالعقل جوهر باق لا يزول لأنه مجرد بسيط، ولكنه بقاء لا يناط بآحاد الناس، ولا يكون إلا للعموم؛ لأنه ليس بعقلي ولا بعقلك أفرادا منفصلين، إذ كانت أحكام العقل في جميع العقلاء سواء.
ومع هذا لا يرتقي العقل في الإنسان هذا المرتقى إلا بقبس من العقل الفعال؛ لأن عقل الإنسان الذي يدرك الوجود الخارجي عقل قابل أو منفعل وإنما يترقى من ذلك إلى إدراك المجردات أو الكليات بحركة نحو العقل الفعال، وهو مرجع جميع المعقولات.
الشر
وإذا كان هذا هو تفسير أرسطو لوجود العالم ووجود الله فلا اعتراض عليه إذن بوجود الشر أو بمنافاته لحكمة الله؛ لأن الله لم يضع الشر في العالم، وإنما كان علة لحركة العالم بالشوق إليه كما يكون المحبوب علة لاشتياق المحب وتحركه إلى لقائه، وهو صاحب الفضل في ارتقاء الهيولى إلى الصورة، وارتقاء الصور إلى الكمال؛ لأنه هو الغاية، فهو العلة الأولى لارتقاء الموجودات.
حرية الإنسان
ومن الواضح أن الإرادة الإنسانية لا تصبح في رأي أرسطو مشكلة تحتاج إلى التوفيق بينها وبين العدالة الإلهية. إذ كان الله نفسه في مذهب أرسطو منزها عن أن يريد ما يقع للإنسان أو ما يقع من الإنسان، فهو لا يريد شيئا لأنه لا يحتاج إلى شيء أو لأن الإرادة تغير وحركة، ولا حركة لله بالكيف ولا بالكم ولا بالمكان. (3-3) أفلوطين
وثالث الثلاثة الذين كان لهم الشأن الأكبر في مذهب ابن سينا هو أفلوطين إمام الأفلاطونية الحديثة، الذي ولد في أوائل القرن الثالث للمسيح (204م) بإقليم أسيوط.
Halaman tidak diketahui
وليس أفلوطين من طبقة أفلاطون وأرسطو في العبقرية الفلسفية أو ملكات المنطق والتفكير، ولكنه يضارعهما أو يفوقهما في بعد الأثر واتساعه بين المشغولين بالفلسفة الإلهية؛ لأن العناصر التي أدخلها في مذهبه أو فى من جميع العناصر التي دخلت في مذهب أرسطو أو مذهب أفلاطون. فقد ختمت المباحث الفلسفية واحتدمت المباحث الدينية يوم تصدى أفلوطين لحل المشكلات المختلفة التي عرضت لطوائف الفلاسفة وفقهاء الأديان.
طمح مع أفلاطون، ودرس منطق أرسطو، ونمت قبله فلسفة الرواقيين والأبيقوريين، وشاعت في عصره فلسفة «العارفين».
1
وسمع مجادلات الآباء المسيحيين، وتعلم في الإسكندرية ورحل إلى البلاد الفارسية، وأقام برومة وهي على حالة تقلق الضمائر الإنسانية وتستفزها إلى طلب القرار في عالم الإيمان. فدخل في حسبانه من عناصر الفلسفة الإلهية ما لم يدخل في حسبان فيلسوف قبله، ولاحظ من المقلقات الفكرية ما لم يلاحظه المناطقة أو الروحانيون في العصور التي تقدمته. فكان لمذهبه هذا الشأن بين المشغولين بتلك المسائل الإلهية من جميع الأديان، سواء منهم الإسرائيليون أو المسيحيون أو المسلمون، وأصبح حلقة الاتصال بين جميع هؤلاء المفكرين؛ لأنهم يلتقون به في طريق واحد حيثما اتجهت بهم الآراء والفروض.
ومن أمثلة هذا الملتقى الجامع مذهبه في الله والعالم على التخصيص.
العالم
فهو يتمشى مع أرسطو في مقدماته التي انتهت به إلى العقل المجرد والعلة الأولى، ولكنه يتجاوزه أشواطا بعيدة في التنزيه والتجريد. فيرى أن الله - أو الأحد - من وراء الوجود ومن وراء الصفات، لا يعرف ولا يوصف، ولا يوجد في مكان ولا يخلو منه مكان، وكماله هو الكمال الذي نفهمه بعض الفهم بنفي النقص عنه. وهيهات أن نفهمه بإثبات صفة من الصفات؛ لأننا نستطيع أن نقول إنه لا يكون هكذا، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنه «هكذا يكون».
وقد يتصل به الإنسان في حالة الكشف والتجلي حين تتجاوز الروح جسدها كما يقول، ولكنها حالة لا تقبل التأمل والتفكير، فإذا انقضت فقد يثوب الإنسان بعدها إلى عقله فيتأمل ويفكر، وينحدر بذلك من مقام «الأحد» إلى مقام «العقل» الذي هو دونه، لأن الأحد فوق العقل وفوق المعقول.
ويقول أفلوطين كما يقول أرسطو إن الله أو«الأحد» لا يشغل بغير ذاته؛ لأنه مستغن بذاته كل الاستغناء .
أما العالم فقد نشأ من صدور العقل عن «الأحد» وصدور النفس عن العقل، وصدور المحسوسات عن النفس في اتصالها بالهيولى أو المادة الأولى.
Halaman tidak diketahui
وتفصيل ذلك أن «الأحد» عرف ذاته وتأملها، فكان «العقل» من هذا التأمل، وإن العقل يعقل الأحد فهو أحد مثله، وإن كان دونه في مرتبة الوحدانية، ثم يعقل ذاته فينشأ من عقله لذاته عقل دونه وهو «النفس» ... أو هو القوة الخالقة التي أبدعت هذه المحسوسات.
ومن البديه أن صدور الجسم من الجسم ينقصه ويخرج شيئا منه ينتقل من المعطي إلى الآخذ فينقص بانتقاله. أما صدور الفكرة من العقل فلا تنقصه ولا تجرده من شيء فيه، وعلى هذا المثال نفهم صدور العقل عن «الأحد» الذي لا يعتريه نقص بحال من الأحوال.
والنفس - وهي المرتبة الثالثة في الوجود عند أفلوطين - تتجه إلى العقل فتنسجم معه في مقام التجريد والتنزيه، وتتجه إلى «الهيولى» فتبتعد عن التجريد والتنزيه؛ ولهذا تخلق الأجسام وتضفي عليها الصور على سبيل التذكر لما كانت تتأمله، وهي في عالم القدرة الكاملة أو عالم الصور المجردة. فهذه المحسوسات، وهي كالظلال للمعقولات قبل أن تبرزها النفس في عالم المحسوسات، أو هي كأطياف الحالم وهو يستعيد بالرؤيا ما كان يبصره بالعيان.
فالمحسوسات كلها أوهام وأحلام، وكلها غشاء باطل يزداد بعدا من الحقيقة كلما ابتعد من العقل وانحدر في اتصاله بالهيولى طبقة دون طبقة، فإن العقل دون «الأحد» والنفس دون العقل، والمحسوسات دون النفس، وهكذا تهبط الموجودات طبقة بعد طبقة حتى تنحدر إلى «الهيولى» التي لا نفس معها، وهي معدن الشر في العالم؛ لأنها سلب محض يحتاج أبدا إلى الخلق: وهو الإيجاد أو الإيجاب.
النفس
وقد صدرت النفس الفردية من النفس الكلية، ولها كالنفس الكلية التي صدرت منها اتجاهات. فهي باتجاهها إلى النفس الكلية إلهية صافية، وباتجاهها إلى المحسوسات والأجساد حيوانية شهوية. وليست النفس عند أفلوطين ملازمة للجسد كما يقول أرسطو، بل هي جوهر منفصل عنه سابق له كالمثل الأفلاطونية، فلا تقبل الفناء، ولا يحصرها الزمان أو المكان، وهي تصدر من النفس الكلية اضطرارا كما صدرت النفس الكلية من العقل الأول. مستجيبة لطبيعة الإصدار في ذلك العقل، وللشوق الهيولاني الذي يترفع بالهيولى إلى منزلة المحسوسات فالمعقولات.
الشر
والشر في العالم هو «الهيولى» لأنها سالبة تنزل بالمعقولات والروحيات التي تلابسها. ولا محيد عن الشر مع وجود الهيولى وقدمها وضرورة الملابسة بينها وبين العقل والنفس في دور من أدوارها. وعلى النفس أن تجاهدها وتنتصر عليها وعلى شهواتها، فإن أفلحت عادت إلى النفس الكلية خالصة مخلصة، وإن لم تفلح عادت إلى الجسد مرة أخرى، ولقيت في كل مرة جزاءها على الذنوب التي اقترفتها في حياتها الجسدية الماضية. ويجري الجزاء دقة بدقة على سنة العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص. فمن قتل أمه مثلا يعود إلى الحياة الجسدية امرأة ويقتله ابنه تكفيرا عن ذنبه وإبراء له من وصمته التي تلزمه ملابسة الهيولى حتى يتطهر منها.
الحرية الإنسانية
ولا حرية للإنسان كما رأيت؛ لأن وجوده ضرورة يستلزمها الصدور وملابسة الهيولى. ولكنه يقاوم تلك الضرورة بجهاد الشهوات، فيترقى من مرتبة التأمل إلى مرتبة الكشف، وينتقل من شتات الحس إلى استجماع العقل إلى وحدة «الأحد» ورضوان الكمال، فتجزيه ضرورة الارتقاء عن ضرورة الانحدار. ولا محل بينهما لشيء من الاختيار، وإن قال به أفلوطين في بعض الأحيان. •••
Halaman tidak diketahui