يريد: وإنما قلنا هذا الذي قلنا في نحو إدراك الحق؛ لأننا لما تصفحنا حال من كان قبلنا في العلوم ممن وصلنا خبرهم وجدناهم أحد رجلين: إما رجل لم يدرك من الحق شيئا، وإما رجل أدرك منه شيئا يسيرا، ولما أخبر بهذا قال: «فقد يجب أن يكون سهلا من هذه الجهة، وهي الجهة التي من عادتنا أن نتمثل فيها بأن نقول: إنه ليس أحد يذهب عليه موضع الباب من الدار.»
يريد: وإذا تقرر أنه سهل من جهة وصعب من جهة، فقد يجب أن يكون سهلا من هذه الجهة، وهي أنه في كل جنس من أجناس الموجودات أشياء تتنزل منها منزلة باب الدار من الدار، فإنها لا تخفى على أحد كما لا يخفى موضع باب الدار على أحد، وهذه هي المعارف الأول التي لنا بالطبع في كل جنس من أجناس الموجودات.
ولما ذكر جهة السهولة أعاد ذكر جهة الصعوبة، فقال: «ويدل على صعوبته أنه لم يمكن أن يدرك بأسره ولا جزء عظيم منه.» يريد: من أول الزمان الذي وصله خبره إلى زمانه، وكأنه إشارة منه إلى أنه أدرك الحق أو أعظمه، وأن الذي أدرك منه من كان قبله بالإضافة إلى ما أدرك هو منه هو جزء قليل، إما كل الحق وإما أكثر الحق، والأولى أن يظن أنه أدرك الحق كله، أعني بكل الحق القدر الذي في طبع الإنسان أن يدركه بما هو إنسان.
ثم قال: «وإذا كانت الصعوبة من جهتين فخليق أن يكون إنما استصعب لا من جهة الأمور بأعيانها، لكن سبب استصعابها إنما هو منا، وذلك أن حال العقل في النفس منا عند ما هو في الطبيعة في غاية البيان يشبه حال عيون الخفاش عند ضياء الشمس.»
يريد: وإذا كانت صعوبة إدراك الموجودات توجد في وجهين، فخليق أن تكون الصعوبة في الأشياء التي في الغاية من الحق - وهو المبدأ الأول والمبادئ المفارقة
4
البريئة من الهيولى - من قبلنا نحن لا من قبلها في أنفسها؛ وإنما كان ذلك كذلك لأنه لما كانت مفارقة كانت معقولة في أنفسها بالطبع، ولم تكن معقولة بتصييرنا إياها معقولة؛ لأنها في أنفسها معقولة كحال الصور الهيولانية على ما تبين في كتاب النفس، وذلك أن الصعوبة في هذه هي من قبلها أكثر مما هي من قبلنا.
ولما كانت حال العقل من المعقول حال الحس من المحسوس، شبه قوة العقل منا بالإضافة إلى إدراك المعقولات البريئة من الهيولى بأعظم المحسوسات التي هي الشمس، إلى أضعف الأبصار وهو بصر الخفاش، لكن ليس يدل هذا على امتناع تصور الأمور المفارقة كامتناع النظر إلى الشمس على الخفاش، فإنه لو كان ذلك كذلك لكانت الطبيعة قد فعلت باطلا بأن صيرت ما هو في نفسه معقول بالطبع للغير، ليس معقولا لشيء من الأشياء، كما لو صيرت الشمس ليست مدركة لبصر من الأبصار.
الحياة الكاملة حركة
والعبارة التي تقدمت مثال صالح لأسلوبه في الشرح، ويلحق بالشرح أسلوبه في المناقشة لبيان فكرة، أو الدفاع عنها، ونختار له مثالين من مناقشاته للغزالي في حركة السماء، وفي حقيقة الأسباب.
Halaman tidak diketahui