تلك حياة ابن رشد وأحداثها ومظاهرها، ولم يبق في هذه الناحية إلا أن نسجل أن أبا الوليد مر بالمحنة، أو مرت به موفور الكرامة. إنه لم يطلب العطف أو يعتذر ويلح في الاعتذار توقيا مما كان يتوقع من ظلم وشدائد، بل احتمل ذلك كله ساكن النفس صابرا ما دام ذلك لا يثنيه عن غايته، وعن أداء رسالته التي وهب نفسه لها.
لقد كان من أجل هذا حريا بحكم ابن الأبار، في كتابه «التكملة»، حين قرر - كما قدمنا - أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا.
ابن رشد وأثره من بعده
للعظمة معالم ومظاهر، قد تكون في الخلق، وقد تكون في الفن، وقد تكون في العلم، وقد تكون في هذا كله وأكثر منه معا، وفي كل ضرب من هذه الضروب ألوان مختلفة، وصور متعددة.
وابن رشد - كما عرفنا - كان عظيما في خلقه، وعظيما في علمه، وعظيما في نظرته إلى الحياة وغايته منها، كما كان عظيما في فلسفته، وفي الفكرة التي حركته إلى هذه الفلسفة. وعلى كل هذا، فيما مر من أمره، شواهد ودلائل.
ومن سمات العظيم ألا يمر في حياته غير ملحوظ، كما هو شأن عامة الناس وأوساطهم؛ إنه في الأعم الأغلب من الحالات يحدث حول نفسه دويا وهو حي، ويكون له أثر خالد بعد أن ينتقل إلى الحياة الأخرى.
وقد توفرت هذه السمة لفيلسوفنا، فقد عرفنا كيف اصطفاه الخلفاء، ثم كيف عقدت المجالس لمحاكمته، ثم كيف انتهى هذا بالحكم عليه بالإلحاد والكفر حينا من الزمن، ثم كيف يثوب الخليفة إلى رشده فيعفو عنه ويستدنيه إليه قبل وفاته.
أما أثره فيمن بعده، فقد خصصنا هذا الفصل لبيانه، إلا أنه من الخير أن نذكر كلمة عن تأثره في فلسفته بمن سبقه من أسلافه مفكري المسلمين وفلاسفتهم.
إنه لا يمكن أن يقول باحث عن مفكر من المفكرين: إنه اخترع علما كاملا أو فلسفة من نفسه، غير مقيد أو متأثر بمن تقدمه في هذا السبيل، مهما كان عبقريا ألمعيا أو ملهما، فابن رشد إذن لا بد أن يكون قد أفاد، وأفاد كثيرا من أسلافه، وبخاصة الفيلسوفين الكبيرين: الفارابي وابن سينا.
ولسنا بسبيل كتابة رسالة خاصة عن ابن رشد وفلسفته، فنستقصي مواطن تأثره بغيره من الفلاسفة المسلمين؛ لذلك نكتفي في هذه الناحية ببيان ذلك بإيجاز في مسألة التوفيق بين الحكمة والشريعة؛ إذ كانت هذه المسألة معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية.
Halaman tidak diketahui