هكذا اختلف مؤرخو الفلسفة الإسلامية في بيان نزعة ابن رشد، ولعل الصواب أن نقول للأستاذ «جوتييه
Ganthier » المستشرق الفرنسي المعروف: إن فيلسوف قرطبة ليس من الحق أن يوصف بأنه عقلي أو غير عقلي دائما وبإطلاق.
إن الحق - فيما نرى - هو أن يحكم عليه بأنه غير عقلي إذا ما تعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وأنه عقلي إذا تعلق الأمر بأولي النظر العقلي والفلسفة؛ ذلك بأنه - فيما يذهب إليه - بالتعبير عن الحقيقة الواحدة بلغتين «مرة بالرموز والأمثال ليفهمها الجمهور، وأخرى بذكرها مجردة كما هي لذوي البرهان» يتم التفاهم بين الشريعة والحكمة، ولا تصطدم إحداهما بالأخرى، ما دام لكل منهما نفوذ خاص، وصنف معين من الناس تتجه لخيره وسعادته.
عمله في نظرية المعرفة
لعل هذه الناحية من نواحي نشاط ابن رشد الفلسفي كانت حرية أن تكون ضمن البحوث التي انطوى عليها مذهبه في التوفيق بين الحكمة والشريعة؛ فإن فيها ضربا من التوفيق بين العقل والحاجة إلى عون الله وإلهامه حتى تتم للإنسان المعرفة الكاملة.
كان من الممكن أن يكون هذا، إلا أننا أفردناها ببحث مستقل؛ لأنه لم يقصد بها التوفيق فقط، بل عنى بها ما يجب أن يعنى به كل فيلسوف، وهو بيان المعرفة وبم تكون؟ وكيف تكون؟ معتمدا تقريبا على رسالة النفس لأرسطوطاليس وحدها. هذه الرسالة التي تعتبر أساسا لعلم النفس عند الإغريق وعند المسلمين حتى في كثير من التفاصيل.
ومما لا ريب فيه أن الحدود التي رسمناها لهذا العمل الصغير، لا تتسع لشرح نظرية العقل والمعرفة في كل تفاصيلها، كما جاءت عن أرسطوطاليس وشراحه، وعن الفلاسفة المسلمين الذين سبقوا ابن رشد؛ لذلك سنعنى فقط بما يختص بفيلسوفنا من هذه النظرية، لنرى ما قد يكون له من تعديل أو ابتكار وطرافة. (1)
تكون المعرفة عند الفلاسفة بعمل العقل الإنساني الذي ينتزع الحقائق المختلفة من موادها ويدركها، إلا أنه لا بد له - ليؤدي وظيفته - من معين آخر خارج عنه. وهذا المعين هو العقل الفعال الإلهي الخالد الذي يشرق على العقل الإنساني ويلهمه الحقائق المختلفة متى كان مستعدا وأهلا لها، والذي يعتبر الاتصال به - عند فلاسفة الإسلام - هو الطريق الأمين للمعرفة الحقة.
لذلك نرى أن مسألة اتصال الإنسان بهذا العقل الفعال تشغل جانبا كبيرا من تفكير الفلاسفة المسلمين، لحسبانهم هذا الاتصال أسمى غرض يجب أن يعنى الإنسان بالوصول إليه، وأنه إذا تم فقد وصل المرء إلى السعادة الكاملة.
وأي سعادة تقارب سعادة من طهرت نفسه وصفت، فصارت مرآة مجلوة ترتسم عليها الحقائق العالية، ووصل إلى مشاهدة النور الإلهي، وانفتح له ما كان مغلقا أمامه من المعارف والعلوم من غير حاجة إلى ترتيب دليل أو نظر فكر!
Halaman tidak diketahui