إن حجة الغزالي في رأيه «أخطأ على الشريعة والحكمة» بإثباته تآويل النصوص التي يجب تأويلها في غير كتب البرهان، فذاعت بين الجمهور، وكان من هذا أن عاب قوم الأولى وآخرون الثانية. وإن المتكلمين، وبخاصة المعتزلة، بتآويلهم التي صرحوا بها لمن ليس من أهلها «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع.» كما يذكر في «فصل المقال».
ولم ينس ابن رشد حين لام هؤلاء وأولئك على ما فعلوا، أنه وقع في مثل صنيعهم؛ لذلك تراه يعتذر عما فعل بأن الجمهور عرف من هؤلاء الذين يلومهم هذه التآويل، فكان لا بد له من أن يتكلم فيها لبيان الحق من جهة، ولدفع الأذى عن الجمهور من جهة أخرى، كما يفعل الطبيب الحاذق لشفاء المريض إذا تعدى الجاهل المتطبب وسقاه السم على أنه غذاء.
وما أجمل اعتذاره الذي يسوقه في هذه العبارات من كتابه «فصل المقال»:
فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الجنس من النظر، أعني التكلم بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة. ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استجزنا أن نكتب في ذلك حرفا، ولا أن نعتذر في ذلك لأهل التأويل بعذر؛ لأن شأن هذه المسائل أن تذكر في كتب البرهان.
وهذا الاعتذار الحق، الذي له أسبابه ومبرراته، يشبه اعتذار سلفه ابن طفيل - في مثل حالته - عن مخالفة طريق السلف الصالح في الضن بالحكمة على غير أهلها، بأنه حاول إصلاح الذي أفسده سابقوه الذين صرحوا بآراء مفسدة، وتآويل ضالة تلقفها غير أهلها فعم لذلك ضررها.
الاستدلال لعقائد الدين
ولكي يكون ابن رشد منطقيا وإيجابيا، أي لكي يكون عمليا يراعي ما وضع من قواعد وأصول لوضع العلاقة بين الحكمة والشريعة على أسس تضمن السلام بينهما، نجده - بعد أن نقد طرائق رجال علم الكلام لعقائد الدين - يبين الطريقة المثلى - في رأيه - للاستدلال على ما يجب الاستدلال عليه من هذه العقائد.
تناول تلك العقائد والمسائل وطبق عليها، في بيانها وإثباتها ، ما سبق أن قرره من ضرورة ملاحظة اختلاف العقول والاستعدادات وما يستتبعه من اختلاف التعاليم. وهو في كل ذلك يعتمد على القرآن وحده، ويفسره وفق منحى خاص له تفسيرا يختلف باختلاف من يتوجه إليهم الخطاب. (1)
وقد بدأ في هذه الناحية - التي احتفل لها لما لها من خطر - بتأكيد أن الطرق التي ارتضتها الشريعة لإثبات تلك العقائد ليست هي طرق الأشاعرة والمعتزلة من المتكلمين، بل هي الطرق التي جاءت في القرآن وحده «قال الكتاب العزيز - كما يقول في «فصل المقال» - إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس.» العامة، والمتكلمين أهل الجدل، والخاصة أولي العلم والبرهان.
هذه الطرق سعد بها الناس دهرا طويلا، وتسعد كذلك بها الإنسانية إن اتبعتها، ودليل ذلك الصدر الأول من المسلمين ومن سار على هديهم من الذين لم يؤولوا القرآن إلا إذا كان التأويل ظاهرا واضحا بنفسه للجميع، واكتفوا باقتناع القلب وبرد اليقين. ولما أخذ المسلمون في التأويل في العصور الأخرى تفرقوا فرقا مختلفة، ومهدوا بأنفسهم لحالة من الشك والقلق لا تكون معها سعادة أو راحة واطمئنان.
Halaman tidak diketahui