فإذا تركنا المشرق إلى المغرب، وجدنا ابن باجه وابن طفيل، وهما من معاصري ابن رشد، قد عملا - كل بقدر وسعه وعلى طريقته - على إحياء الفلسفة، كما ترك الثاني بصفة خاصة أثرا يدل بوضوح على رأيه في التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وعلى ما بذل من جهد في هذا السبيل، ونعني بهذا الأثر القيم «قصة حي بن يقظان»؛ ففي هذه القصة الفلسفية نرى أنه حينما التقى حي بن يقظان الذي انتهى إلى الحقيقة بالنظر والتفكير بالبطل الآخر «آسال» الذي عرفها من الدين، وروى كل منهما للآخر قصته، عرفا أن الحقائق التي عرفت بالدين والفلسفة متطابقة تطابقا تاما؛ ولهذا نرى المراكشي والمقري يصفان ابن طفيل باجتهاده في التوفيق بين الحكمة والدين.
حالة كهذه، التي وجد فيها فيلسوفنا، كانت تتطلب بلا ريب من يعمل بقوة على الانتصاف للفلسفة وإحيائها، والتوفيق بينها وبين الشريعة، وقد كان ابن رشد هو المرجى لهذه الرسالة؛ فقد جمع بين الاستعداد لها، والحظوة لدى أمير يشجع على الفلسفة ويقرب رجالها.
وإذا كانت محاولة ابن رشد التوفيق بين الحكمة والشريعة هي أهم الوسائل التي رآها لتحقيق الرسالة التي ندب نفسه لها، وإذا كان هذا التوفيق في نفسه غاية جليلة صرف فيها كثيرا من جهوده، وإذا كانت هذه المحاولة منه ومن أسلافه فلاسفة الإسلام بصفة عامة هي معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية، كما يقول المستشرق الفرنسي «ليون جوتيين
Lèon Gauthier »، إذا كان الأمر كذلك، فإننا سنتناول أولا الحديث عن عمله في هذه الناحية وما يتصل بها، ثم نسوق الحديث إلى جهده في الرد على الغزالي وهدم تهافته، وبذلك نكون تناولنا - بالقدر الذي يسمح لنا به نطاق هذا الكتاب الضيق - أهم جوانب فلسفة ابن رشد العظيم.
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
تمهيد
الإحساس بالحاجة إلى التوفيق بين الفلسفة أو الحكمة والشريعة عاطفة طبيعية يحس بها كل من عني بالبحث في هاتين الناحيتين. ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد ما واجبا لازم الأداء، وأمرا ينساق إليه الفيلسوف المتدين صاحب العقيدة التي لها قداستها في رأيه؛ وذلك لأكثر من عامل واحد:
أولا:
ليحقق الانسجام بين ما وصل إليه بعقله وبين معتقده الموروث عن الآباء والأجداد، العامر به قلبه، والذي يراه فوق كل شك، وإن عز عليه أحيانا أن يفهم بعض ما جاء به، أو بعض ما يستلزمه.
وثانيا:
Halaman tidak diketahui