شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .
والتصوف هو بلا ريب فلسفة الإسلام، والمتصوفة هم فلاسفة الإسلام بالتعريف المحمدي والحدود الربانية.
عرف الكندي الفلسفة: بأنها العلم بجميع الأشياء. وعرفها الفارابي: بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة. وقال الشيرازي: إن الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقا بالبراهين، لا أخذا بالظن والتقليد. وإن شئت قلت: نظم العالم نظما عقليا على حسب الطاقة البشرية لتحصل السعادة العظمى.
ويقول ابن سينا في «فصل ماهية الحكمة»: الحكمة: صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله، مما ينبغي أن يكتسب فعله؛ لتشرف بذلك نفسه وتستكمل، ويصير عالما معقولا مضاهيا للعالم الموجود، وتستعد نفسه للسعادة القصوى، وذلك بحسب الطاقة البشرية.
فالفلسفة إذن - كما عرفها الفلاسفة - هي علم العلوم، أو العلم الجامع المحيط، أو العلم الذي يفلسف المعارف، أو العلم الذي يبحث في حقائق الأشياء، ويتلمس أسبابها وعللها؛ لتستكمل النفس معارفها، فتحصل على السعادة العظمى.
هذه هي تعريفات الفلسفة، وهي بذاتها تعريفات التصوف، وإنما الخلاف في النهج والطريقة.
والفلاسفة يعتمدون على عقولهم وأفكارهم، ويؤمنون بالتصفية والتجرد، بل لقد جعل أفلاطون وفلاسفة مدرسة الإسكندرية التجرد والتصفية أساسا لمعارفهم وفلسفتهم، والفلسفة الإشراقية بأسرها تقوم على التجرد والتصفية.
وهي قربى واضحة للتصوف، واعتراف صريح بطريقته ونهجه؛ وإنما التصوف الإسلامي يمتاز باعتماده على الدين والوحي، واستمداد معارفه في الإلهيات من الدين وما أتى به الوحي؛ ولهذا سلمت فلسفته من الخطأ في الإلهيات، فامتاز بأنه الفلسفة العالية الوحيدة التي ظفرت بالمعارف وآمنت في الإلهيات؛ بينما ضل وأخطأ سواها.
ولسنا نأتي ببدع من القول إذ نقول: إن التصوف هو الفلسفة الكاملة المبرأة من الخطأ والضلال، وإن المتصوفة هم فلاسفة الإسلام بمعنى الفلسفة الإسلامية الكاملة؛ فأهداف الفلسفة كلها تنطوي تحت أجنحة المتصوفة، ولهم بعد ذلك الصفاء والطاعة، والسجدات المؤمنة في محاريب الرضا والمحبة.
يقول مصطفى بن عبد الله جلبي - المشهور باسم حاجي خليفة - في كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»: «وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية، كما أن الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة علم الكلام فيها. وبيان ذلك: أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجملة: معرفة المبدأ والمعاد، والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين: أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال، وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات. والسالكون للطريقة الأولى؛ إن التزموا ملة من ملل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاءون، والسالكون إلى الطريقة الثانية؛ إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع؛ فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون.»
Halaman tidak diketahui