محيي الدين هو المثل الأعلى للأرستقراطية العقلية، كما هو المثل الكامل للأديب المثالي، وإذا كان الشعراني، يمثل معارفه بالنسبة إلى معارف المتصوفة بإكسير الذهب بالنسبة إلى الذهب، فإن أسلوبه البياني - كما يقول بعض رجال الاستشراق - يشبه عمل الفنان المدقق الذي يتخير الدرر الغالية، بأكبر عناية، وأقصى حساسية، أكثر مما يشبه الثمار الأولى لنوبة من نوبات النشوة الروحية.
أسلوب محيي الدين، أسلوب الفنان المدقق، الذي يتخير جواهره ولآلئه، بعناية المتذوق الخبير، وحساسية الفنان القدير؛ فهو لا يشغلك بالألفاظ مع روعتها عن المعاني، ولا بالمعاني على سموها عن الألفاظ، بل لكل نصيبه ومكانه؛ فهو العالم الأديب، والأديب العالم، في كل جملة له معركة عقلية، وصورة بيانية، والقوة لديه قوة فكر وبيان، لا قوة زخرف وتهويل.
ولقد قسم علماء البلاغة تأثيرها إلى قسمين: فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة، والتأثير في القلوب عمل الموهبة المشرقة الجاذبة.
ولقد جمع محيي الدين بين الموهبتين؛ فهو لدى العقول المعلم المفسر الذي يعرض عليك ألوانا متتابعة من شتيت الصور والمعاني، على سنان قلم عبقري، يجمل ويفصل، وهو لدى القلوب العازف الماهر، المترنم بالألحان والمواجيد، الذي يهبط بالمعارف من خدورها، فيزفها إليك مجلاة محلاة بالإشراق والنور.
ولمحيي الدين أكبر الأثر في لغة التصوف، فلقد نقلها من لغة القلوب إلى لغة العقول ومزج بينهما؛ فكان منهما معا أسلوب محيي الدين الذي تميز به وعرف عنه، وعاش به وله، والذي وثب به وثبات عقلية ولغوية جبارة، تضيفه إلى المبتكرين العالميين.
ثم تأتي بعد ذلك خصوصية لمحيي الدين لا يشاركه فيها سواه، وهي سره كما أنها مفتاحه، وذلك أن قارئ محيي الدين، يحس بعد قراءته بأنه قد خلق خلقا جديدا، وأنه اطلع على آفاق من الفكر والبيان لم يكن له بها عهد، ثم يشعر بعد ذلك بحب غلاب قهار، يربطه بمحيي الدين ويمسكه لديه، ثم يرى، إذا كان من أهل الرضا، في كل كلمة من كلام محيي الدين محرابا وبابا للسماء.
شخصيته
مقام محيي الدين بين رجال التصوف هو مقام السلطنة، ولعل هذا المقام قد اشتق من مكانته وشخصيته.
ولقد أجمع رجال التاريخ على أن محيي الدين، قد تميز بشخصية جبارة غلابة، لها جلال ورواء وبهاء، وسمت ووسامة ووقار، تخشع لديه الطغاة ويرجف منه المتكبرون.
حتى إن خصومه كانوا إذا واجهوه خنعوا والتمسوا لديه عفوا، ومنه تسامحا، وأقبلوا يتمسحون بأطرافه، ويتبركون بنجواه، ويرجون مغفرة ورضا.
Halaman tidak diketahui