وغمرت تلك الأمواج سهول آسيا، وطوت بوادي أفريقيا؛ فلم يصدها عن الطواف بالكوكب الأرضي إلا أمواج المحيطات في الشمال والجنوب.
ووقف عقبة بن نافع في أقصى بقعة من الشمال الأفريقي المواجه لأوروبا، يرقب الأفق، ويفكر في شيء غير مرئي، ثم دفع بجواده إلى الماء هاتفا: «اللهم رب محمد، لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضا تغزى في سبيلك لغزوتها.»
ومضت سنون، فإذا بفرسان الصحراء يستبدلون بصهوات جيادهم الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، المتحكمات في عروش الماء، وإذا بالمحيطات ميدان جديد لتلك القوة الفوارة بالبأس، الرحيمة بالهدى والإيمان.
وانطلقت سابحات الماء العربية تجوب البحار، وتقرع أبواب أوروبا؛ فيتم لها التطواف حول الأرض حتى لا تكون فتنة، وحتى يكون الدين كله لله.
وكانت الوثبة الأولى على الجزيرة الخضراء؛ مفتاح أوروبا ورأسها المفكر، وبسيادة العرب على الأندلس أضاء الإسلام قارات الدنيا الثلاث المعروفة في ذلك الحين؛ فتمت له السيادة العالمية.
وفي الأندلس دخلت الحضارة المحمدية أفقا جديدا، والتقت وامتزجت بثقافات وعادات وأمم جديدة. وإلى الأندلس - وهي أقصى مد للموجة الحربية المنتصرة - نفر الأبطال والرجال أولو البأس والعزم والطموح، وإليها - وهي أبعد المراكز الإسلامية عن مقر الخلافة الحاكمة ذات العنفوان والجاه - هرع الأحرار والعلماء ورجال الفكر.
وبذلك ظفرت الأرض الجديدة بالصفوة المختارة؛ فتهيأت لأن تكون مهدا وساحة للعصر الذهبي في الإسلام، وأعدت لمشاهدة أعظم حضارات العالم القديم.
يقول كاتب إسبانيا الأكبر «بلاسكوا أبانيز» في كتابه - ظلال الكنيسة - متحدثا عن العصر الإسلامي في إسبانيا: «... وأخذ فرسان محمد
صلى الله عليه وسلم
يتدفقون من جانب المضيق، فتستقر معهم تلك الثقافة الغنية الموطدة الأركان، نابضة بالحياة، بعيدة الشوط، ولدت منتصرة، وبث فيها النبي حمية مقدسة، واجتمع لها ما في وحي إسرائيل، وعلم بيزنطية، وتراث الهند، وذخائر فارس، ومعارف الصين.»
Halaman tidak diketahui