وبلغت القصيدة ابن عمار وكان في أوج مجده وكان الذين حوله يوهمونه أنه الفرد العلم فتمكنت نشوة المديح من رأسه وأنسته ماضيه وعقله وكياسته وأنسته كل ما تعلمه من تدبر للأمور، بل أنسته كل ما سكبه عليه المعتمد من فضل، بل نسي أن هذا المديح الذي يسمع هو نتيجة لفضل من أفضال المعتمد عليه، وخيل إليه أنه هو صاحب الفضل على المعتمد، وأنه هو الذي أدى إليه من الخير ما لم يستطع أحد أن يؤديه له. نسي ابن عمار كل هذا وخيل إليه أنه غدا ملكا مثل المعتمد، وقابل قصيدة الهجاء من المعتمد بقصيدة هجاء من ابن عمار ولم لا وكلاهما شاعر ؟
ولكن ابن عمار لم يكن في مثل شجاعة المعتمد فهو في عميق نفسه يحس - ما زال - بأنعمه، وهو يعرف تماما الفارق بين المفضل والمفضول فهو يلقي القصيدة فيمن ظنهم خاصته وكان من بينهم يهودي من عيون ابن عبد العزيز استطاع أن ينال ثقة ابن عمار، فما إن سمع القصيدة حتى أبدى إعجابه الضخم بها ثم طلب خمرا ليستمع إليها مرة أخرى وهو مخمور فتزداد نشوته، وجاءت الخمر فأخذ اليهودي يشرب حسوا في إقلال ورزانة بينما يعطي ابن عمار الكئوس دهاقا مليئة حتى دار رأس ابن عمار، فسرق اليهودي القصيدة منه مكتوبة بخط يمينه وأرسل رسولا إلى ابن عبد العزيز في مرسية، وما لبث هذا أن أرسلها إلى المعتمد في إشبيلية وقرأ المعتمد، ولأول مرة بعد خمسة وعشرين عاما من صداقته لابن عمار، قصيدة يهجوه فيها ابن عمار، بل إنه لم يهجه وحده وإنما زاد فهجا «إعتماد» وسخر من حب المعتمد لها، وزاد فذكر بنياته وأهل بيته بشر.
سفر العداء إذن وصرح الشر وتقطعت السبل بين الصديقين فما لإصلاح من سبيل، وملأ الغيظ قلب المعتمد فأخذ يدبر للانتقام.
ولها ابن عمار عما يدبر له والتفت إلى ما يحيط به من مجد وقد استقر لديه أن الأمور قد أسلست قيادها له.
نسي ابن عمار أن الذي فتح له مرسية يستطيع أن يثيرها عليه، نسي ابن رشيق صاحب حصن بلج الذي عاونه، نسيه وهو في أوج مجده وفي غمرة ملكه فما التفت إليه وما أناله مما كان يطمع شيئا، ويل المديح! إنه يعمي أشد الناس ذكاء عن أبسط الأمور وأقربها إلى الذهن. لقد استطاع أن يعمي حتى ابن عمار فما عاد يلتفت إلى تلك الأشياء الدقيقة التي ما كانت لتفوت عليه قبل أن يصل إلى الملك.
لقد وجد ابن رشيق أن لا غناء عند ابن عمار، وعرف بقصيدة المعتمد ثم بقصيدة ابن عمار فعرف أن المعتمد يريد الانتقام فشد إليه الرحال وعرض بين يدي الصديق الذي يريد أن ينتقم لصداقته، والزوج الذي يريد أن ينتقم لزوجه، والأب الذي يريد أن ينتقم لولده، وصاحب الفضل الضائع الذي يريد أن ينتقم لفضله، عرض بين يدي المعتمد وسيلة الانتقام.
كان ابن عمار لا يزال في بلهنيته ليس يدري بأمر أعدائه الذين ألبهم هو على نفسه، خيل إليه أن ابن عبد العزيز وابن طاهر لن يمدا إليه يدا بشر، وخيل إليه أن ابن رشيق لن يهم به فهو صديقه، وحسب ابن رشيق فخارا أن يكون صديقا لابن عمار.
خيل إليه هذا كله فانصرف إلى مادحيه، وبينما ابن عمار في هالة من صحابته إذ سمع أصوات ضجيج وصخب وصراخ تتقارب نحو قصره فقام إلى الشرفة فوجد جموعا حاشدة تدنو وما هي إلا لحظات حتى استبان صراخهم، لقد كانت الثورة به، لقد جاء الجنود يطالبون بمرتباتهم ويهددون بالويل العظيم إن هم لم ينالوا ما يريدون. أدرك ابن عمار حينئذ أنه وقع فريسة خيلائه ويهم أن يلوذ بسهم أخير فيخطب الجموع أنه سيسأل المعتمد أن يرسل إليه المال فيعطيهم رواتبهم ولكن قبل أن يفعل هتف به نائب الجنود من أسفل الشرفة: هيه ابن عمار! أحسبت أن تقطع عنا رواتبنا ونسكت عنك؟ هيهات، لقد أقسمنا فيما بيننا قسما غليظا إن لم تسلمنا حقنا سلمناك للمعتمد من فورنا، إلى المعتمد يا ابن عمار، أتعلم من هو المعتمد اليوم؟
كان القول حاسما، نعم إن ابن عمار يعلم من هو المعتمد اليوم، إنه النقمة التي كانت خيرا، وإنه الذل الذي كان مجدا، وإنه النار التي كانت ندى ورحمة وبرا. عجز ابن عمار الذي احتال على الملوك والوزراء والكابرين، عجز عن أن يحتال على ثلة ليست من الملوك ولا الوزراء والكابرين وإنما هم أصحاب حق يطالبونه به، مهما تكن الأيدي التي حركتهم قد ابتعثها الحقد والانتقام والبغض الشديد إلا أن هذا لا يغير من موقفهم شيئا، إنهم أصحاب حق يطالبونه به.
لم يبق أمام ابن عمار إلا أن يفلت بحياته فهو يتكلم لا ليدافع ولا ليطلب من القوم الريث فقد رأى منهم عزما وإصرارا، إنه يتكلم فلا يقول شيئا إلا: أيها الجند، إن هي إلا بعض الساعة حتى تكون رواتبكم بين أيديكم. ويدخل ابن عمار إلى القصر لا ليؤدي الرواتب فما كان بخزائنه شيء؛ فلقد اشترى المديح الذي تهدى إليه بكل المال الذي كان لديه، يدخل ليجمع ما يطيق أن يحمل. ومن باب سري يخرج ابن عمار من القصر فلا يراه الجنود ويظل مستخفيا حتى يخرج من مرسية جميعها إلى ... إلى الطريق.
Halaman tidak diketahui