غاية ما هنالك أن الساحر يعرف الكلمة التي تطيعها تلك الأرواح، وأنه هو - الإنسان الساذج - لو عرفها لحرك الجبال كما يحركها، وزلزل الأوتاد كما يزلزلها، فلا تعمق عنده، ولا تصوف، ولا تجريد.
وإلى اليوم يستطيع الإنسان الساذج أن يقول: إن الكلمة تفعل الأعاجيب، وتحكم الدنيا؛ لأنها تحكم الإنس والجان، ولكنه يقولها ولا يشعر بعمق فيها، ولا يشعر السامع بدهشة عند سماعها، وإنما «تعمقها» الفلسفة لأنها تعطيها المعنى الذي لا يقدر عليه العقل الساذج، ويفعل التضامن في البداهة الإنسانية فعله فلا تبدو هذه النقلة كأنها الطفرة المنقطعة بين الحس واللمس، وبين الصوفية العقلية في أعلى الدرجات. •••
ولما فرق الإنسان الساذج بين السحر والعبادة لم يعتمد في تفرقته هذه على مقياس الشعرة الذي استخدمه علماء العصر الأخير في مراجعة العقائد، وضم الأشباه منها، وفصل المختلف منها بكل فارق دقيق أو جليل.
ولكنه فرق بين السحر والعبادة غير عامد ولا ملتفت إلى فارق بينها غير الفارق بين حالته وهو يذهب إلى الساحر، وحالته وهو يذهب إلى إمامه في العبادة، وربما كان الساحر والإمام شخصا واحدا، ولكنه يشعر من نفسه بالفارق بين حالته وهو يذهب إليه طلبا للسحر، وحالته وهو يذهب إليه طلبا للصلاة .
فحيثما ذهب إليه يطلب سحرا، فهو يحس من نفسه أنه يذهب إليه خفية، ويستر عنده ما يطلبه، ولا يبوح به لغيره ممن لا يأمنه ولا يطمئن إليه، وحيثما ذهب إليه يطلب صلاة فهو يذهب مع غيره، ويعلن ما يفعله وما يرجوه، ولا يخطر له أنه يتواطأ على دسيسة من دسائس الظلام.
ومنذ افترق الساحر والكاهن وظيفة وخلقا، أصبح السحر عملا من أعمال الظلام، وإن اختلف الأعوان عليه بين الأرواح الخبيثة والأرواح الطيبة، أو بين الأرواح التي يحكمها الشيطان والأرواح التي لا حكم له عليها، ولا يرجع إليه في تسخيرها.
ومع الزمن ظهر التخصص في صناعة السحر، كما يظهر في كل صناعة تتفرع وتتشعب وتتميز فيها المتشابهات والمتخالفات، فانقسم السحر إلى أبيض وأسود، وإلى سحر الحكماء وسحر الكذبة والمشعوذين، ولم يفهم الناس من وصفهم بالكذب والشعوذة أنهم لا يقدرون على صناعتهم التي لا شك فيها، وإنما فهموا من هذا الوصف أنهم يحتالون في الصناعة، ويسلكون مع طلابهم مسلك الشياطين وحلفاء الشياطين، ولا غرابة في الكذب أو الشعوذة من شيطان.
وبقيت «السرية» شرطا ملازما للسحر بنوعيه، وبقيت هذه السرية معنى مرادفا لمعنى الظلام، وتدبيرا لا يؤمن على الذين يعتقدونه ولا يرونه، ولا يعرفون كيف يكون تدبيره، ومتى يكون، وعلى أي وجه يكون. بقي الساحر مخيفا غير مأمون، وغار منه الكاهن على سلطانه فوقعت الجفوة بينهما، ولعن الكاهن غريمه، ولم يستطع غريمه أن يلعنه؛ لأن الناس لا يصدقون لعنته، ولا يرون اللعنة من حق السحر، وإن لم يكن سحرا من عمل الشيطان.
وقد وجد الكهنة والمتنبئون، ووجد معهم السحرة «وأصحاب الجان» جنبا إلى جنب في أخبار التوراة من أقدم أسفارها بعد موسى عليه السلام، ولكن الرؤساء والولاة كانوا يخرجون الأنبياء؛ لأنهم ينكرون أنهم أنبياء، ويخرجون السحرة وأصحاب الجان إذا عرفوا أنهم سحرة وأصحاب جان، وكذلك فعل شاول قبل موت النبي صمويل، فلما مات النبي بحث عن السحرة الذين نفاهم ليحضروا له روحه بعد موته، وقصته مع النبي في محضره ومع السحرة بعد غيبته نموذج للعقائد الأولى، التي لم تفصل بعد كل الفصل بين الوظيفتين، وإن فصلت بينهما في التجلة والتقديس.
ويقول الإصحاح الثامن والعشرون من كتاب صمويل: «... ومات صمويل وندبه كل إسرائيل ودفنوه في الرامة في مدينته، وكان شاول قد نفى أصحاب الجان والتوابع من الأرض، فاجتمع الفلسطينيون وجاءوا ونزلوا في شونم، وجمع شاول جموع إسرائيل ونزل في جلبوع، ولما رأى شاول جيش الفلسطينيين خاف واضطرب، فسأل الرب فلم يجبه الرب بالأحلام ولا بالأوريم - أي القرعة الكهنوتية - ولا بالأنبياء، فقال شاول لعبيده: فتشوا لي عن امرأة صاحبة جان؛ فأذهب إليها وأسألها، فقال له عبيده: هو ذا امرأة صاحبة جان في عين دور.
Halaman tidak diketahui