46

ولم يكن الشيطان هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة، بل كانت الحية هي صاحبة الغواية هنا، جريا على سنن الأقدمين الذين كانوا يوحدون بين الضرر الحسي وبين الخطيئة الأخلاقية، وقبل أن تصبح الحية مجرد رمز إلى الشيطان تلاحظ فيه المشابهة بين نفث السم ونفث الشر على أسلوب المجاز.

ولم يذكر الشيطان قط في كتاب من الكتب قبل عصر المنفى إلى أرض بابل سنة (586 قبل الميلاد) ... ثم كان ذكره فيها على الوصف لا على التسمية، فجاء مرة بمعنى الخصم في القضية، وجاء مرة أخرى بمعنى المقاوم في الحرب، وأطلق مرة على الملك الذي تصدى لبلعام في طريقه؛ لأنه كان بمعنى المعترض أو الضد أو الخصم المقاوم، ولم يذكر بصيغة العلم إلا حيث قيل في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام: إنه «وقف الشيطان ضد إسرائيل».

وقد كانت قرابين الكفارة تقسم على التساوي بين الإله وبين عزازيل رب القفار، أو الجني الذي يهيمن على الصحراء، وكان إيمانهم بوجود الأرباب الأخرى التي يعبدها غيرهم من الأمم بديلا من صور الشياطين؛ لأنها كانت تعمل عمل الشيطان، كلما صرفت الشعب عن عبادة «يهوا» إلى عبادة غيرها تثير النقمة على العصاة، وإنما تأتي النقمة إذن من «يهوا»، ولم تأت قط من أولئك الأرباب الأجنبيين، البدلاء من الشياطين.

وقد تمثل الشيطان في صورة الواشي الموغر للصدور في قصة أيوب عليه السلام، ولم يكن منعزلا عن الملائكة، بل دخل معهم إلى الحضرة الإلهية، وجرى سياق القصة على النحو الآتي كما جاء في الإصحاح الأول من سفر أيوب: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضا في وسطهم، فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها، فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ إنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك حميته بحياطتك إياه، وحياطة بيته وكل ما يملك من ناحية؟ ... باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض ...»

ثم تبتدئ المحنة بتسليط الشيطان على أيوب لامتحان تقواه وصبره على ضربات المرض، والبلاء، والفقر، والحرمان.

وقصة أيوب عربية باتفاق الشراح المؤرخين ونقاد العهد القديم، ولها نظائر في الأدب العربي إن لم تكن هي القصة بعينها منقولة في رواية أخرى، ونعني بها القصة التي أشار إليها امرؤ القيس حيث يقول في معلقته:

وواد كجوف العير قفر قطعته

به الذئب يعوي كالخليع المعيل

فإن الجوف بلغة اليمن هو الوادي، وكلمة العير في هذا البيت بديل من كلمة «الحمار» اسم صاحب القصة، ولم تستقم كلمة الحمار في وزن الشعر فجاء الشاعر بكلمة العير لتدل على معناها، وكان حمار بن مويلع هذا رجلا من العمالقة له مال وبنون، وزرع وضرع، فنزلت على أبنائه صاعقة في بعض أسفارهم أحرقتهم وما معهم، فكفر الرجل بالله وقال: «لا أعبد ربا أحرق بني.» ثم عكف على عبادة الأصنام فأرسل الله على واديه نارا أتت عليه، وجعلته مضرب المثل في الخراب، فيقال على هذه الرواية: «أخلى من جوف حمار.»

وأيا كان القول في هذه القصة فلا خلاف على قصة أيوب، ولا على نسبة أيوب إلى العرب، ولا على انفراد هذه القصة بين كتب العهد القديم بتمييز قوة الشر والغواية في «شخصية الشيطان» ... وتلك قيمة من القيم الاعتقادية التي لم يميزها العبريون؛ لأنهم لم يبلغوا من التمييز بين طبيعة الخير وطبيعة الشر أن يفرقوا بين الملائكة والشياطين، وأن ينزهوا الإله الذي يعبدونه أو تعبده الأقوام الأخرى عن قبائح الشيطان.

Halaman tidak diketahui