ومنهم من يرجع بهذه العقيدة إلى طبيعة الاستحياء، أي إلى الطبيعة التي تخيل إلى الهمجي أن الأشياء ذات حياة مثله، فيعاملها كما يعامل الأحياء، ويرضى عنها أو يغضب عليها كالطفل الذي يضرب الأرض إذا صدمته حين يسقط عليها، أو يشعر بالراحة حين نضرب الأرض أمامه ونعاقبها بجريرة سقوطه عليها، وإصابته من صدمتها.
وتتمكن هذه العقيدة في خيال الهمجي مع نقص اللغة، وخلطه بين الحقيقة والمجاز في تعبيراتها، فإذا سمع أن الأرض ولدت عيون الماء، وأن أباها انحدر من سحاب السماء لم تزل هذه الصورة تتجسم مع الزمن حتى تنشأ منها أسرة لها أب وأم وأبناء، ولها مشيئة يلقاها بالتوسل والرجاء، أو بالسخط والإعراض.
ومنهم من يرجع بعقيدة الأرواح إلى عبادة الأسلاف بعد الموت، وقد يحدث أن يسمى السلف باسم حيوان كالأسد أو النمر أو الثعلب أو النسر أو الصقر، فيحسب أبناؤه مع طول الزمن أنهم تحدروا من ذلك الحيوان، ويجعلون له قداسة مرعية توجب عليهم أن يحرموا قتله، وأن يتوقعوا الضرر والسقم إذا قتله أحد منهم أو من غيرهم ولم يأخذوا بثأره.
ويكاد علماء الأجناس والعادات البشرية أن يجمعوا على إيمان القبائل الفطرية بإله واحد أكبر من هذه الأرواح المتعددة، وأخفى منها في ظواهر الطبيعة.
وقد تقدم من كلام جلكمان أن القبائل في أفريقية الشرقية تؤمن بالإله نيامبي، الذي ارتقى إلى السماء حيرة من كيد الناس وشطارتهم وأفانين احتيالهم، وهذه العقيدة على الأرجح من بقايا عبادة الأسلاف التي يختلط فيها التاريخ بالخرافة، وأصلها على هذا الظن متصل بوحدة القبائل في جدها الأعلى، فهو ربها جميعا حيثما اختلفت أربابها، وتعددت الأرواح المسيطرة عليها، وقد جردوه من القدرة، وتركوا له صفة العلم والدراية كأنه الأب الشيخ الذي اعتزل العمل والقتال فلا طاقة له بمنع العداوة بين ذريته من القبائل المختلفة.
ولم ينفرد جلكمان بقصة هذا الإله الواحد الذي تشترك فيه القبائل المختلفة في أفريقية الشرقية؛ فإن الرحالين جميعا متفقون على إيمان القبائل الأسترالية برب فوق الأرباب يسمى «نانا»، أو يسمى بأبي الجميع “All father”
على مثال نيامبي في القبائل الأفريقية.
ويتفق الرحالون كذلك على إيمان الأقزام الأفريقيين برب فوق الأرباب، تشترك فيه القبائل وإن تعذر عليها الوفاق فيما بينها. ولم يجد علماء الأجناس قبيلة فطرية بلغت من ارتقاء الإدراك أن تؤمن بالتوحيد على صورته المثلى، ولكنها تقترب من هذه الصورة كلما ارتقت من فوضى العقيدة إلى مرتبة أعلى وأجمع من مراتب النظام. •••
وليس الهمجي جبانا؛ فإن الجبن بين الأخطار المحدقة به أضر به من الشجاعة، وقد عودته مواجهة السباع والحياة أن يواجهها علانية، وأن يصارعها وينصب لها الأحابيل، ويستخدم السلاح المستطاع فيما يعييه أن يتغلب عليه بالمصارعة، ولكنه بين الأرواح والأطياف أمام خطر مستور لا يدري من أين يأتيه، ولا تكون الغلبة عليه بقوة البدن والسلاح، ولعله لا يريد أن يتغلب عليه؛ لأنه عنده في حكم الأب أو الرئيس المطاع، ورياضته بالحيلة أولى من التصدي له بالأسلحة والفخاخ.
ولا بد من مواجهة تلك الأرواح والأطياف بما يكف غضبها، ويدفع أذاها، ويستجلب رضاها.
Halaman tidak diketahui