هل تنشأ الهوية عن الدين؟ فهناك الهوية اليهودية من الدين اليهودي، فاليهودية في تفسيرها الصهيوني دين وسياسة، وهي في الحقيقة سياسة تستغل الدين لتبرير السياسة. اليهودية منتشرة منذ نشأتها في كل مكان، وتمتزج بكل الحضارات كاليهودية. الصهيونية دين وقومية؛ أي: دين ودولة، وتريد أن يعترف بها العرب، ليس فقط كدولة بل كوطن قومي لليهود. فالدول تقوم وتنهار، أما القوميات الدينية أو الأديان القومية، فإنها تنشأ وتبقى.
وما دامت لليهود دولة قومية، فللدروز والأكراد والمسيحيين والعلويين والشيعة والأمازيغ والمارونيين والتركمان والإباضية في عمان والزيدية في اليمن؛ دول قومية أخرى، حتى تأخذ إسرائيل شرعية جديدة من المنطقة ذات الدول الدينية، وتصبح أقوى دولة دينية دولة ليهود المنطقة؛ خصوصا أن أكثر من نصفها من اليهود الشرقيين، دول قومية أخرى، يؤيدها الغرب العلماني الذي ينعى على العرب والمسلمين تكوين دول إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية؛ خوفا من الدول الدينية، وهو معيار مزدوج للحكم على الأشياء. لقد تخلى الغرب عن الدولة الدينية في بداية العصور الحديثة، ومع ذلك ظل الدين أداة طيعة في أيدي السياسة عن طريق التبشير كمقدمة للاستعمار. المسيحية الغربية جزء من الهيمنة الغربية، تستعملها أداة للهيمنة على غيرها من الشعوب التي يبدأ التبشير فيها. وإذا كان في الوطن الواحد دينان، مثل معظم الأوطان العربية، وكانت الهوية هي الدين، شق الصف الوطني إلى مسلمين وأقباط؛ كما هو الحال في مصر.
ويحاج أنصار الدولة الإسلامية بنفس المنطق؛ فالإسلام دين ودولة، هو الدين الرسمي للبلاد، والشريعة الإسلامية دستورها، والحاكمية فيها لله، وهو ما يخيف الأقباط باعتبارهم أهل كتاب أو أهل ذمة، وتطبيق الحدود عليهم دون مساواة في المواطنة؛ مساواة في الحقوق والواجبات، وهو ما يخيف أيضا «العلمانيين» والليبراليين والقوميين والاشتراكيين والماركسيين. والدولة الإسلامية ليست شعارا أو إعلانا أو شهادة، بل هي الدولة التي تحكم بمبادئ الدستور التي تقوم على الحرية والعدل، وهي المبادئ الإسلامية كما حددها الشاطبي في مقاصد الشريعة ووضعها ابتداء؛ وهي خمسة: الدفاع عن الحياة ضد المرض والجوع وكل ما يؤدي إلى التهلكة، والدفاع عن العقل ضد الجهل والأمية والخرافة والسحر والشعوذة، والدفاع عن الدين؛ أي: عن الحقيقة المطلقة التي لا يختلف عليها اثنان؛ مثل مبادئ التوحيد والعدل، والأصول الخمسة كما بينها المعتزلة،
11
والدفاع عن العرض؛ أي: الكرامة الفردية والوطنية وحقوق الإنسان الفردية والجماعية، ضد انتهاكها بالاعتقال والتعذيب، والدفاع عن المال العام والثورة الوطنية، ضد كل مظاهر الفساد والتبذير والتهريب. لا فرق في ذلك بين دولة إسلامية ودولة علمانية؛ ليبرالية أو قومية أو اشتراكية أو ماركسية. فالصراع بين هويتين، إسلامية وعلمانية، ليس صراعا فكريا، بل هو صراع على السلطة بين قوتين سياسيتين متعارضتين.
وهل تنشأ الهوية من اللغة؟ العروبة من اللغة العربية، فليست العروبة بأب أو أم؛ إنما العروبة هي اللسان، فكل من تحدث العربية فهو عربي، فهناك هوية عربية هي أساس القومية العربية والثقافة العربية. لا تقوم القومية العربية على العرق، بل على اللغة والثقافة والجوار الجغرافي والتاريخ المشترك، وقد كان معظم النحاة العرب، مثل سيبويه وأبي علي الفارسي، من الفرس. وقد حرصت القوى الاستعمارية الكبرى على نشر لغاتها في البلاد المستعمرة، فخلقت الفرانكفونية والأنجلوفونية والهسبافونية. وكان أول شيء حرصت عليه هو القضاء على اللغات الوطنية؛ كما حدث في الجزائر مع اللغة العربية عندما حاولت فرنسا محوها لصالح الفرنسية ؛ لولا جهود التعريب بفضل مصر وسوريا، حتى عادت الجزائر عربية. وما زال بعض البلاد الأفريقية فرانكفونيا مثل غينيا، أو أنجلوفونيا مثل غانا. فاللغات الوطنية لغات محلية لا يمكن أن تخرج على الصعيد الإقليمي أو الدولي. وأنشأت فرنسا مجموعة الفرانكفونية للحفاظ على انتشار اللغة الفرنسية خارج حدودها؛ خصوصا في أفريقيا، وقد قامت إسبانيا بنفس الشيء في جنوب غرب آسيا في الفلبين؛ بجعل الإسبانية لغتها الوطنية، وقامت هولندا بنفس الشيء عندما حاولت جعل لغة إندونيسيا الهولندية؛ لولا حركات التحرر الوطني والمحافظة على اللغة الوطنية بهاسا، كعلامة على النضال الوطني. وما زالت اللغة الإنجليزية هي لغة الخطاب الوطني في المستعمرات البريطانية القديمة؛ مثل الهند وجنوب أفريقيا ونيجيريا. وضاعت فرصة خلق لغة أفريقية واحدة مثل «السواحيلية» التي يتكلم بها غرب القارة، أو العربية التي حوربت في جنوب السودان، وفي الدول جنوب الصحراء التي شمالها مسلم وجنوبها مسيحي. صحيح أن الأجناس الأوروبية، الفرنسية والبريطانية والألمانية والإسبانية واليونانية، أجناس في علم السلالات، ولكنها كذلك لغات وثقافة، حضارة وتاريخ. وقد حرصت الدول الأوروبية على إنشاء جامعات أوروبية أو فروع لجامعاتها بلغاتها داخل الأوطان العربية؛ حتى تنشر لغاتها وثقافاتها. وأصبحت الإنجليزية في دول الخليج أشبه باللغة الوطنية في دور العلم والفنادق والبنوك والمؤسسات التجارية، والباشتون والهندي لغة الأسواق من المهاجرين الآسيويين. ولا تسمع العربية إلا لدى رجال الحكم؛ سكان البلاد الأصليين إذا ما تحدثوا بالفصحى دون لهجاتهم العامية.
هل تنشأ الهوية من الثقافة؟ هناك الهوية الإسلامية من الثقافة الإسلامية، وهو ما يربط المسلمين جميعا على اختلاف لغاتهم وأعراقهم وأوطانهم. وتشمل العلوم الإسلامية النقلية والعقلية: الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، والعلوم النقلية: القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، والعلوم العقلية الرياضية: الحساب والفلك والجبر والهندسة والموسيقى، أو الطبيعية: الطب والصيدلة والمعادن والنبات والحيوان؛ وهي العلوم التي ما زالت تربط جميع أرجاء العالم الإسلامي. وإذا كانت الدولة الإسلامية، مثل الإمبراطورية العثمانية، قد انتهت، فإن الثقافة الإسلامية ما زالت باقية، لها مخطوطاتها وجامعاتها ومعاهدها ومدارسها، وما زال طلبة العلم ينتقلون بين المعاهد الإسلامية الكبرى في الأزهر والقيروان والزيتونة، وما زالت الآثار الإسلامية يتوحد بها الجميع؛ وفي مقدمتها الحمراء في غرناطة ومسجد قرطبة، وخيرالدا إشبيلية، والمسجد الأموي، والجامع الأزهر قديما، وجامع الحسن الثاني بالرباط، وجامع كوالالمبور، وغيرها من المساجد الكبرى حديثا. وتشمل الثقافة العلوم والفنون والآداب، فما يربط المسلمين هو الإسلام؛ باعتبار لغته العربية لغة القرآن والثقافة الإسلامية.
والهوية أيضا مرحلة تاريخية تصف الشعوب بأنها متقدمة أو متخلفة أو في طريق النمو. إذا كانت الهوية ثابتة وأصيلة في الوجود، فإن مرحلة النمو متغيرة؛ من التخلف إلى التقدم مثل الدول الأوروبية، وكما حدث للحضارة الإسلامية في مرحلتها الأولى، منذ النشأة حتى ابن خلدون على مدى سبعة قرون أو من التقدم إلى التخلف، كما حدث في المرحلة الثانية في القرون السبع التالية بعد ابن خلدون؛ عصر الشروح والملخصات، الذي كاد ينتهي بفجر النهضة العربية الحديثة، الذي كان قد بدأ منذ قرنين من الزمان. فالهوية تأتي من المرحلة التاريخية لا من الانتساب الفكري أو الولاء الأيديولوجي. وقد كان العالم الإسلامي يصنف في الدول المتخلفة، والآن يصنف في الدول التي في طريق النمو أو النامية، والقليل منها مثل الدول المتقدمة مثل ماليزيا. فالهوية ليست ثابتة؛ بل متغيرة على الأمد الطويل، هوية تاريخية مثل غيرها من الهويات، هوية مفتوحة لا منغلقة، تقوم على التحدي والمنافسة لا على التعصب والكراهية. وفي الستينيات كان للعالم الثالث هوية واحدة؛ عدم الانحياز؛ الحياد الإيجابي، وهي الآن تعارض العولمة وأشكال الهيمنة الجديدة، وتبحث عن تعاون إقليمي؛ مثل دول جنوب شرق آسيا، ودول أمريكا اللاتينية. عندما أتى الإسلام صنع تاريخا جديدا للعرب ولشبه الجزيرة العربية، بل وللعالم القديم كله، وجعل العرب يرثون إمبراطوريتي الفرس والروم في أقل من قرن حربا شرقا وغربا، وسلما جنوبا في أفريقيا، وشمالا في أوروبا في العصر الحديث.
الهوية إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية واللغوية والثقافية. توجد قيم إنسانية عامة، مثل الحرية والعدالة، وافقت عليها الإنسانية على مدار التاريخ، مضمونها من داخلها من الفطرة والطبيعة، بلا حدود، ومع ذلك وجودية أرضية ، يحملها الوجود الإنساني ويحققها في الزمان والمكان؛ إذ تندرج الهويات في الخصوصية والعموم، ليست بالضرورة في خط رأسي بين الأدنى والأعلى، بل يمكن أن يكون في مسار أفقي بين الأمام والخلف. فطالما حاربت الشعوب من أجل الحرية والعدالة منذ سبارتاكوس حتى الربيع العربي، ومنذ المانوية حتى الماركسية. الفطرة واحدة منذ الخلق الأول، والعقل البديهي مغروز في النفس، وهو الذي خاطبه الوحي بقوله:
أفلا تعقلون ،
Halaman tidak diketahui